"كانت أسماء النساء تضيع إلا اسم مريم"! في "المزهرية": "الأماكن في بيتنا بأسماء النساء". أعود إلى رواية "مريم"، للقاص والروائي، والفوتوغرافي حسين المحروس، أقرؤها بعين ومدارك شاعر، ذلك الذي أحسبه مازال هناك.
أسوأ القراءات تلك التي تأتي بالمناهج النقدية، بالمسطرة والقلم، تقيس زوايا وطول وعرض، ووسامة وقبح، وغنى وفقر الشخصيات. ذلك لا يعني أن نتجرأ على إلغاء تلك المناهج. فقط، لا تتحمل الصحافة اليومية خصوصاً، وقارئ اليوم، عموماً الإمعان في تلك المناهج لتقديم عمل من جمالياته أنه لا يذهب بإصرار مسبّق للخضوع للوصفات الموضوعة في بناء الرواية أو القصة أو المسرحية. ثم إن تلك المناهج بتحولها الدائم ليست ملزِمة في قراءة أعمال هي بمنأى عن وسواس المخطط والرسم البياني قبل الشروع في الكتابة أو أثناءها. أجمل الأعمال تلك التي تخرج على تلك الوصفات، وما نحاول تجنّبه هنا الخضوع لتلك الوصفات لقراءة عمل بهذه العذوبة من اللغة وبساطتها المستفزة في الوقت نفسه!
أعود إليها، لأن قراءة سابقة كانت محكومة بطبيعة المواد التي تنشر في الصفحة وقتها، وكانت أشبه بالعبور الخاطف على العمل. ما أعقب ذلك من قراءات لزملاء لا يُبخس حقها؛ لكن لكل زاوية وفضاء نظره وتناوله ومدى استقباله لأي نص بغضّ النظر عن نوعه.
أول ما يلفت أي قارئ تتبّعَ أعمال المحروس، أن الرجل منشدّ إلى بيئته الأولى، ويعمل باحتيال على إعادة رسم تلك البيئة. ليست البيئة المكان مجرداً من بشره والتفاصيل. البشر يمسسهم شيء من إعادة الخلق هذه المرة، وليس الرسْم. الرائي، الروائي يخلق كائناته. لا يعيد استضافتهم كما هم، وإلا أصبح الأمر مثل وجوه أدمنتَ لقاءها في الأماكن التي تعبرها انتظاماً أو مصادفة.
عودة إلى: "كانت أسماء النساء تضيع إلا اسم مريم"! في "الاسم" يعاجلك: "النساء لا يحتجن إلى أسمائهن". لا ينشغل بالوصفة الروائية المحروس. في ما يشبه الكلام العادي، هو ليس كذلك. هنالك كمٌّ من الاستفزاز في البساطة. في الغموض الاستفزاز شاهر ووقح. في البساطة حين يحدث الاستفزاز، ذلك يكشف عن "أكوان موّارة متحرّكة" يتم تشكيلها كلما حانت لحظة القبض على المفردة وتوظيفها في سياق يأخذ بك إلى الحنين إلى المكان الأول والوجوه الأولى والبيئة التي استوت وكانت نسخة من فطرة الناس. للمكان فطرة يكتسبها من فطرة الناس أيضاً!
"مريم" كثيرة في الأسماء بين النساء. "مريم" التي بين أيدينا ليست كذلك. يقدمها المحروس بتلك الصورة المُتخيلة حيناً، وكما هي حيناً آخر. كما هي تتدخل فيها مقاربته. في المقاربة التي يشكّلها. بيننا اليوم: لا أحد. لا أحد يشبهها. زمن لا يحتمل نساء بتلك الروح والمواصفات والجلَد. هن أكبر منه. أكبر ممن ينجبن. كأنهن نسخ يتيمة، يبدأ العالم يتْمه برحيلهن. بل العالم يتيم وناقص!
تلعب لغة المحروس في السرد. كأنها (اللغة) تقوم مقام السرد. لن تشعر بالرتابة. النظام... الترتيب في العلاقات التي ينتجها السرد، يكاد يمّحي. هو نفسه خارج نطاق الخريطة والوصفة والمخطط. تتداعى الشخصيات، المكان نفسه، حتى المشغولات والروائح تتداعى هي الأخرى.
"عرف عيسى نسب أمه مرتين: مرة وهي تضحك وتسرد، وكان النسب يفيض بالماء الكريم، ومرة وهي تبكي شاباً يرحل في الصباحات مثل حمولة زائدة في النسب"!
أجمل الأعمال الروائية تلك التي تنحاز إلى رهافة الشعر وحريره، في مساحات منها. المساحات الجافة ببشرها والمكان تنقذها مساحات الشعر فتأتلق كأنها لم تكن لتبدو في الهيئة الجميلة تلك لولا مسحة الشعر. وأسوأ الأعمال الروائية، تلك التي لن تجد فيها سرداً. ستجد الشعر فحسب! المحروس لديه معادلة غير مكتوبة. ببساطة: العفوية لا تحتاج إلى معادلة كي تقدمها إلى الناس، ولم يكن المحروس بحاجة إلى معادلة أيضاً ليقدّم لنا "مريم" في صورتها البهية الممزوجة بالوجع الفائض، والعذابات التي تنتخبها بأريحية. أنبل البشر الذين لا ينتظرون العذابات كي تطرق أبوابهم. يذهبون إليها تخفيفاً من الفائض لدى الناس، فتفيض بهم تلك العذابات! ذلك ما يحاول تمريره لنا المحروس. أو هكذا اعتقدت!
استدرك هنا: الخطورة ليست في زمن يذهب ممعناً في تشوّهه. لم يتشوّه هكذا بمحض المصادفة. تشوّه بفعل إنسانه الذي انحاز إلى ما يريده مشوّهاً داخله. إلى الذي لا يشبهه ولا يدل عليه، ولا سمْت مخلوق فيه.
منذ مجموعته القصصية "ضريح الماء" (2001)، ورواية "قندة" (2006)، ورواية "حوَّام"، لم يكفّ المحروس عن السهر على اللغة التي يكتب بها. لن تجد ما يشبهها في أي من أعماله التي سبقت. لكل منها بصمتها الخاصة، ولعبها الماكر الذي يتصاعد مع كل عمل ينجزه.
"قالت امرأة غريبة: (مَنْ هذه المرأة التي تخضب العروس ولا تبتسم؟ فقيل لها: مريم، أم عيسى، وهي هكذا جادة حتى تنجز عملها). قالت الغريبة: (سوف أقترب منها ولن أدعها حتى تبتسم). راهنت النسوة على ابتسامة واحدة فقط. فلما اقتربت لفتت انتباهها ثم أنشدت: ياسين واسم الله على النسوان/ لبس الدفيف ما يملونه... لين عزموا على الهيامه/ حتى رجلهم ما يشورونه"!
ولا أضيف شيئاً هنا بالقول: إن اشتغال المحروس على موضوعات السيرة التي برع فيها أيما براعة، ويكاد لا يتاخم تجربته هنا - فيما أُصدر - أحد ممن أعرف، أتاح له أكثر من فضاء ساعة التقاط مادة عمله الروائي. حتى الكلام الذي ينقله على لسان مصادره يمر بأكثر من "فلتر"، في الوقت الذي لا يتلاعب، أو يفقد جانب السرد عفويته وبساطته وعمقه في آن. أحياناً يضيف عليه من عفويته المكتنزة.
"مريم" تحيلنا إلى انتقالات بارعة، في شعْرَنة المكان. الزمن الأول. البشر الذين لا يشبههم أحد. لكل زمن بشر يشبهونه، جمالاً أو قبحاً. "مريم" تحيلنا إلى جمال العذابات، والأمكنة التي ترى في الزوايا الداكنة والمضيئة رائحة من تلك العذابات. كأنها الأمكنة هنا ابنتها!
"كانت أسماء النساء تضيع إلا اسم مريم" ولن يضيع!
___________________
حسين المحروس
بكالوريوس اللغة العربية، جامعة البحرين العام 1992. ماجستير اللغة العربية، جامعة البحرين العام 2000. قاص وروائي ومن أهم كتّاب السيرة في مملكة البحرين، ومصور فوتوغرافي. صدر له: "ضريح الماء"، مجموعة قصصية العام 2001. "قندة" (رواية) 2006. "المحرق... وردة البحر"، صور الفنان عبدالله الخان لمدينة المحرق بين العام 1945 والعام 2007. "إذاعة البحرين... صور الكلام"، صور وتعليقات العام 2007. "فرقة البحرين للموسيقى ... نوتات التأسيس" سيرة وصور العام 2007. "حوَّام" (رواية) العام 2008. "ديمقراطية 73... الشعب في التجربة"، صور الفنان عبدالله الخان للمجلسين التأسيسي وبرلمان 1973، العام 2010. "دفتر اللؤلؤ" صور عبدالله الخان العام 2011. "لولوه"... سيرة الحلو والمرّ العام 2011.
حارس ذاكرة البحرين
قرأت حوام اعجبت بها كثيرا ثم مريم وقد كانت مهداة من طرف الكاتب وعلى نفقته الخاصة.شكرا لحسين وعاشت البحرين مزدهرة قوية وامنة.
القاص روان علي شريف من الجزائر.
جميل...
أعجبني المقال كثيرا.. عبارات اكثر من رائعة
من أجمل ما قرأت
يعرف الجميع ان المحروس كاتب يجعلك تعيش في كلماته وكاتب يبث الحياة في كلماته . مريم أنعشت ذاكرتنا