تمر منطقة الشرق الأوسط بأدقِّ لحظة في تاريخها، وتفجّر أشباح العنف الطائفي في العراق وخطر التقسيم لبلاد الرافدين مخاوف عميقة بين شعوب المنطقة. ولا يبدو لبنان قريبا من الهدوء، ناهيك عن الاستقرار، بل المرجَّح له مزيد من التوتر. ووسط هذا كله فإن نقطة ضوء تجيء هذه المرة من فلسطين، إلا أن الضوء خافت وإن كان يمكن أن يفتح الطريق لتسوية بعد التهدئة. ..
هذه أجواء المنطقة التي تعبت من كثرة بؤر التوتر فيها، ومن هنا كان الحوار الشامل- الذي تنشره صحيفة «الوسط» اليوم اتفاقاً وبالتزامن مع صحيفة «البيان» الإماراتية- مع وزير خارجية فنلندا رئيس الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي إيركي توموجا. ويكتسب الحوار أهميته، ليس من كون بلاده تسيِّر أمور الاتحاد فقط، بل لأن الرجل صاحب أدوار مهمة في القضايا العربية، وهو أحد أبرز الذين ينتقدون «إسرائيل»، ما أثار العواصف ضده ولاتزال... فقد أغضب «إسرائيل» وأنصارها عندما قارن سياسات القمع الإسرائيلي بالسياسات النازية. وهنا نتوقف معه لمعرفة رأيه في قضايا العراق ولبنان وسورية، والتسوية السلمية، وإيهود أولمرت، وملف «إسرائيل» النووي، و «إسرائيل» الدولة الاستثنائية، وموقف أوروبا من تركيا والمهاجرين المسلمين. ولم يخذلنا الرجل، إذ أفسح صدره ووقته وتكلم بلغته الصريحة، ووضع نقاطا كثيرة فوق الحروف:
*هل ترى فرصة حقيقية لتسوية سلمية للمأساة الفلسطينية؟
- ليس هناك حل آخر غير التسوية السلمية، وهذا أمر واضح للغاية. ولكن سؤال: متى وكيف سنحصل على هذه التسوية هو «الأمر المفتوح»! والموقف الآن أكثر تشجيعا مقارنة بما كان عليه منذ فترة بعيدة، فنحن لدينا الآن وقف لإطلاق النار واحتفالات تبادل الأسرى وحكومة فلسطينية جديدة (حكومة وحدة وطنية). هذه الأمور كلها فتحت الطريق أمام العودة إلى خطة خريطة الطريق، وطبعا لابد من تحديثها، لكن الحل الخاص بإقامة الدولتين جرت إعادة التأكيد عليه من الجميع. وهذه هي الرسالة المهمة للغاية التي صدرت عن مؤتمر وزراء خارجية الدول الأورومتوسطية في تمبري بفنلندا.
*هل تعتقد أن «إسرائيل» راغبة حقا في السلام؟ وهل هناك فعلاً شريك للسلام يمكن الوثوق به على الجانب الإسرائيلي؟
- هذه في الواقع هي المشكلة على كلا الجانبين نظراً إلى أن الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي أجابا بصورة دائنة أنهما يريدان السلام، وأنهما يحتاجان إليه. ولكن لا يجدون الإجابة التي يمكن الوثوق بها من قبل القادة سواء من داخل معسكرهم أو معسكر الطرف الآخر. وهذه قضية في «إسرائيل» وتتعلق بمدى قدرة الحكومة الإسرائيلية حقيقة على الوفاء بهذه المطالب، أي الرغبة في السلام.
*هل تعتقد أن إيهود أولمرت راغب في السلام حقاً، والأهم قادر على صنع السلام وإقناع الرأي العام الإسرائيلي بقبول الصفقة التاريخية؟
- سأبدأ بالجزء الأخير... إن «القادة الأقوياء» الذين يحملون في أيديهم «تسوية جيدة» توفر الأمن الذي تحتاجه «إسرائيل»... أعتقد أن الرأي العام وهيئة الناخبين الإسرائيلية ستقبل بهذه التسوية، إلا أن السؤال الحيوي يتعلق بما إذا كانت الحكومة قادرة في الواقع على التفاوض بشأن هذه التسوية.
ولكنني أعتقد أن إيهود أولمرت هو أيضا كان عليه أن يتعلم درساً من خلال هذا الصراع، وهو أنه لا يوجد حل عسكري أو منفرد لهذا الصراع. وأحسب أن خطابه الأخير كان مختلفاً بصورة جوهرية عن أي خطاب سبق له أن ألقاه، أو أنا على دراية به. ولذلك فإنني أرى أن ثمة تغييراً حدث له، إلا أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ضعيفة للغاية، وهذه هي المشكلة التي نعلمها جميعاً!
*ما السر في تغير اللهجة الإسرائيلية؟ وبصراحة فإن البعض - بل ربما كثير من المتشككين - في العالم العربي يرونها «لهجة زائفة»!
- حسن... هذا يجب أن يتم إثباته من خلال «الأفعال المحددة» على الأرض، أي تقدم في عملية السلام. هذا هو «الاختبار الوحيد». ومن الواضح أنه مع «وقف إطلاق النار» ثمة مؤشرات جيدة منها أن الجيش الإسرائيلي لم يرد على استفزازات منفردة، وعلى الجانب الفلسطيني أيضا فإن «حماس» ملتزمة بوقف إطلاق النار، ونددت بهؤلاء الذين أطلقوا بعض الصواريخ. ومن ثم فإن هناك جهداً حقيقياً على الجانب الفلسطيني للحفاظ على وقف إطلاق النار، وأعتقد أن «إسرائيل» في هذه اللحظة ترد بالطريقة المناسبة بعدم السماح لبعض الأفراد بتقويض عملية السلام. ولكن نحتاج إلى المضي قدماً في هذا الطريق... ولكن رداً على سؤالك: هل هناك تغيير؟ نعم! لأن الخبرة أظهرت بوضوح مرة أخرى أنه لا يمكنك أن تحقق الأمن من خلال القوة العسكرية أو الأعمال الأحادية الجانب بمفردها.
*هل تعتقد أن النخبة العسكرية والسياسية الإسرائيلية تعلمت شيئاً من درس لبنان الأخير؟ وما هو؟ وما هو تعليقكم على الأنباء القوية التي تتردد بأن «إسرائيل» تستعد لجولة ثانية من القتال في لبنان؟
- بالنسبة إلى الجزء الأول أعتقد أنني أوضحته، أما فيما يتعلق بالجزء الثاني من السؤال: «هل يستعدون للحرب»؟... فهذا بالضبط ما يفعلونه، وهذا شيء مشروع (أي الاستعداد لما قد يحدث). وليس هناك أي شك أو تساؤل عن قيام «إسرائيل» بالاستعداد، أو الحفاظ على جاهزية قواتها المسلحة، ولكن عليها أن تستخدم هذه القوات من خلال «ضبط النفس» والقيود والحكمة، وللأسف هذه لم تكن الحال في كثير من الأحيان.
*البعض يقول إن «إسرائيل» والولايات المتحدة ترغبان في استغلال لبنان لشن حروب على أرضه ضد أطراف أخرى مثل إيران وسورية، وبهذا المنطق نفسه ليست هناك نهاية وشيكة للملف اللبناني...
- ربما يكون هناك بعض الأفراد أو حتى أعضاء داخل الحكومة الإسرائيلية الذين يفكرون بهذه الطريقة، إلا أنني لا أعتقد أن هذا هو خط الحكومة الإسرائيلية.
*ألا تعتقد أن هذه حال تعكس تفكير الحكومة الإسرائيلية؟
- أعتقد أن الأرجح أن جماعات أو أفراداً يفكرون بهذه الطريقة، إلا أنني لا أرى مؤشرات إلى أن ذلك هو سياسة الحكومة الإسرائيلية الآن.
*هل تعتقد أن خروج سورية من لبنان ساهم في استقراره؟
- الأمر الأول هو أن ليس هناك خروج فعلي لسورية من لبنان، ما حدث هو الخروج الرسمي (يقصد انسحاب القوات السورية). إلا أن «مسئولية سورية» عن الاغتيالات وافتقار لبنان إلى الاستقرار... هي كلها أسئلة مفتوحة! ويتعين علينا النظر بعمق لنرى هل سورية فعلاً ملتزمة باحترام قرار مجلس الأمن رقم 1701، ونحن نشعر بالقلق العميق بشأن الموقف الراهن في لبنان.
*كيف تفسر السرعة الكبيرة في توجيه الاتهام لسورية في كل مرة يقع فيها حادث اغتيال في لبنان، وذلك بالنظر إلى عدم وجود أي قرائن قوية لدى المجتمع الدولي على التورط السوري؟ وهل تعتقد أن دمشق بهذه الحماقة، ولو فرضنا جدلاً أن بعض العناصر السورية تورطت، فهل هي من الغباء أن تعيد الكرة مرة أخرى؟!
- أتمنى ألا يكون الأمر كذلك (أي التورط وتكرار عمليات الاغتيال)، وأعتقد أنه لا يجب أن يعيد أحد الاتهامات من دون أدلة. إلا أن هناك حقائق تؤكد أن سورية فعلت ذلك في الماضي (أي عمليات الاغتيال)، أو على الأقل أن بعض العناصر مسئولة عن عمليات اغتيال. وهذا هو ما يجعل الأمر مفهوماً، لماذا سورية «المشتبه فيه الرئيسي» عندما تحدث عملية اغتيال؟!
*إلا أن «إسرائيل» فعلت ذلك أيضا في الماضي...!
- نعم... إلا أنهم ليسوا في هذه الحال، لقد شاركت «إسرائيل» في عمليات قتل خارج النظام القانوني وهو ما يجب التنديد به، كما أنه لم يكن أبداً مقبولاً.
*كيف تقيم تجربة الرئيس بشار الأسد في الحكم؟ هل ترى أنه كان قادراً على تغيير بعض الأمور في سورية مقارنة بوالده الرئيس الراحل حافظ الأسد؟
- يبدو لي أنه يسيطر بقوة على مقاليد الأمور في سورية على أي حال. ومن ثم فهو إذا أراد فلديه المسئولية والإمكانية لإحداث الإصلاح وتطبيقه في سورية، ولعب دور بناء في عملية السلام بالشرق الأوسط ولبنان. وإذا لم تتعاون سورية فإنها يمكن أن تقوم بدور المعوق، ولذلك فنحن في الاتحاد الأوروبي منفتحون، وقد سبق لي أن التقيت وزير الخارجية السوري في عدة مناسبات، وأقول للسوريين: قولوا الشيء الصحيح، إلا أن الأمر المفتوح على مصراعيه هو ما إذا كان سيفعلون الشيء الصواب. وفي الوقت ذاته، يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن تغيير موقف «حماس» ووقف إطلاق النار الذي جرى دعمه من قبل القادة الفلسطينيين في دمشق... ربما لم يكن ليحدث لو أن سورية عارضت ذلك.
*هذا يقودنا إلى ما اصطلح على تسميته «الحكام الجدد» في العالم العربي، مثل الرئيس السوري بشار الأسد والملك عبدالله الثاني في الأردن، والملك محمد السادس في المغرب. هل ترى أنهم تمكنوا من الإصلاح، أم أن الرياح المعاكسة في الشرق الأوسط كانت أقوى منهم؟
- مثلما كان الأمر دوماً فإنه يتعلق بخطوات إلى الأمام وأخرى إلى الخلف، كنت أتمنى أن أعتقد بأن سورية شهدت خطوات أكثر إلى الأمام منها إلى الخلف، لم يكن هناك أبداً تقدم واضح للغاية، فقد كانت هناك مناسبات ظهر فيها أن الإصلاح «راوح مكانه». وعموماً فإن الموقف في الأردن والمغرب تحسن.
*لابد أن يقودنا الحديث إلى العراق... هل توافق رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير على أن حرب العراق كانت كارثة؟ إذا كان ذلك صحيحاً فمن المسئول؟ ومن الذي أخطأ التقدير؟ ومن الذي قادنا جميعاً عن عمد إلى هذا الموقف البائس في العراق؟
- لقد كانت خطأ، وليس هناك أي تبرير للذهاب إلى الحرب ضد العراق. ونحن جميعاً ندفع «ثمن» هذا «الخطأ الفظيع». وحرب العراق كان كارثة. أما فيما يتعلق بالموقف اليوم... فان علينا جميعاً أن ندعم «وحدة العراق» والديمقراطية هناك، إنها عملية صعبة ولا يمكن أن تتم من خلال الوسائل العسكرية.
*هل تعتقد أن أيا من الأسماء أو الرؤوس الكبيرة في الغرب: سواء في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو استراليا أو إسبانيا ستتم محاكمتها جنائياً بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية عما حدث في العراق؟
- هذه الدول جميعها «ديمقراطيات» وستدفع الشخصيات المسئولة وسبق أن دفعت «الثمن السياسي»، وهذا ما رأيناه في انتخابات الكونغرس الأميركي.
*إذاً، لن يكون هناك أكثر من عقاب «صندوق الانتخابات»...
- اذا كان هناك أناس «مذنبون بشدة» لارتكابهم جرائم حرب فيجب أن تتم محاكمتهم، إلا أن هذا أمر مختلف. نحن هنا أمام «أخطاء سياسية» لها «عواقب إنسانية فظيعة»!
*هل تعتقد أن سيطرة الولايات المتحدة على النظام الدولي أمر جيد، أم أن ذلك الخلل مسئول عن المغامرات الكثيرة ومآسٍ أكثر؟
- أعتقد أن الأميركيين «بالغوا» في حساب قوتهم وقدراتهم على التأثير على الحوادث، واعتمدوا على أسلوب المعالجة أحادي الجانب، وعلى الوسائل العسكرية المنفردة. لهذا لا يوجد اليوم حل عسكري في أفغانستان، كما أن المجتمع الدولي فشل في تحقيق الديمقراطية والأمن لأفغانستان.
إن كسب «الحرب التقليدية» ضد دولة صغيرة هو الجزء الأسهل، والمرء عليه ألا يتورط في مثل هذه الحرب من دون تبرير من القانون الدولي أو من دون تفويض من الأمم المتحدة لمثل هذه الأفعال (أي الحرب). كما أن المرء عليه ألا يقدم على مثل هذه الأفعال من دون الاستعداد لجميع العواقب، والاحتياجات الخاصة بإعادة البناء عقب ذلك.
*هل تعتقد أن العراق فعلا في حال حرب أهلية، ويتجه إلى التقسيم لثلاث دول؟
- إن هذا Samantic إنها تبدو فعلا كأنها حرب أهلية مع استثناء وحيد يتعلق بمن هي الأطراف المتورطة! فعادة في الحروب الأهلية فإنك تجد «الطرف أ» و «الطرف ب» يخوضان حرباً ضد بعضهما بعضاً، إلا أن ذلك ليس أمراً واضحاً في العراق.
*هل يتجه العراق إلى التقسيم؟
- أنا لا أعتقد أن التقسيم أمر لا مفر منه، لكن إذا لم يتحسن الوضع في العراق فإن المحصلة يمكن أن تكون «التقسيم».
*هل تعتقد أن الأمور ستصبح على ما يرام بمجرد خروج القوات الأميركية والقوات الأجنبية من العراق؟
- لا... لم أعد أؤمن بذلك. إنها قد تغير الوضع إلى حد ما، إلا أنه من غير الواضح أنها ستتغير إلى الأفضل.
*ما الدروس التي يجب علينا أن نتعلمها من حرب العراق؟
- أعتقد أن هذه الدروس جرى استخلاصها فعلاً في الأمم المتحدة، وخصوصا فيما يتعلق بمفهوم المسئولية عن الحماية وشروط التدخل الإنساني... هذه جميعاً جرى توضيحها، والجميع يحترم هذه المبادئ. ووفقاً لهم فإن ذلك عُمل فعلاً.
*هل يجب علينا التخلي نهائياً عن الأمم المتحدة بسبب عجزها وفسادها؟
- إن الأمر لا يتعلق بالأمم أو الدول بل بالناس، وكيف جرى تلبية احتياجاتهم وتوفير الأمن لهم. إذا كانت الدولة غير قادرة أو غير راغبة في توفير حقوق الإنسان لمواطنيها، فإن ذلك يفرض على المجتمع الدولي مسئولية أن يتدخل!
*لكن الأمم المتحدة لم تستطع منع الولايات المتحدة من شن الحرب على العراق، ولا توجد ضمانات بشأن قدرتها على وقف واشنطن من قصف إيران...
- هذا الدرس الذي يجب أن نتعلمه من العراق، وهو أن الحرب ليست الطريق الذي يمكن للمرء أن يحقق من خلاله أي أهداف... على أي حال، فإن مسألة العراق جرى فيها الذهاب إلى الحرب على أساس ادعاءات زائفة سواء بشأن الإرهاب أو أسلحة الدمار الشامل.
*هذا يقودنا إلى أوروبا... هل هي غير قادرة أم أنها شريك للولايات المتحدة في كل ما حدث، وتتحمل المسئولية معها عما حدث وما سيحدث في العراق؟
- إلى حد ما فإننا كدول أوروبية لم نتمكن من أن نكون موحدين إلى حد ما، أو أن تكون لنا «سياسة واحدة» فيما يتعلق بهذه المسألة (يقصد الحرب)، والى حد ما نحن مسئولون. وأوروبا لم تكن مشاركة في الحرب، ولم توافق عليها. وإذا ما نظرت إلى عملية السلام، والحرب ضد لبنان في الصيف الماضي فإنني اعتقد أن الاتحاد الأوروبي ارتفع إلى مستوى مسئولياته.
*دعني أكون صريحاً معك، ان البعض في المنطقة التي أنا قادم منها يعتقد أن «أوروبا الموحدة» هي «فانتازيا سياسية» أكثر منها حقيقة على المسرح الدولي...
- لا أعتقد أن ذلك حقيقة، نحن أبعد بكثير من امتلاك ذلك النوع من القدرة والتأثير الذي نتوقعه لأنفسنا أو تتوقعه بقية العالم من أوروبا في مجالات عدة، إلا أننا على مدى السنوات وخصوصاً القليلة الماضية تمكنا من ممارسة تأثير ايجابي بصورة اكبر، والارتفاع إلى مستوى التوقعات مقارنة بالماضي. وحتى فيما يتعلق بالشرق الأوسط فإننا موجودون على الأرض، ودورنا في منطقة الحدود عند رفح، والمساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني. هذه أمور جرى تقديرها من الجميع.
*هل الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً حتى تتحول أوروبا من دور «دافع الشيكات» إلى لاعب حقيقي فوق المسرح الدولي؟ وهل هي حقيقة أن الأميركيين يشترون بعض الدول الأوروبية للخروج عن الخط؟ وتحت أي ظرف يمكن أن تقول أوروبا «لا» صريحة مدوية للولايات المتحدة؟
- إن ذلك ليس أمراً مطلوباً لذاته (أي قول: لا)، إلا أن العراق كان حالا على ذلك، وقد جعلنا موقفنا في غاية الوضوح. وأنا لا أعتقد أنه أمر صحيح أن الأميركيين يشترون بعض الدول الأوروبية. فيما أعتقد أنه لأمر ذو قيمة أن تسأل عن الوقت الذي ستأخذه أوروبا للتحول... وربما الإجابة مطلقاً (يقول ذلك ضاحكاً)، ولكن نحن نتحرك نحو ذلك الهدف بصورة دائبة ومستمرة.
*إذاً، ليس لديكم جدول زمني للوصول إلى ذلك الهدف...
- نحن نعمل حاليا على معاهدة جديدة، ألا وهي معاهدة الدستور الأوروبي والتي ستستغرق عدة سنوات قبل أن نحظى بها. وهذا الدستور الأوروبي ستكون له تأثيرات ايجابية من خلال إيجاد منصب وزير خارجية لأوروبا الموحدة، سيخلق بدوره مزيداً من التناغم في السياسة الخارجية والأمنية لدورنا الكوني.
*لكن الدستور في «منطقة ميتة» الآن...
- نحن نعمل عليه، وأنا أعتقد أنه عقب الانتخابات الرئاسية في فرنسا العام المقبل فإن باريس ستكون قادرة على الدخول في مفاوضات حقيقية بشأن الدستور. الشيء الجيد هو أنه لا أحد يريد البدء من نقطة الصفر، وعقد جمعية تأسيسية (مثلما حدث لصوغ الدستور)... إلخ. إن جميع الدول الأوروبية تريد الحفاظ على الحلول الوسط التي جرى التوصل إليها بشأن الدستور الأوروبي.
*إذاً، لماذا تعامل أوروبا تركيا بهذه الطريقة الخشنة، وفجأة لا ترحب بانضمامها إلى صفوفها؟
- إن تركيا مرحب بها، وهذا أمر واضح، لقد جرى اتخاذ القرار بشأن بدء المفاوضات الرسمية معها للانضمام بالإجماع، وهذا الموقف سيظل كما هو، وتركيا سيكون مرحباً بها وتنضم عندما تلبي جميع الاشتراطات والالتزامات. ونحن نعلم أنها عملية طويلة، والآن لدينا مشكلة في أن تركيا لم ترتفع إلى التزاماتها وتصدق وتبدأ في تنفيذ بنود بروتوكول أنقرة، وفتح الموانئ التركية أمام السلع القادمة من جميع دول الاتحاد الأوروبي. وسيتحتم علينا الإصرار على هذا الموقف، وتركيا تعرف ذلك. وإذا لم يحدث ذلك فستكون له عواقب قد تحيد بنا عن الهدف المنشود وهو عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
*إذاً، لماذا لا ترتفع أوروبا إلى مستوى التزاماتها وتنهي حال العزلة عن قبرص التركية؟
- لقد جرى عمل بعض الأشياء في هذا السياق، وهناك حاجة إلى عمل المزيد ونحن على علم بذلك. ولكن هذه أمور منفصلة! وكل الأطراف عليها التزاماتها.
*إذا كان صحيحاً ما يقوله سياسيون من العيار الثقيل من أنه لا مكان لتركيا داخل الاتحاد الأوروبي - لأنها دولة مسلمة - وإن أفضل ما يمكن أن تحصل عليه هو «معاملة خاصة»، فماذا ستفعل أوروبا بمسلميها؟!
- سيكون «خطأ فظيعا» لو حدث ذلك (يقول مقاطعاً)، ونحن لن نفعل ذلك، بل سيكون ذلك خطأ مأسوياً (يقولها ثانية). والناس من جميع الأديان، والذين لا يؤمنون بأي أديان أيضاً مرحب بهم في أوروبا. لأن أوروبا الموحدة صنعت من تجمع لدول علمانية تحترم حرية الأديان والاعتقاد لكل فرد على أراضيها.
*ماذا تقول لملايين العرب والمسلمين الذين بات لديهم اعتقاد راسخ بأن أوروبا تكشف عن وجه قبيح: وجه عنصري، امبريالي، غير متسامح، لا يرحب بالآخرين، ولا بثقافاتهم أو معتقداتهم؟
- إن الموقف يختلف من دولة أوروبية إلى أخرى، ونحن على علم بما تقول، وبضرورة إزالة هذه الانطباعات السلبية عن أوروبا. وإذا كانت هناك فعلاً عنصرية، وأنا متأكد من وجود بعض الحالات فيجب معالجتها وإزالتها.
*البعض سيقول لك إن الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة ضد الرسول الكريم محمد (ص) وتصريحات البابا ما هي إلا «قمة جبل الثلج» تخفي تحتها خطة لإزاحة المسلمين بعيداً عن أوروبا... ترى ما هو تعليقكم؟
- هذا ليس صحيحاً. وإذا كان ذلك الانطباع، فماذا عن بعض التصريحات من قبل بعض القادة المسلمين والتي نعتقد أنها لا تعبر عن المجتمعات الإسلامية. إذاً، لا يجب أن نخدع بتصريحات بعض الأفراد، وفيما يتعلق بالبابا بنديكت السادس عشر فإنه خلال زيارته الأخيرة لتركيا حاول جاهدا أن يصحح الانطباعات الخاطئة التي تركها خطابه التحليلي.
*من يجرؤ على انتقاد «إسرائيل»؟ وهل تعتقد أن أحداً غيركم يمكنه أن يجرؤ على انتقاد سياسات «إسرائيل»؟
- إنني لست الوحيد على الإطلاق.
*هل يمكن أن تدلني على أحد آخر؟!
- حسن! ليس فقط معظم زملائي الأوروبيين كانت لهم التجربة نفسها. إن «إسرائيل» سريعة في رد الفعل إذا ما انتقد أحد سياساتها، وهذا ما نعرفه وما علينا العيش معه.
وأحب أن أوضح هنا أنه اذا ما انتقدنا «إسرائيل» فإن ذلك لا يعني أننا ضد «إسرائيل»، وأفضل أن أقول إننا نفعل ذلك (يقصد الانتقاد) لأننا نحمل رغبة في تحقيق مصالح أفضل لـ «إسرائيل» وخصوصا أمنها. وأحيانا يتبع الإسرائيليون سياسات ليست في صالحهم.
*إذاً، لماذا تعامل «إسرائيل» بوصفها دولة فوق القانون الدولي، دولة استثنائية في كل شيء؟!
- لا يجب أن تعامل كذلك، بل يجب أن تطبق القواعد نفسها على الجميع.
*لماذا لم يقدم جنرالاتها للمحاكمة بسبب التعذيب الذي اقترفوه، وجرائم الحرب التي قاموا بها سواء في مذابح دير ياسين أو قتل الجنود الأسرى المصريين في حرب 1967، وذلك على رغم بياناتهم الواضحة التي اعترفوا فيها بارتكاب هذه المذابح؟ ولماذا لا يتحدث الأوروبيون عن الملف النووي الإسرائيلي؟ ولماذا لا يطالبها المجتمع الدولي بالانضمام إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية؟
- في الواقع... مثلما حدث لقد طالبنا، وسياستنا تدعو إلى جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية بما في ذلك «إسرائيل»، ونعتقد أن إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية هو بمثابة جزء من الحل الشامل للنزاع، ولكن تاريخ الشرق الأوسط مليء بحوادث وجرائم ترتكب من قبل جميع الأطراف. وفي بعض الأحيان علينا أن نضع خطاً يضع الماضي خلفنا، وهناك عدد قليل من السياسيين في الشرق الأوسط هم أبرياء بصورة كاملة وغير متورطين بصورة مباشرة أو غير مباشرة في ممارسة الإرهاب. ولقد رأينا أعضاء من منظمة شيترن الإرهابية في الحكومة الإسرائيلية، ومنظمة التحرير الفلسطينية ما قبل أوسلو كانت طرفاً في عمليات إرهابية. لذلك علينا أن نعمل بطريقة ما لكي نجعل من إرهابيي الأمس المعتدلين غداً.
*ما هي الضمانات لأمن وسلام شعوب الشرق الأوسط من ترسانة «إسرائيل» النووية؟ بل إن البعض دعا إلى تدمير السد العالي وإغراق مصر!
- إن ذلك كله بسبب عدم حل النزاع وطبعا إذا أمكننا التوصل إلى تسوية سلمية فإن ذلك لن يكون بين عشية وضحاها. إن العداوة السابقة والكراهية لا تختفي هكذا بل تحتاج إلى وقت. بل علينا أن نبدأ، وانظر إلى أوروبا لقد رأينا حربين عالميتين بسبب ألمانيا وفرنسا وما بين الدول الأوروبية، ولكن انظر إلى ما صرنا عليه الآن. إن الأمور تتغير، وهذا ما يجب أن يحدث في الشرق الأوسط
العدد 1557 - الأحد 10 ديسمبر 2006م الموافق 19 ذي القعدة 1427هـ