نبتعد قليلاً، ولو من باب المجاز الذي يقرب عقولنا وأجسادنا وأفئدتنا نحو عالم افتراضي، ليس خيالياً بمعنى الكلمة صادر من وحي الخرافات والأساطير، بل واقعاً ملموساً وموجوداً بين جنبات بلدان مختلفة، أبرزها ما هو القريب من موقع البحرين، هي مدينة دبي، تمثل عصب الحضارة، وملتقى الأجانب، وملهمة لكافة أحلام الأجنبي، ومحط عيونه في داخل هذه المدينة التي تقع بمنطقة الخليج العربي.
وإن كان هنالك مدن أخرى مماثلة موزعة على أركان الوطن العربي تحوي هذه المدينة بداخل مدينة، والأخيرة هي التي تخصنا ونوجز ماهيتها خلال هذه السطور التالية.
هي مدينة ليست بالمدينة الفاضلة وفق تصنيف أفلاطون، بل المدينة المختلفة والفاضلة في نظر من جاهد لتدشينها على أرض الواقع؛ كي يقوم الطفل بنفسه بالقيام بأعماله دون تدخل أو مساعدة من أحد أقربائه، وبالذات والديه المسموح لهما فقط برؤية طفلهما على مسافة بعيدة، ومن خلف الزجاج لا أكثر ولا أقل، ينظرون إليه كيف يتدبر ويقوم بممارسة عمله معتمداً على مدخراته العلمية والثقافية، كمرجعٍ يستقي منه طريقته وأداءه المنتج في العمل.
إذ يقوم الطفل بعدما يدخل في عالم هذه المدينة بجهودٍ فذة، كي يبرز فيها كل طاقته وسعة قدرته على إلمامه بفهم واستيعاب ظروف العمل، والحياة العملية وما تتطلبه من شروط ومعايير، بالرغم من أنها متاحة إليه تلك الشروط بصورة ميسرة وموجزة يقدمها نظام «عالم كيدزانيا للأطفال».
كيدزانيا للأطفال، هي مدينة ألعاب تضم مختلف المهن والأعمال التي يلتمسها الطفل من واقع حياته، أو التي لم يفقه معناها للتو، أو التي يراها دون أن يدرك مغزى وجودها إلا من خلال ما وقعت عليه عيناه من مبنى مشيد مماثل للمبنى الحقيقي في واقع الحياة، يحمل ذات المسمى سواء كان مبنى لمستشفى، أو محل لإطفاء الحريق (مطافي) أو صالون للحلاقة الرجالية، أو النسائية وتتحصل فيه الفتاة على كل مبتغاها في التعرف على صنوف صرخات الجمال في الشعر، والتنظيف، والتحسين، أو عيادة طبية، أو معمل لصنع منتجات الحليب، أو مرسم للفنانين، أو عيادة طبيب أسنان والكثير الكثير من الأعمال والمهن التي يبلغ مجموعها نحو 80 مهنة وعمل، والتي ربما لن تطرأ قط على بالك، كما أنه لن يصدقها عقلك.
إذ يتطور الأمر إلى أن تجد محلاً لعمل وصنع البيتزا مخول لطفلك أن يدخل إليه، ويتعلم منه طريقة عمل البيتزا بأدوات حقيقية حتى يخرج من المصنع وهو ماسك البيتزا بيده التي صنعها بنفسه، وبأنامله كي يتناولها، مع ضرورة تقديم عمل غسل اليدين بالماء والصابون قبل المبادرة بعمل البيتزا، إضافة إلى إلباس الطفل لباس صانع اليتزا، كل هذه الأجواء تجعل الطفل يعايش واقع الطباخ الصانع البيتزا، والأحلى من كل ذلك أن الفترة التي ينفق فيها من التعب والجهد ويمضي فيها بالوقوف لفترة تستغرق أحياناً 10 دقائق يحصل على قيمة عمله ألا وهو راتب ومال، إضافة إلى البيتزا الذي صنعها لوحدة مستنداً إلى إرشادات وتعليمات الشيف الطباخ ذاته.
ربما لن تتسع سطور هذه الوريقة ذكر كل المهن المعروضة في داخل هذه المدينة، التي هي عن حق تعتبر خطوة أولية ومقدمة تمهد للطفل لأن يفهم معنى الحياة العملية، بل يفكر جلياً كيف يأتي المال إليه يسيراً ملبياً له كافه احتياجاته الرئيسية والثانوية؟، ويظل يتساءل من أين يأتي المال الذي يأكل منه ويلبس من خلاله ثياباً ويشتري لنفسه ألعاباً؟ إلا من خلال جهد جهيد يقوم به الأم والأب معاً، اللذان يتعبان عليه، وبالتالي يدرك ويتعرف على قيمة الجهد، والطريقة المثلى في كيفية التعامل مع النقود وتدبير طرق استثمارها بالصورة المعتدلة التي تؤمن له قدراً مقبولاً من العيش البسيط مع الحفاظ على ًكبر قدر منه في داخل جيبه، كي يضمن ادخاره في الأوقات الحرجة والسوداء إيماناً بقاعدة «القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود»، كي يتسنى له شراء ما يحلو له مستقبلاً.
وهذا المال هو ذاته التي يقدم ويمنح للطفل ويتحصل عليه جراء قيامه بأية وظيفة داخل هذه المدينة كما أنه له الحرية في اختيار وانتقاء أية مهنة يريد أن يشغلها شريطة أن تتناسب مع عمر الطفل المطلوب قيامه بأداء هذه الوظيفة.
أولى شروط الدخول إلى مدينة كيدزانيا هي خطوات القيام وعمل فتح رصيد بنكي للطفل، وليس لكل طفل بل فقط الذين تتجاوز أعمارهم 4 سنوات وما فوق، فيما أطفال بأعمار 3 سنوات محصورة لهم المهن، فقط متاحة لهم ألعاب قليلة جداً فيما النصيب الأكبر يكون من حظ الطفل الذي يفوق عمره 4 سنوات.
هنالك بعدما تقطع تذكرة دخول والتي تكلف مبلغاً ليس باليسير، إلا أنها ليست خسارة بحق طفلك، طالما قد عقدت العزم على تنوير عقله بأهمية الحفاظ على المال، وجعله يفهم المعاناة والجهد - وإن كان أقل بكثير من الجهد الحقيقي الذي يبذله الوالدان في الكفاح والنضال والسعي الدؤوب وراء لقمة العيش الحلال وتوفير حياة كريمة - طالما كانت هنالك نية معدة سلفاً لتلقين الطفل وتعليمه ليكون أكثر نضجاً في فهم ماهية ومعنى العمل؟ وكيف يتم من خلاله أن يتحصل؟
على راتباً جراء ذلك الجهد المبذول لعمل مهنة ما أو إتقان صنع عمل ما، أو أداء وظيفة تقدم منفعة وتخدم الناس في المقابل تجد أن الطفل واقع بين شيئين، الادخار، والإنفاق؛ فيجد نفسه الطفل وسط عالم استهلاكي متوافرة فيه كل ملذات وإغراءات الحياة داخل المدينة المتكاملة ومتاحة له مناحي الترفيه أو المعرفة أو إشباع حاجة الأكل والشراب، فمن ناحية الترفية ترى هنالك الصالون الذي يستطيع الطفل أن يتحصل على خدمة من العمال بجودة راقية في عمل له ماكيير على سبيل المثال، ولكن شريطة أن يدفع قيمة تلك الخدمة، وبالتالي أن الجهد الذي يبذله الطفل في ادخار الراتب يقابله إنفاقه في مجال آخر حتى يبدأ الطفل يخوض عملية حسابية ذهنية ما بين المال الذي استجمعه وما بين المال الذي سينفقه ويدخل في المفاضلة ما بين الأهم والأقل أهمية؟!
إذ إنه لن يغامر بإنفاق المال بسهولة جراء التعب الذي بذله في تحصيله إلا في الشيء المهم والضروري خاصة أن الطفل في نهاية المطاف له هدية تبدأ بقيمة عددية محددة لا تقل عن 100 كيدزانيا -اسم العملة المتداولة تسمى كيدزوني- إذ كلما ظفر الطفل على أكبر قدر من المال كانت فرصته متاحة لانتقاء أكبر هدية متوافرة في محل الهدايا، وكلما كان المبلغ الذي بحوزته قليلاً كانت فرصته للحصول على هدية صغيرة ممكنة، لذلك الطموح الذي يضمره الطفل في نفسه هو السعي الدوؤب والعمل الطويل لأجل توفير لنفسه أكبر هدية متوافرة داخل المحل ولك الحرية في أن تمضي وقتاً طويلاً.
عساه أن يكون يوماً كاملاً بداخل هذه المدينة بدءاً من ساعات الصباح الأولى حتى وقت متأخر من الليل، لا يوجد وقت محدد كي تتقيد به بل مفتوح لك طوال اليوم، وتحتوي على دورات مياه ومصلى ومطاعم حقيقية تسنح للطفل أن يدخل فيها كي يتعلم طريقة عمل الوجبة المقدمة إلى الزبون ويشارك في صنعها بل يأخذها إلى الزبون - مجسداً عمل الجرسون- المنتظر لوجبته على الطاولة في المطعم.
العدد 3828 - الخميس 28 فبراير 2013م الموافق 17 ربيع الثاني 1434هـ