العدد 1519 - الخميس 02 نوفمبر 2006م الموافق 10 شوال 1427هـ

السقوط الأخير

خالد فتى مفتول الجسم، حباه الله بساعدين قويين وبجسد يزدهي بالصحة والعنفوان... كثيراً ما أعطى المرآة قسطا من وجهه ووقف يستعرض مواهب ربه في كتلة جسمه، المرآة قديمة أكل الصدأ نصفها لكنها لم تتوان في إظهار ما تتوق له نفسه من كمال في جسده، يبحث في الأجزاء الصالحة منها عن مواطن الغرور في قوامه، ويغرق في مخاطبة ذاته المريضة بنعوت التفخيم، ويبني على أوهامه آمالا عريضة.

هذا العام هو الثاني بالنسبة إلى اشتراكه في حملة صيادي اللؤلؤ، هو الآن يتجهز ليغادر غدا برفقة ثلة من فتيان محلته... قضى في العام الفائت أوقاتا ظافرة أبرز فيها أمام طاقم السفينة استعدادا تاما للصمود أمام مخاطر البحر المخيفة، وأبدى مساحة واسعة من تحدي المستحيل مستعينا بجسده الممتلئ نشاطا وقوة، ولازالت حوادث الرحلة الماضية تنبض في دماغه... قفزات جريئة عرض البحر العميق وغطسات يسلم فيها الروح في فم الأخطار ممتدة في أعماق لا قرار لها بحثا عن محار تتفتق أصدافه عن لؤلؤ يصبح غنيمة غاز غزى الأعماق بحثا عن مجهول يسر به.

تبتهج نفسه عند مروره على الفائت من رحلته الماضية، وتنتفخ أعطافه عجبا وهو يتذكر صعدته على السفينة بشبكة تغص بالأصداف الكبرى، وتارة يتشكل اللؤلؤ المفرغ من الأصداف إلى عقد ينتظم في عنق فتاة غيداء يسرح خياله في جمالها مكللة بعقد لؤلؤه النادر، ولازال الشيطان يعبئ الوساوس في صدره ويزين له الفاحشة ويلبسها أجمل الأوصاف خادعا له ومزخرفا له الباطل بالحسنات المزيفة.

انفلق الفجر عن صباح تنعش نسماته القلوب بطراوتها وهب خالد يعد ما يحتاج له في رحلته وخرج من بيته مع خروج الشمس من مغيبها، وراح يلتقط أصحابه من بيوتهم صاحبا صاحبا حتى اكتملت عدتهم... غدت خطاهم تقطع الممرات الضيقة في القرى بين النخيل وأشجار اللوز تصاحبهم الأحاديث الجانبية والبسمات وكثير من الهزل الخفيف، يعبرون بالقرب من غدران تجري المياه بها كجريان الفرس في الصحراء الممتدة. عند اقترابهم من أحد الغدران رأوا فتاة منفردة جالسة على الغدير مشغولة بغسل الثياب، ولها صوت رقيق ترسله بأهازيج مفرحة جعلتها رفيقتها في عزلة تقتضي صاحبا، مر الفتية وما أعادوا النظرة الثانية على أعراض الناس، ويحجزهم عن ذلك خوف من الله... ولكن عينا من بينهم راحت تقتنص الغفلة من عيون الفتية وتكبد الكرة نظرة تلو نظرة، وكان الشيطان من ورائها متربعا على رأس صاحبها يمده بالتشجيع ولا يمل من عرض الإغراءات في صور متنوعة.

جاشت الوساوس في صدره يحفزها الغوي الرجيم بإعادة الصورة كلما خبت وحاول التنصل من شره والتفكك من وثاقه من دون فائدة، حتى استولى على كامل حواسه وانتصرت نية السوء على كل بادرة خير في تركيبته.

الفتية سائرون في طريقهم إلى مرسى سفينتهم، لا يعلمون بما يعتمل في نفس صاحبهم خالد... هو يبحث عن حجة ترجع به قليلا عن أصحابه كي يعود للفتاة، سدده الشيطان أخيرا واخترع له عذرا... تعلل بنسيانه شيئا ما، لابد من العودة سريعا لجلبه، أقنع رفقاءه بمواصلة دربهم فسرعان ما يلتحق بهم، وطار به الشيطان يشحنه بالأمنيات الزائفة وينفخ في قدرته، يعصر الصعوبات ويريقها تحت أقدامه.

عاد إلى الغدير سريعا خطوتاه تتسابقان في إلقاء الطريق خلفهما، ومازالت الفتاة جالسة عند الغدير تغسل أثوابا ازدحمت الألوان فيها... السكون تجرحه أصوات البلابل تارة، وتارة حفيف الشجر في غياب من أصوات البشر إلا من صوت فتاة بريئة اليد تترنم على ضفة غدير يعدها بعدو يعكر صفو عذريتها.

خلف النخيل توارى يرصد المكان مرة أخرى، لعل هناك من لا يرى شخصه، وشهوة السوء كصخرة منحدرة من علو شاهق لا يمكن الوقوف بطريقها... وعندما حانت ساعة السقوط اندفع ساعداه والتفا على الفتاة بينما كفه تصادر أنفاسها من فمها، قاومت الفتاة بما أوتيت من عفاف، وزرعت أظافرها في صفحة وجهه وفي مواقع كثيرة من جسده ولكنه كان أقوى على مقارفة الجريمة.

وما سكنت الحركات إلا والشيطان محمر الأوداج، بعد أن أنهى الفتى خالد إعتداءً وحشيّاًعلى عفاف بريء وانسحب يجر أذيال الرذيلة خلفه... وصوت بكاء الفتاة يلاحقه ويتبعه بدعوات من قلب رقيق أصيب في مقتل... صوتها يلاحقه... إذهب أيها السافل، أسأل الله أن يوقعك فريسة لمن لا يعي للرحمة معنى حين لا تجد للاستغاثة نفسا.

غادرها وخنجر الغدر يتنقل بين أحاسيسها، ولم تجد في البكاء ما يبرأ غليلها وإنما وجدت أملا في بضع دعوات رمته بها في أعقاب انصرافه عنها... شعرت بأبواب السماء مفتحة تستقبل دعواتها، تسمع من أمها كثيرا قولها: ما بين السماء والأرض دعوة المظلوم... الآن دعوتها انطلقت من ألمها فوق الأرض إلى أعلى عليين في السماء، تنتظر انتقاما ممن لا يفوته ظلم ظالم... راحت ترثي شرفها المغدور بين أفياء النخيل المثمرة والماء الجاري بين الضفتين وبكائها، كانت في ضفة فنقلها القدر إلى ضفة أخرى، ولكن لا ترى منها الضفة الأولى، هشم في أنوثتها عفافا تعتز به الفتيات الطاهرات، يرتدينه بفخر وشمم أمام الناس، كل الناس... قدرها اليوم سلبها ثوبا لا ينسج في حياة الفتاة إلا مرة واحدة لا تعود مهما تغيرت الظروف.

هذه النخيلات محظوظات في عيشتهن، إن تطاولت يد على عذوقهن فلا لوم ولا ريبة تنالهن ولا بأس على مستقبل ثمرهن... لكننا نحن الفتيات تبقى ذنوب سوانا تلاحقنا حتى فوهة القبر... ولعل القبر لا ينسي العقول اجترارنا عند مرور ذكرانا سهوا... تلتفت إلى الماء اللامع في مجراه وتداهمها الخواطر، ياترى يا غدير لو تسنى لك البوح بأسرار ما مررت به من حوادث وخطوب... هل طرقت ضفافك لحظات أمر على الفؤاد من لحظاتي الفادحة السالفة... وتستمر المياه في خريرها المتواصل تلاحق السكون بتدفقاتها ولا تجد في المكان جوابا يخفف من وجعها ولا مواساة تنتزع الشوك من أوردتها وشرايينها.

قفل خالد راجعا إلى رفقائه يحمل فوق ظهره ذنبا غرر به الشيطان وصوره حملا خفيفا... لم يستطع إخفاء الخط الممتد من عينه اليسرى متعرجا حتى فتحة فمه والدماء لاتزال طرية على جرحه العاهر، حاول إغفالهم عن جرحه ولكن أنى له ذلك وفي الوجه محط العيون والجرح أوسع مساحة من أن يخفى... بنزعة العفاف نزعت طبقة جلده العليا من وجهه وأجرت دماءه كما أجرى دماء شرفها... كما لم يتمكن من إخفاء ما جناه على نفسه لم يتمكن شيطانه من تزيين بقية العمل، اختلق عذرا واهيا من سلة أكاذيبه برر به جرح وجهه القبيح، وألم جرح آخر في ذراعه اليمنى. جرحان مازالا يسيران به إلى إثبات دناءة سلوكه حينذاك.

صعد الجميع على ظهر سفينة الغوص وانطلقت بهم تكابد أمواج البحار المتقلبة، وتقطع طريقا مخبأ بالأقدار الغامضة على مدى شهور متتالية... الأمواج تنقض تارة وتتهاوى أخرى في تكرار مستمر وإنما لون البحر يتبدى لأعينهم حسب أعماقه المتفاوتة، كانت مياهه يطفح في سطحها الاخضرار ثم تعلو الزرقة حتى تتناهى إلى السواد الفاحم كسواد الليل وعندما تغرب الشمس ويحل الظلام تكون سفينتهم بين ليلين أسودين، ليل من تحتها وليل من فوقها... وليس إلا أيام وتستقر السفينة في مقر ما تترجى فيه استخراج غنائمها.

وعلى سكون سطح البحر كان النهام يؤدي بصوته نوعا من فنون البحر الممتدة امتداد مياهه... كان الغواصون والعاملون على السفينة يأنسون بالصوت الرخيم ويعوضون به تبريح فراق الأحبة والبعد عن الديار والاحتجاب عن رؤية الأعزة المغيبين خلف هذا البحر اللجي... ومع بروز الفجر باكرا يبرز الغاصة من أسرتهم المتواضعة المنتثرة على ظهر السفينة لتأدية صلاة الفجر والتعجيل بتناول إفطارهم والتهيؤ للبحث عن رزق يرقد في أعماق الأخطار ويندس في جوف الأصداف المتحصنة بأعماق قصية... وهكذا يتهيأ الغواصون لقذف أجسادهم في جوف البحر المترع بالكنوز المودعة في أقصى أبعاده.

تهيأ خالد وأصحابه الغاصة بمعدات غوصهم مصطفين على حدود السفينة وراحوا يلقون أجسادهم واحدا تلو الآخر عبر الأعماق و»السيب» على ظهر السفينة ممسك بطرف الحبل ينتظر أدنى إشارة من الغواص الغاطس في الأسفل كي يسحبه بأقصى ما أوتي من قوة للأعلى، راحوا يذرعون قاع البحر بحثا عن أصدافه المندسة خلف المرجان والمتوارية بين طحالبه الكثيفة.

أما خالد فكانت الصور الغائمة لا تفارق عينيه، يرى صورا مقتضبة لما جناه آنفاً تداهم غفلته كلما فترت يقظته، لكنه تحامل على الصور وأبادها مستعيناً بوسائل الشيطان من تزيين وطول أمل وتناسي... وها هو يصطف مع أصحابه على أهبة الغطس إلى جوف البحر، ألقى بجسده المفعم بالعنفوان إلى باطن المياه وغاب عن أنظار مراقبيه من أعلى السفينة وتوالى الحبل يرفده على التعمق في أحشاء القاع... كانت الحياة ممتدة له على امتداد الحبل كالطفل يرفده الحبل السري بما يحتاجه لفترة وجوده في أحشاء أمه.

استطاع التقاط بعضا من المحار عندما شارفت أنفاسه على النفاد، وانسحب من القاع دافعاً الماء برجليه صعوداً للأعلى، وكأنه لم يكن إلا في حلم حين تفاجأ بقرش ضخم يشق المياه باتجاهه... بأية سرعة يتلافى الوقوع بين أنيابه، وبأية طاقة يسبقه، جمّدت حواسه الدهشة وكان القرش أسرع إلى هدفه من كفه إلى حبل الإنقاذ... كان فكاه مطبقان في ذراعه وفي الجرح السابق ذاته، حينها عاد به الزمن إلى جنايته فوق الغدير.

انفصلت ذراعه من جسده وتعكرت المياه باللون القاني من دمائه، أيقن خالد بالنهاية المحتومة بين فكي من لا تجيد لغة الرحمة فكاه... مرت في مسامعه كلمات الفتاة حين غادرها وهي تدعو مستعدية السماء عليه... «إذهب أيها السافل، أسأل الله أن يوقعك فريسة لمن لا يعي للرحمة معنى حين لا تجد للاستغاثة نفساً»... أدرك أن دعاءها كان مستجاباً حين عاوده القرش مفترساً... وعاد الحبل للأعلى بعد طول انتظار فارغاً من صاحبه إلا من آثار دماء قانية ملتصقة بالحبل وببعض من بقايا ذراعه قابضة على حبل لم يهيئ النجاة حين لا نجاة من دعوة مظلوم استجابت لها السماء.

قصة - عبدالشهيد الثور

العدد 1519 - الخميس 02 نوفمبر 2006م الموافق 10 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً