العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ

أسود داكن... ومثالي

في واحد من مشروعاته الإسقاطية التي أطلقها قبل عامين وفي أول عمل سينمائي له، يحاول مارك والينغر استكشاف ثيمات الوجود والغياب، الشك والإيمان.

يسأل الروحاني القديم «هل كنت هناك عند ما صلبوا سيدي؟ في بعض الأحيان يصيبني ذلك بقشعريرة». هكذا يبدو لمن يسمع هذا الكلام أن عقيدة المسيحيين مخترقة بسبب البعد الزمني. للدين أصوله التي لا تكمن في رسالة خالدة بل في حدث تاريخي فريد. حدث تحول فيه الرب إلى إنسان في تاريخ ومكان محددين، حين كان هناك بالتأكيداً أحد ما شاهد ما حدث، لكنه لم يكن أنت. كم سيكون الأمر مدهشاً لو كنت أنت هو ذلك الشاهد. السؤال ذاته يمكن أن يتكرر على لسان بعض المتشككين في أصل العقيدة المسيحية، يمكن لهم أن يستفهموا «هل كنت هناك؟ كلا؟ فكيف يمكنك اثبات القصة المقدسة؟ كيف يمكنك أن تعرف ما حدث؟».

حياة المسيح وموته، نقطة البداية لهذا الدين، أمر يفترض أن يكون له جذور تاريخية. جميعنا شاهدنا صوراً وأفلام كثيرة تنقل ما حدث يومها لكن ماذا لو كنا هناك، ماذا لو حضرنا صلب المسيح وشاهدناه بأم أعيننا؟

مثل هذه الشكوك والرغبات هي ما يرتكز عليه عمل الفنان مارك والينغر الإسقاطي (Via Dolorose)، وهو أحد مشروعين إسقاطيين عرضا منذ عامين في معرض انتوني رينولدز بلندن في فترة أعياد الميلاد، كما أن هناك فيلماً عرض في العام 2004 يحمل الاسم نفسه قام ببطولته ديفيد هير بينما أخرجه كل من ستيفن دالدري وجون بيلي.

والينغر في منتصف أربعيناته، وأعماله تدور بشكل كبير حول رؤية الأشياء في مقابل الاعتقاد بوجودها والإيمان بها، كما أنها غالباً ما تأخذ المسيحية كمثال على أمر يمكن الإيمان أو الكفر به. والينغر قام بعمل تمثال كبير للمسيح معروض في ساحة الطرف الأغر بلندن، كما قدم فيلم الفيديو (Angel) الذي يظهر فيه وهو يردد كلمات سينت جونز. المسيحية، بالنسبة إلى والينغر، تحوي ما يكفي لجعلك تشكك فيها، وهو ما يصيبه في بعض الأحيان برعشة خفيفة. ولكن أياً كان موضوع الفيلم فقد عومل بشكل مختلف فيه اعتماداً على الحيل البصرية بشكل كبير، وهو على رغم ذلك تمكن من أن يستحث عواطف متفرجيه في هذا الفيلم، وقدمه بطريقة مبتكرة تثير الإعجاب.

يستعين والينغر في مشروع Via Dolorosa بسلسلة من المشاهد يصل طولها الى 18 دقيقة مقتبسة من فيلم فرانكو زفيريلي (مسيح الناصرة Jesus of Nazareth)، وهو فيلم تلفزيوني عن حياة المسيح عرضه التلفزيون البريطاني في العام 1977، قام ببطولته روبرت باول الذي زعم أنه حاول التواصل مع طبيعة المسيح السماوية بألا تطرف عيناه.

يتتبع العمل الحوادث التي مر بها المسيح منذ إدانته حتى موته، فنراه واقفاً في ثوبه القرمزي مرتدياً تاج الأشواك، حاملاً الصليب طوال الطريق إلى غولغوثا، ثم نراه مصلوباً مع اثنين من أنصاره، ونشهد لمحات خاطفة للحشود الهازئة به من الجنود الرومانيين، ورجال الدين المبتئسين والقائد الروماني الذي أدرك الحقيقة في اللحظة الأخيرة.

في الحقيقة، لن تشاهد أياً من حوادث الفيلم في إسقاط والينغر الجديد، إذ إن 90 في المئة من الشاشة محجوبة بمستطيل أسود، وكل ما يتبقى من الفيلم هو شريط ضيق مضيء حول حافة الشاشة. يبدو المشهد كمنظر خسوف كامل مستطيل، أو ربما محاولة رقابية لحذف مشهد ما. لا شيء من حوادث الفيلم ينجو من هذا التعتيم، كل شيء يحدث في مركز الشاشة، بل إن كل مشاهده أصبحت صامتة.

إحدى فوائد هذه الرؤية الخارجية الصامتة للعمل هي أن يتركز اهتمام المشاهد على التقنية، وحركة الكاميرا، وتقطيعات المشاهد ولقطات المخرج زفيريلي المقربة، بدلاً من مادة الفيلم ومحتواه.

الفائدة الأخرى هي إجبار المشاهد على البحث عن الإشارات. ما يحدث في هذه المشاهد هي أمور لا تتمكن بالكاد من أن تراها؟ ما تتمكن من رؤيته هو ما يكفي لجعلك تفهم سير الحوادث فقط.

ما تراه في هذه النافذة الصغيرة يتنوع بين نظرة خاطفة على الأشواك، أشخاص يقفون على أطراف الحشود، صف من الجنود، أكتاف المسيح، جزء من ساحة كبيرة، الكاميرا تسير إلى الخلف على طريق مغبر، ريشة حمراء تتمايل من أعلى قبعة أحدهم، رجل أحدهم تدوس على صليب، صورة مقربة لقمم رؤوس بعض الأشخاص، المسيح مصلوب عارٍ، نهايات قضيب الصليب تطل من جانبي المستطيل الأسود، رأس المسيح يسقط فجأة.

مشاهد تكفيك لتعرف القصة، إن كنت على دراية بها أصلاً. هكذا تبدو تقنية عرض المشاهد هي الأقوى في هذا العمل، فهي تختبر معلوماتك وتفصل ما بينها، فهنالك القصة الموجودة لديك، وهناك قصة أخرى تراها بعينيك، أو على الأقل تشعر بدوران حوادثها تحت الغطاء الذي يظلل الشاشة... إنها تحدث في خيالك.

هذا الشعور أو الخيال هو ما يعزف على وتر إيمانك بالقصة، خيالك إذن يصبح عملاً إيمانياً، فأنت لا ترى الحقيقة، لكنك تؤمن بوجودها. إنها تشبه رغبة في استكشاف ذات الخالق، فأنت لا تحصل سوى على لمحات خاطفة سريعة عن هذه الذات، لكنك لا تستطيع أن تتيقن مما إذا كان هناك المزيد أم لا.

عقدة العمل الإسقاطي هذا هي في مواجهة المسيح المصلوب أو عدم مواجهته، وحين تقترب الكاميرا لا تعرف إن كنت تنظر إليه أم لا. الإسقاط طبعاً يتضمن وهم وخيال، فالمستطيل الأسود ليس غطاء بالمعنى الحرفي، فليس هناك صور وراءه. هذا الحقل القاتم الخالي من أي شيء هو الفيلم، في واقع الأمر.

وبعد أن تتفرج على الفيلم لفترة، يحدث انقلاب في الطريقة التي تدرك بها الأمور، إذ إن الغطاء الأسود على الصورة لا يصبح أسود، بل تصبح الصورة سوداء يحيطها إطار شديد الإضاءة، وهو إذا أردنا مواصلة عملية الترميز الدينية يصبح شبيهاً بصورة للخالق كما تصفه بعض اللاهوتيات، فهي صورة قاتمة تماماً، غير معروفة، ولا يمكن إدراكها من قبل البشر.

على الأقل تبدو تلك وكأنها الطريقة التي يوصل بها الفيلم فكرته، عبر تكثيف الإدراكات البصرية والتأسيس لها بشكل قوي.

في الفيلم بعض العناصر العاطفية التي لا يمكن استحثاثها بفعل هذه التقنية، التي قد يتبادر إلى ذهن البعض أنها قد تحرض رغبة كشف المستور أو تعرية الصورة لدى المشاهد، إلا أن متفرجه لن يحمل رغبة في رؤية ما يمكنه رؤيته، بل يكتفي باقتناص بعض الإشارات وخياله لا يذهب إلى ما وراء الصورة المحجوبة.

لا يصبح المجال القاتم محملاً برغبات المتفرجة المكبوتة، وهو عمل يصبح أفضل بتوقعات متفرجة أو استحثاث ذاكرته.

مارك والينغر

فنان بريطاني، مشهور بسبب تمثال المسيح الذي صممه في ساحة الطرف الأغر بلندن والذي أطلق عليه اسم ايسي هومو (Ecco Homo).

ولد والينغر العام 1959 في تشيغويل بانجلترا، ودرس أولاً في مدرسة تيلسي للفنون ثم التحق بعدها بكلية غولدسميث، إذ عمل في التدريس ابتداء من العام 1986.

قدم عدداً من العروض في الثمانينات، ثم عرض بعدها بعض الأعمال في صالة تشارلز ساتشي العام 1993 ثم في معرض الأكاديمية الملكية العام 1997. في العام 2000 تمت إعادة عرض لعلمه (Credo) في صالة تيت ليفربول.

أعمال والينغر الأولى تمت الإشادة بها لما تتضمنه من تلميحات اجتماعية، كما أنها تركز غالباً على قضايا الطبقة الاجتماعية، وترسخ مفاهيم الملكية، والمواطنة. هذه الأعمال تأتي غالباً على هيئة لوحات زيتية، لكنه في التسعينات بدأ في استخدام تقنيات أخرى في عرض أفكاره بدأت تظهر في أعماله منذ ذلك الحين.

في العام 1991 قام والينغر بعرض سلسلة من اللوحات الزيتية التي تصور بعض المشردين وقد اطلقها تحت اسم Capital، وقد أعيد عرضها في مركز تشارلز ساتشي، كما أضيفت إليها لوحة زيتية شهيرة لوالينغر هي لوحة خيول السباق (racehorses). اتهمه بعض النقاد بالاستخفاف بالآخرين في معرضه (Capital)، خصوصاً لأن اللوحات صورت شخصيات معروفة في المجتمع الفني في لندن، وقد انتقد بسماحه لنفسه بأن يقدم أعماله في مركز ساتشي، إذ اتهم والينغر بأنه قد أفلس، وأثرت هذه الاتهامات على والينغر وعلى اتجاه أعماله اللاحقة.

تم ترشيحه للحصول على جائزة «تيرنر» في العام 1995 وذلك بسبب عمل A Real Work of Art.

بعدها انتقل والينغر لمناقشة موضوعات الدين والموت، فأنتج الفيلم التلفزيوني (Angel) وهو شريط يظهر فيه الفنان وهو يسير باتجاه عكسي على السلم النازل إلى الأسفل في محطة قطارات انجل في لندن، في الوقت الذي يردد فيه العبارات الافتتاحية من انجيل كنغ جيمس.

في ختام الشريط، تسمع موسيقى Zadok the Priest التي تشكل جزءاً من مراسم التتويج البريطانية والتي تسمع في وقت نزول والينغر.

ثم أنتج بعد ذلك عدد من العروض المسرحية أو الأفلام التلفزيوينة منها عرضNo Man‘s Land في متحف وايت تشابل، ثم فيلم Threshold to the Kingdom.

كذلك اهتم والينغر بالأديان القديمة، فقام بعمل إشارات لبعض الأساطير في بعض أعماله مثل مشروع Ghost والذي كان عبارة عن نسخة للوحة الزيتية (Whisteljacket).

يظل عمل ايسو هومو (Ecco Homo) الأشهر من بين أعمال والينغر المعروفة، فهو أول عمل يشغل المساحة الخالية التي يرتكز عليها الآن في ساحة الطرف الأغر، والتي تمتلئ بتمثال لشخصية المسيح، نصف عار سوى من قطعة قماش صغيرة، بينما يداه مربوطتان من الخلف.

Via Dolorosa

الكلمة اللاتينية المرادفة لطريق الأحزان وهو اسم شارع في المدينة القديمة في أورشليم. وكان هذا الشارع في السابق يعتبر ممثلاً للطريق الذي سار عليه المسيح إلى موقع الصليب. ويحوي الطريق 9 علامات تمثل المحطات الأربعة عشر التي توقف عندها الصليب، أما الخمس محطات الباقية فهي موجودة داخل كنيسة تقع في نهاية طريق الأحزان هي كنيسة القبر المقدس.

فيلم «Via Dolorosa 2002»

فيلم فيديو صامت يصل طوله إلى 18 دقيقة، يستعرض مشاهد صلب المسيح التي وردت في المسلسل التلفزيوني الدرامي (Jesus of Nazareth) للمخرج فرانكو زيفيرلي (1977). يظهر فيه مربع أسود يحجب كل مشاهد الفيلم سوى الحافة الخارجية للصورة. مفرغاً الفيلم من محتواه الظاهري كاشفاً عن تقنيات تصويره، مركزاً على اللقطات المطولة، وتلك المقربة، وغير ذلك من التقنيات. بعيداً عن ذلك يبدو الفراغ القريب وكأنه مجال لعمل إسقاطات والينغر وتفسيراته الرمزية?

العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً