من سؤال عما إذا كانت الحضارة والفنون والعلوم قد حسّنت حياة الإنسان أم لا، انطلق المتداخلون في نقاش فعالية (الحضارة، الإنسان، الحرية) التي أقامها ملتقى فجرائيل للثقافة على صالة غاليري نقش، والتي تناولت آفاق أفكار فيلسوف التنوير جان جاك روسو (1712-1778)، وهو ذات السؤال الذي كان قد تلقاه الفيلسوف قبل ثلاثمائة عام، حيث أجاب عليه بالنفي وقتها. تناول حضور الجلسة النقاشية آثار العلوم والفنون والحضارة على الإنسان الفرد، ثم على المجتمعات البشرية بشكل عام، حيث ذهبت المداخلات في اتجاه يسعى للقراءة في جوانب التأثير (السلبي أو الإيجابي) أكثر من كونها إجابة محددة وواضحة عن السؤال.
ففي حين قال علي السلاطنة مدير الحوار إن حياة روسو القاسية، والتي عانى خلالها من قسوة السلطات الأبوية أو الدينية أو الاجتماعية، أثر عليه سلباً بحيث جعله يتجه ناحية التمرد. ذهب السلاطنة إلى أن وفاة والدته لدى ولادته، وطبيعة والده العصبية النزقة، ورحيله عنه في فترة مبكرة من حياته، ثم إرساله من قبل خاله إلى أحد الأديرة، والحياة التي عاشها هناك، إضافة إلى ماعاناه تالياً في حياته، جعلت روسو يقترب أكثر من الطبيعة أو يعود لها في أفكاره.
خالفه في ذلك حميد خنجي الذي أكد على أنه من غير المبرر إرجاع الأمر فقط إلى كون أفكار روسو كانت عبارة عن ردات فعل على الظروف الاجتماعية التي تعرض لها، مشيراً إلى أن ظروف مثل التي عانها روسو قد صنعت ديكتاتوراً ومجرماً في العراق هو صدام حسين، وقد تصنع شخصيات أخرى، مرجعاً الأمر إلى عدد من العوامل والمؤثرات، من بينها البيئة والعصر، والحراك الفكري في المجتمع الذي كان فيه، مؤكداً أننا لا يمكن أن ننجو من مثالية روسو لدى الحديث عنه، غير أن روسو وغيره من المثاليين، وحتى الميتافيزيقيين الذين ناقشوا أفكاراً لها علاقة بالمجتمع، كانوا هم المقدمة الموضوعية للثورة الفرنسية الكبرى التي حدثت تالياً.
وأكد خنجي على أن التقدم والعلوم والفنون لا يمكن أن تكون سلبية بحد ذاتها، إنما نتاجها من أساليب وأنظمة إدارة المجتمعات هي التي يمكن أن تضرّ بالمجتمعات ما قد يشي بسلبية ما.
وفي حين أكد جعفر الحايكي لدى إجابته على ذات السؤال على أن استخدامات هذه العلوم والفنون، أو الحضارة بشكل عام هي ما يمكن وصفها بصفات مثل الإيجابية والسلبية. ردّت شرف المزعل الأمر إلى العامل الزمني في وقت التعاطي مع تلك القيم، مشيرة إلى أنه عندما تكون المدنية بطيئة، والتغيرات الحضارية متراكمة بشكل زمني معقول، فإن الناس تتقبل هذا التغيير وتتعايش معه، وقد لا تشعر به بشكل ملموس، في حين أنها يمكن أن تصطدم بهذه التغييرات حين تكون المدنية متسارعة، وقد تنفر الناس منها أو تحاربها. وأشارت مزعل في جانب آخر إلى أنه يجب عدم إرسال الحديث بشكل عام، وإلى تخصيصه، حيث أن الأجيال الكبيرة عمرياً هي أكثر من يرفض التغيير، خلافاً للأجيال الشابة والصغيرة، وهي التي تقبل بهذا التقدم وهذا التغيير وتتعايش معه.
وأشارت المزعل إلى أن حاجة الشعوب والمجتمعات إلى فلاسفة هي التي تصنع هؤلاء الفلاسفة، حيث إنها تنهل من أفكار فلاسفة من معاصريها، أو قد تضطر للجوء إلى فلاسفة من عصور أخرى لمجاراة التطور والتقدم «الفكري والحياتي»، وتبعث فيهم الحياة، مدللة على ذلك بإحياء كثير من المجتمعات لفلاسفة وأدباء وفنانين كانوا مغمورين في زمانهم، لأن هذه المجتمعات رأت في فلسفتهم طريقاً ورؤية للانطلاق نحو آفاق أخرى.
كما ردّت المزعل كثيراً من أفكار روسو إلى تنشئته الريفية، معتبرة أن هناك كثير من الفروقات بين الشخصيات المدنية وتلك الريفية.
الحرية والربيع العربي
من جانب آخر، تناول المتداخلون جانب الحرية في فكر روسو، متعرضين أيضاً إلى ثورات الربيع العربي، وما إن كانت قيمة التنوير قد بدأت فعلاً بالدخول إلى بلدان العالم العربي، حيث أكد مدير الجلسة علي السلاطنة أن التنوير قادم للعالم العربي، وأن هذه «حتمية تاريخية»، وهو أمر أكد عليه كثير من الحضور، حيث أشارت المزعل إلى أن التنوير بدأ فعلاً، غير أنه يحتاج إلى مراقبة دقيقة في السلوك والأفعال والأفكار التي تحدث في بلدان الربيع العربي، مدللة على ذلك بالنظرة إلى المرأة، مشيرة إلى أن دخول المرأة في عمق الحياة السياسية في التيار الديني في العالم العربي، وتغير نظرة هذا التيار لها إبان الثورات العربية، يؤكد على أن ثمة تغير في هذه النظرة.
في حين ذهب بعض الحضور إلى أن هذا التغير جاء عبر «الضرورة» وليس «الحتمية»، أي أنه جاء عبر ضرورة مصلحية سياسية، وليس حتمية واعية لتغير دور المرأة، مشيرين إلى أن النظرة للمرأة قد تعود إلى صيغتها القديمة لدى الفراغ من هذه الثورات، وهو أمر حدث تقريباً في بلدان مثل تونس ومصر.
وفي ختام الندوة تناول الحاضرون قيمة الحرية لدى روسو، حيث أشار محمد درويش إلى أن إشكالية الحرية لدى روسو تكمن في عدة أسئلة من بينها تعريف الإرادة والرغبة لدى الفرد، ومدى تعارضها مع إرادات ورغبات المجتمع، في حين أكد حميد خنجي على مقولة كارل ماركس من أن المجتمعات تسير من مملكة العبودية إلى مملكة الحرية، وأن الطريق إلى الحرية لا يمكن أن يمر مع وجود الطبقات. جدير بالذكر أن هذه الفعالية خصصت للحديث بشكل عام، فيما سيقيم ملتقى فجرائيل فعالية أخرى تتناول أفكار روسو في كتابه «العقد الإجتماعي» يوم الثلثاء القادم (9 أكتوبر/ تشرين الأول) الجاري في المركز الثقافي الفرنسي «إليانس فرانسيز». ونشط ملتقى فجرائيل للثقافة مؤخراً، حيث أقام عدداً من الفعاليات، كان من بينها أمسيات شعرية لعدد من الشعراء البحرينيين والخليجيين، إضافة إلى فعاليات أخرى من بينها فعالية لتبادل الكتب المستعملة لاقت صدى طيباً، بالرغم أن الملتقى يقوم على جهد شخصي من بعض المثقفين البحرينيين الذين يحاولون الخروج عن نسق المؤسسات الثقافية المعتادة في إقامة الفعاليات، عبر اشتغال مختلف يسعى لتكريس قيم الحوار والنقاش.
العدد 3682 - الجمعة 05 أكتوبر 2012م الموافق 19 ذي القعدة 1433هـ
تصحيح,,
الفعالية الاخرى في المعهد الفرنسي بتاريخ 8 اكتوبر المصادف للاثنين