شهر رمضان محطة للرجوع، وموقع لمراجعة الموقف، وطريق للعودة إلى الله. عودة لاستصلاح الذات وإلى نقد النفس ومحاسبتها.وهو فرصة أخرى للتوبة إلى الله قبل بلوغ الإنسان أجله، ورحيله عن الدنيا صفر اليدين بعد أن ملأ الدنيا عمارات وفللاً ومكاسب، تاركاً وراءه كل الألقاب والنعوت من «العلاّمة» أو «الدكتور»... مجرداً من كل شيء سوى من عمله الصالح، وهنا يبقى سؤال محوري وآخروي، لو عرضه الإنسان على نفسه لاكتشف الخيط الذي يوصله إلى آخرته، إسأل نفسك يوميا: «أين سأكون بعد مئة عام؟»، وتصرّف على هذا الأساس. وهَبْكَ بلغت مئتين من السنين، فماذا بعد ذلك سوى الممات؟ فالإمام علي (ع) يقول بعد رحيل الإنسان: «فأما الديار فقد سُكنتْ، وأما النساءُ فقد زُوِّجت، وأما الأموال فقد وُزِّعتْ...ويبقى عمل المرء». هذه الدنيا لا تساوي شيئاً عند أولياء الله ما لم يقيموا فيها حقاً، ويزهقوا باطلا... الدنيا طريق للعمل وليست هي الغاية والمبتغى. تروي لنا كتب التاريخ تلك الحكمة الكبرى من قصة الإسكندر المقدوني، فقبل رحيله أوصى أن يُوضع في صندوق مذهّب، وأن يأتي الحكماء لتأبينه...تلك وصيته كحياته، مذهبة موشّاة بالجواهر وكأنها ستقيه نار جهنم...رحل عن الدنيا، وُضع في صندوق موشى، وجاء الحكماء ليرثوه بالكلمات، فقام الأول فقال: «إن الذي كان يعظنا بنطقه، أصبح يعظنا بصمته»، وقام الثاني فقال: «إن الذي كان يخزن الذهب، أصبح الذهب يخزنه»، وقام الثالث فقال: «إن الذي كان يأمر وينهى، صار يُؤمر ويُنهى». شهر رمضان والإسلام يذكراننا دائما بالموت، لأن المؤمنين يعظون أنفسهم بالموت ويخوفونها منه، أما الذين ركنوا إلى الدنيا فهم في غفلة عنه ساهون، رغماً عن علمهم أنهم بعد مئة سنة سيصبحون تحت التراب. الإسلام لا يدعو إلى الدروشة والفقر، وإنما يدعو إلى الاتزان، يدعو إلى روحنة المال وأنسنة الحياة بدلاً من علمنتها. فما قيمة الحياة بلا عدل، بلا صدق، بلا إنسانية، بلا مشاعر؟ «إسرائيل» تمتلك كل شيء لكنها - لفقدها الإنسانية - خلقت جريمة «صبرا وشاتيلا» و»دير ياسين» و»قانا» و»جنين» والقائمة تطول. أميركا تمتلك التكنولوجيا غير أنها استخدمتها لاستعباد الشعوب، لقتل الفلاحين في فيتنام، والأطفال في هيروشيما وغير ذلك، فهاهي ذي تدس القمح في البحار رغماً عن وجود الجوعى. تشاتشيسكو حكم رومانيا بالنار والحديد، لينقل صاحب كتاب «شخصيات حيرت العالم» بأنه «كان يملك خمسة قصور للسكن، 39 بيتاً للضيافة، 21 شقة رئاسية، تسع طائرات فخمة، ثلاث طائرات هليوكوبتر، ثلاثة قطارات رئاسية، وفي كل يوم كان الرئيس يرتدي بدلة جديدة وحذاء جديداً لا يعود لارتدائهما بعد ذلك، بل تجمع وتحرق». لقد رحل تشاونشيسكو، وأعدم هو وزوجته، ولكن هل بقي بعده أثر؟ هناك رؤساء يتركون وراءهم ولو جزءاً من محبة، غير أن هذا الرجل وأمثاله كهتلر وستالين وغيرهما، لم يتركوا إلا العار... رحلوا وماذا ينتظرهم في آخرتهم؟ اليوم زرعٌ وغداً حصاد، أصبحوا سُبّة في جبين الزمان، وعلى فم الأجيال... أما الخالدون - كرسول الله (ص) - فهم باقون ما بقي الدهر.
العدد 86 - السبت 30 نوفمبر 2002م الموافق 25 رمضان 1423هـ