العدد 1543 - الأحد 26 نوفمبر 2006م الموافق 05 ذي القعدة 1427هـ

منتديات... بلوغرز

قسوة أب

ألقى بجسده فوق السرير منهكا من ساعات عمل ثمان قضاها في التنقل من مهمة إلى أخرى، ولكن مازالت مهمة دون سواها تقرع ذاكرته وتعبر مرآه بصمت كئيب. ألقى برأسه ليستقر فوق وسادته المزينة بصور الورود الحمراء، علها تبعث بشذاها لينتزع إصرار ذاكرته الدؤوب.

استراح جفناه لملاقاة بعضهما وانفتح شريط الذاكرة في غمضة، قذفت به ذاكرته حيث أول الحادث، صوت الهاتف في موقع العمل يخترق الصمت بإلحاحه... رفع الموظف المسئول السماعة بادئا المكالمة: نعم... أجابه الصوت الآخر: لدينا حال طارئة، نحتاج إلى مساعدتكم، وتشرد ذاكرته من الحادث لتذكره بتكرار هذه الصورة يوميا في عمله... لحظات ويسيطر عليه تدفق الذاكرة... أعطاه الموظف المسئول العنوان وأكده قائلاً: هناك أطفال بحاجة إلى المساعدة.

لا تفتأ الشوارع تشرد من عجلات سيارتهم، والطرقات تنفرج عن مارتها وعابريها مفسحة المجال لمرورها... فرق بين التقاء جفنيه واستفاق من إغفاءة الذاكرة، وانتصبت أعصابه متوترة، وعيناه يأكلهما الاحمرار كالمقبل على حبل المشنقة المدلى أمامه والمطلوب منه أن يهب رأسه له بيديه، بلى بذاكرته سيعود إلى فاتحة الألم.

وصل وأصحابه إلى الموقع المطلوب، بيت نخرت الأيام جدرانه وألقت أحجاره خارج سربها، ورجل قصير القامة بانتظارهم، يتلفت برأسه المكور أعلى جسده شمالا ويمينا... ولا أثر لتجمع الساكنين، استقبلهم الرجل مرحبا بصوته الخافت وقادهم إلى باب المنزل الصغير، دفع الباب بيده دفعة رحيمة، تبعه الرجال منتظرين رؤية الحال الطارئة، رائحة المنزل توحي بشعور الحيرة... الرائحة خليط من الحريق والنتن والعفن.

قادهم الرجل إلى حجرة ضيقة، وانزوى على أعتاب بابها ودعاهم للتفضل بالدخول... لا تستطيع النكبات مهما عظمت أن تمحو من ذاكرته أول وهلة سطع في عينيه المشهد... تلك الصورة التي غارت في ذاكرته حتى النخاع، ولربما الكلمات لا تمتلك سعة بسعة ذاك الألم... رأت عيناه زاوية تكور فيها ثلاثة أطفال، صبيان عن اليمين وعن الشمال وصبية في وسطهما تطوقهما بيديها إلى جنبها.

ثلاثة أطفال يختضون من الرعب والدهشة، أعينهم تدركها ولا تدرك عمق ما هي مختبئة في جماجمهم، أجسادهم نهشها النحول وحولها إلى هياكل مكسوة بلحم، الخوف يحاصرهم من كل الجهات... الصبيان ملتحمان بجسد أختهما خوفا... شيء ما من السواد يغطي صفحات وجوههم، وآثار دموع بادية من أسفل أجفانهم، الطفلة لا تتجاوز السادسة وأخواها أحدهما يصغرها بعام والثاني أصغرهم جميعا، لما رأوا المسعفين برقت في أعينهم الذابلة إشراقه أمل يشوبها خوف وتردد.

ولاتزال ذاكرته تقوده إلى موقع المأساة، وعيناه حاميتان وقلبه يتصدع من تذكرها... نظر المسعفون إلى بعضهم بعضاً، عل أحدهم يجود بتفسير لما يرون، بادرهم الرجل كاسرا دهشتهم... أبرز إصبعه السبابة منتصبة وأدارها حول نفسه، وقال: هذا المنزل منزل جارنا، وهؤلاء الضحايا أبناؤه من زوجته الفلبينية الهاربة... كانت بينه وبينها نزاعات لم تحجبها جدران منزلهم عن سمعنا... ولطالما أزعجتنا صرخاتهم ليل نهار... جارنا عفا الله عنه يتعاطى شرب الرجس ولا يكاد يفيق حتى يعب كأسا آخر حتى ذهبت بعقله ووقاره واستلت توازن جسده.

كنت مارا بمحاذاة هذه النافذة، واستل كفه من جيبه وصوبها إلى نافذة من الحديد الصدئ لم توفق لستارة تحجب ما تظهره فتحاتها... لما قرع آذاني عويل مشترك يشوبه صوت طفلة ناعم... حركني فضولي للتطلع إلى مصدر العويل، ترددت في أول الأمر في التلصص من خلف الزجاج... لكن العويل مازال شديدا ويشدني إليه... أخيراً دسست عيني على النافذة لأستطلع ما يدور خلفها، وانفرجت لي النافذة عن صورة مروعة تستأصل القلوب من الصدور، وجدتهم يعولون عويل من آيس من الحياة وهم أحياء ولكنهم أموات، توجهت للباب محاولاً فتحه حيث لا جدوى وهو مقفل تمكنت أخيراً من كسر القفل والدخول إليهم. ويكفيكم أن تعيروا آذانكم قليلاً لهذه الضحية البطلة لتعرفوا ما كانت تضمه هذه الجدران بين أحجارها من مأساة.

عاد إلى نفسه قليلاً يريحها من عناء الألم ويخفف عنها من شديد المأساة، استدارت عيناه نحو الساعة القابعة فوق باب الحجرة وتمكن عقربها الأكبر من أسره بإيقاعه الرتيب... تك ... تك... تك... حيث لا صوت آخر يحتل الزمان... وتارة أخرى عاد ليواجه أقسى فصل في مأساة يومه... توجه للطفلة يستفهم ما تبقى منها، علّه يجد حلاً لهذا اللغز... ها... بنيتي منذ متى وانتم هنا؟ ومن الذي أقفل الباب؟ و... و... أفاض عليها سيلاً من الأسئلة وهو يراقب شعرها الكثيف المبعثر على وجهها.

تصادمت الكلمات في فمها من الرهبة والذهول ولم تجد إلى الإفصاح سبيلاً، ولاتزال عيناه تحملان في صورها صورتها وهي تمزج الكلمة الأولى ببكائها... أبي... أبي من أقفل الباب علينا، استقرت الكلمات في مسامعهم كالصواعق صاعقة تتلو صاعقة، واستمرت تنبش مأساتها أمامهم! أبي غضب علينا من دون جناية جنيناها... لقد كان يتمايل من السكر عندما حمل جسده بين ميلة لليمين وأخرى للشمال وتوجه نحو الباب وأدار رأسه الثمل نحونا، وقال: سترون أي عقاب ستواجهون! وألقى بجسده خارج المنزل وأحكم المفتاح في القفل وأداره مرتين، ولم نسمع بعدها إلا خطواته السكرى تتعثر بثقلها مبتعدة عن المنزل.

تكاد أنفاسه تنقطع من عظيم ما يتذكر وما تنوء به ذاكرته الجريحة، سألها وهو يغالب دمعاً يقف خلف أجفانه وبصوت تأسره المرارة: منذ متى أنتم هكذا؟! وتلاقت عيناه بعينيها محدثتان شرارة اللهيب، أرخت جفنيها على بعضهما ورفعت ذراعها وفتحت أصابعها أمام صفحة وجهه المنهك... خمسة أيام ونحن هكذا... عصفت بذهنه الكلمات واجتثته من سكونه وأسرت لسانه وجرته خلفها ليقول: خمسة أيام هكذا؟! وماذا كنتم تأكلون؟! ران الصمت على الطفلة وعيناها تتفحصان الأوجه المقابلة. قالت: بحثت في البيت عن طعام لإخوتي في كل مكان فلم أجد... لم أجد إلا عدداً من البيض تبقى في الثلاجة.

استعاد جسده من السرير واستقام واقفاً أمام نافذته ذات الستائر الفستقية الموشاة بمزيج من الزخرفة والألوان الزاهية، وراح يتأمل دوران الزخرفة فوق جسد الستارة وشده انحناء بيضاوي الشكل في وحداتها... بيضاوي أعاده إلى آخر ما توقفت عنده ذاكرته، بلى وجدت بيضاً متبقياً في الثلاجة... لكن ارتفاع الموقد يحول بيني وبين طهو البيض، وجدت علبة زيت فارغة استعنت بها للارتفاع إلى الموقد... وضعت صحناً من «المعدن» فوق الموقد، وقرعت بيضتين ببعضهما وأشعلت الموقد، فسرت النار تحت الإناء تنضج البيض ونار جوعنا أشد إنضاجاً لأكبادنا.

يمعن نظراته في وجه الطفلة البريئة... براءتها قادتها لتمثل دور الأم الرؤوم على أخويها... لقد بكرت في تسلم مهمات الأمومة الثقيلة... ويا ترى ما الذي دفعها لتناول المبادرة بإيجاد طعام لأخويها؟ سافرت به الأفكار بعيداً... وما أعاده إلا وجهها الملائكي المتراكم عليه سواد الموقد... قالت: ولم أكن أتمكن من رفع البيض إلا عندما يطاله الاحتراق... خمسة أيام عبرناها ببعض بيضات محروقات. يحيل وجهه للصغيرين، فيجد الإعياء مستولياً عليهما وجسداهما الهشان يرتعشان، وصورة تعلقهما بأختهما ناشبة ملامحها في يقظته، وكأنهما أدركا فيها أماً تواجه حرمانهما، وكأنهما لمسا في شفقتها عوضاً عن أم هجرتهم في أشد لحظات حاجتهم لها... ملتصقان بها يقتلان أي فتحة للفراغ... وبما وهبتهما من حياة جديدة، أصبحت الأم بعد أمهم وبما شاطرتهم من حنان وشفقة أصبحت الأب بعدما عاشوا من قسوة الأب وتخليه عن أدنى إنسانية ترجى منه?

العدد 1543 - الأحد 26 نوفمبر 2006م الموافق 05 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً