ما الألم؟ كأنه كائن يتغلغل في كائن. المسكنات هنا بمثابة الرصاصة التي تقتل عدوك. لكن ذلك العدو سرعان ما يباغتك ثانية وثالثة ورابعة وخامسة. كأن له أكثر من روح بديلة واحتياط. بها يعيش لينهكك. يموت مع موتك. هنالك تكون استراحته. للألم كلام هو جزء من السياقات السريرية التي منها يبدأ التشخيص والعلاج. اشتراك الآخرين معك في الألم يكشف أيضاً عن ثقافة. مؤشر تلك الثقافة. مؤشر العاطفة فيها. مؤشرك على جعل الأمر سرياً كي لا يشاركك أحد فيه. حين تتألم ستحدث المشاركة ولو على نحو عاطفي؛ أو لنقل "مجازياً"!
تلك مقدمة تمهّد لاستعراض سالي فيكرز في صحيفة "الغارديان" في عددها يوم الأحد الماضي (15 يونيو/حزيران 2014)، كتاب جوانا بورك "قصة الألم... من الصلاة إلى المسكنات".
جوانا بورك هي من الطيور النادرة، وأكاديمية تمكنت من الجمع بين سعة المعرفة وحدّة الذكاء وأسلوب النثر السهل في الوصول إليه. كما أن لديها أيضا حاسّة تثير الاهتمام والفضول: الخوف والاغتصاب والقتل موضوعات مشهودة في التحقيقات التي أجرتها كجزء من موضوعات الكتاب. جوانا بورك من مواليد نيوزيلندا العام 1963. مؤرخة وأستاذة التاريخ في بيركبيك بجامعة لندن. ولدت لأبوين مبشرين بالمسيحية. وقد وجها بورك للوصول إلى زامبيا وجزر سليمان وهايتي.
بعد التعليم المنزلي مع أشقائها انتظمت في جامعة أوكلاند، حيث حصلت على درجة البكالوريوس والماجستير في التاريخ.
قدّمت رسالتها في الدكتوراه بالجامعة الوطنية الأسترالية وتولت مناصب أكاديمية لاحقاً في أستراليا، ونيوزيلندا، وكامبريدج.
تصف نفسها بأنها على التحام بالاشتراكية النسوية. كتبت عن التاريخ الأيرلندي، والتاريخ بين الجنسين، والثقافة لدى الطبقة العاملة، والحرب والرجولة، والتاريخ الثقافي للخوف، وتاريخ الاغتصاب.
في العام 2011، نشرت كتاباً بعنوان "ما الذي يعنيه أن تكون أنساناً: تأملات من العام 1791 إلى وقتنا الحاضر"، كما أصدرت "امرأة سليطة" (2011). تعيش حالياً في لندن.
كتابها الأخير، "قصة الألم: من الصلاة إلى المسكنات"، يحقق إضافة مناسبة في ظل مخزون من القتامة والتجهّم.
أحد كتبها الذي صدر مؤخراً بعنوان "ما الذي يعنيه أن تكون أنساناً: تأملات من العام 1791 إلى وقتنا الحاضر"، تختبر فيه الألم باعتباره عنصراً واحداً وكبيراً في هذه الوصفة. في حين يظل تخفيف حدّته مطلباً مركزياً لجميع المجتمعات، فيما شهدت جوانا القليل مما كُتب عن التعبير عن الألم، والمتغيّرات التي يمكن أن تؤثر في كل ذلك.
على رغم أن الطب تقدّم وحدث تطور في التقنيات المسكنة للألم، أثرت على الوتيرة والدرجات التي تم فيها اختباره، إلا أنه يبقى حدثاً شخصياً لا ينفصم، وبالتالي من الصعب تحديده أو تقييمه من منظور علمي.
وكما تضعه بورك "في السياقات السريرية، باعتبار أن للألم صوتاً (الألم له كلام هنا)، إلا أنه حقيقة من الناحية الفسيولوجية: امرأة، على سبيل المثال، تدّعي أنها في النزع الأخير لأن الفئران تمضغ معدتها، هنا يتم إحكام يديها والحدّ من حركتها، بدلاً من إعطائها Novocaine وهو اسم العلامة التجارية لبروكايين، مخدّر موضعي، لايزال يستخدم بشكل شائع في طب الأسنان.
في خضم المعركة حتى بجروح متعدّدة وخطيرة قد لا يشعر المرء بالألم إذا كانت العاطفة المتحوّلة قوية وحاضرة.
مؤلف "الطبيب في الحرب"، يتم فيها تقصّي حالة أثناء الحرب العالمية الأولى، وله رؤية يقترحها، أن الجروح الخطيرة "يتم تحمّل معظمها - معظمها ولله الحمد - بالتخدير الخاص بها تبعاً للحالة". (يعرف أيضاً باسم "المتمرد"، تحول إلى فيلم سينمائي، ينتقل فيه طبيب إلى محارب يتخذ مساراً مختلفاً جذرياً ومرهقاً مقارنة بما هو عليه في حياته الأخرى. وبدلاً من أن يكون معالجاً، يقبل التوغل في حياة المحارب من أجل وضع حدّ لسعير الحرب الكبرى).
من ناحية أخرى، كثيراً ما يفشل الأفراد في تسجيل المحن المادية لأنها متأصلة جداً في حياتهم اليومية وتكون متباينة، لذلك يُنظر إلى وجع في العضلات، والصداع، واضطرابات المعدة أو آلام الجوع، على سبيل المثال، على أنها هي القاعدة. هذا ومن المرجّح أن يكون ذلك هو الحال في كثير من الأحيان في بعض البيئات - في كثير من الأحيان، على رغم صعوبة ذلك اقتصادياً (الفاقة تلعب دوراً في تلازم الألم واستماتته).
وهناك أيضاً ظاهرة الألم الذي يشعر به من جهة ثانية المقربون من المتألم؛ ما يؤدي إلى استعداد المتألم لكبح التعبير عنه - كما هو الحال في شهادة الزوج البطل، الذي بعد أن أرسل إلى زوجته يخبرها بأنه خارج في مهمة، أوضح للممرضة: "الألم سيء ورهيب؛ ولم أكُ أريد أن أفسد عيد الميلاد على إليزا". بهذه الطريقة يمكن للألم إقصاء الأفراد عن بعضهم بعضاً، ويعمل على تقسيم الثقافات. ينمّ قول بورك عن الكثير: "أن تكون متألماً فذلك لا يعني أن يتم توزيع الألم بشكل ديمقراطي".
ينقسم الكتاب إلى موضوعات عدّة، بعضها واضح: التشخيص، والإغاثة، والتعاطف؛ بعض آخر أكثر غموضاً: القطيعة، المجاز، لفتة، والدِّين. وبورك رائعة وخصوصاً في تناولها للفئات الأخيرة، حيث تقوم بعرض معرفتها الدراسية بتوسّع.
من الميّزات الجذابة في الكتاب هي المراجع الغنية والمتعددة؛ إذ قرأت بورْك على نطاق واسع لتحقيق هذا المستوى الذي وصلت إليه في تناولها الموضوع، ولم تكتفِ بالأطباء والعلماء كي يكون موضوعها مؤثراً، ولكن أيضاً حضر الكتّاب والشعراء في ثنايا عملها، لأنهم إلى حدّ كبير أكثر فعالية وتواصلاً مع الوضع الذي يكون عليه الألم، من حيث القدرة على التعبير عنه.
وقالت إنها نقلت من عدّة مصادر ومستندات أكاديمية لإثبات أن الألم، على رغم أنه ظاهرة عالمية، إلا أنه ليس وصفاً ولا تقييماً للمسلّمات.
وبشكل أكثر جذرية، ناقشت في كتابها، أن علم وظائف الأعضاء هو في حد ذاته "متأثر عميقاً بالثقافة والمجاز". على سبيل المثال، النظرية الخلطية، تلك المتعلقة بسوائل الجسم، والاستجابات المناعية التي تنطوي على الأجسام المضادة في تلك السوائل، والتي هيمنت في فترة ما قبل القرن التاسع عشر، صعدت وتنامت مع وصف توماس غراي للآلام (شاعر إنجليزي، ولد في لندن. عرف بقصيدته "مرثاة كتبت في مقبرة بالريف"، وهي إحدى أبلغ القصائد المكتوبة باللغة الإنجليزية وأقربها إلى الكمال. انتسب إلى كلية إيتون، ثم جامعة كامبريدج، حيث درس الحقوق. كان متعمقاً في الأدب الكلاسيكي، ومن أوسع الشعراء الإنجليز علماً في موضوعات متعددة كالرسم والموسيقى والهندسة وعلم النبات. صار في العام 1768 أستاذاً للتاريخ الحديث في جامعة كامبريدج).
مزاج الفرد، والغذاء، والطقس والعلاقات الشخصية تؤثر جميعها في تجربة الألم، والتي "تنشأ في سياق التفاعلات المعقدة داخل البيئة، بما في ذلك التفاعل مع الأشياء والأشخاص الآخرين".
تستشهد جوانا بورك بتبتُّلات جون دون في المناسبات، وهو واحد من أبرز الشعراء الإنجليز في القرن السابع عشر، وكاتب لامع ما تزال إلى اليوم قصائده الغزلية وتأملاته الظريفة الساخرة والمريرة، تثير الاهتمام. وكان إلى جانب ذلك كاهناً وُصفت مواعظه بأنها أفضل مواعظ القرن؛ إذ تفيض بالحكمة والنصح والإرشاد العمليين، ترضي النفس والفكر في آن؛ إذ يتم في المناسبات تلك تمثيل المرض بأنه صراع فعلي بين الممالك. زميل الشاعر دون، جورج هربرت، استخدم أيضاً استعارة من معركة عنيفة لوصف الألم النفسي.
واحد من أكثر الفصول المؤلمة في الكتاب هو دور الدِّين، والذي ربما لا يثير الدهشة، أن له تاريخاً مقيتاً؛ وغير سار، في تجنيد المعتقد التقليدي للألم.
ربما يكون فجّاً بالنسبة لي، وسط كل هذه الثروة من الأفكار الرائعة أن أشكو من عدم وجود ما يكفي في هذا الكتاب عن الألم النفسي، من النوع الذي تظل فيه حال الحضارة الحالية أكثر عرضة للمعاناة. هذا كتاب جريء ومثير للإعجاب عن عدوّ لا يعرف حدوداً تاريخية أو ثقافية.