العدد 2820 - الأربعاء 26 مايو 2010م الموافق 12 جمادى الآخرة 1431هـ

الانقسام الفلسطيني بين السياسي والاجتماعي

عياد أحمد البنطيجي - كاتب فلسطيني، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya. 

26 مايو 2010

يفرض الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني الحاصل منذ يونيو/ حزيران 2007، حين سيطرت حماس على قطاع غزة بالقوة، كثيراً من التساؤلات حول حقيقة هذا الانقسام، وخصوصاً أنه مايزال يتعامل معه على أنه انقسام سياسي، أي انقسام في النظام السياسي وعليه. منذ يونيو 2007 إلى الآن تجلت كثيرٌ من الوقائع والأحداث الاجتماعية التي كان محركها الانقسام الفلسطيني، فالانقسام الذي بدأ سياسياً قد مست مفاعيله البنية الاجتماعية للفلسطينيين.

وفي استطلاع للرأي نفذه مركز معلومات وإعلام المرأة الفلسطينية في غزة، حول مدى تأثر العائلة الفلسطينية بحال الانقسام الداخلي، أفاد أن النسبة الأكبر من الأسر الفلسطينية في قطاع غزة تأثرت بشكل واضح بحالة الانقسام التي نتجت عن الصراع بين حركتي فتح وحماس، وأفاد 84.6 في المئة من أفراد العينة أن عائلاتهـم قد تأثرت بهذا الصراع والانقسام. في حين أفاد62 في المئة بأن حال الانقسام والصراع الداخلي الفلسطيني تسببت في حدوث مشاكل عائلية داخل أسرهم، وأفاد 19.9 في المئة بأنها وصلت إلى حد استخدام العنف أو التهديد به. وفي كثير من الأحيان أدت هذه الانقسامات إلى قطع الصـلات العائلية. ورداً على سـؤال حول مدى التشـاؤم أو التفاؤل بالمسـتقبل؟ أفاد نحو 50 في المئة من أفراد العينة أنهم متشائمون حيال المسـتقبل، بينما أفاد 41 في المئة منهم أنهم متفائلون. ولمعرفة تأثير الانقسام الداخلي على الحياة الاجتماعـية الفلسطينية ومدى تأثر العلاقات الأسرية من ناحية اختيار الزوجات والزواج بهذه المسألة أجاب 71.1 في المئة من أفراد العينة أنه أصبح للانتماء السياسي لفتح أو حماس تأثير كبير في اختيار الزوجات والأزواج بينما أجاب 25 في المئة من أفراد العينة بأن الانقسام الداخلي لم يؤثر عليهم من هذه الناحية، وأفاد 3.9 في المئة بأن لا رأي لهم. ورداً على سؤال فيما إذا كانت علاقات أطفالكم مع أصدقائهم أو زملائهم في المدارس قد تغيرت جراء حالة الانقسام أجاب 68.1 في المئة من أفراد العينة، إن علاقات أطفالهم مع زملائهم في المدارس وأصدقائهم قد تضررت جراء الانقسام الداخلي. والإجابة الأخطر الذي عكسها هذا الاسـتطلاع كانت حول الموقف من مسـألة الهجرة للخارج. فقد أفادت أغلبية كبيرة وبنسـبة 47.8 في المئة بأنهم يفضلون الهجرة للخارج إذا سنحت لهم الفرصة بينما فضل 45 في المئة من أفراد العينة البقاء في الوطن حتى لو سنحت لهم فرصة الهجرة. بينما أفاد 7.2 في المئة بأنه لا رأي لهم.

وتفيد تقارير صادرة عن المحاكم الشرعية الفلسطينية، عن ارتفاع نسبة الطلاق في العامين الأخيرين، خصوصاً في قطاع غزة، وبأن من بين أسباب ارتفاع هذه النسبة الخلافات الحزبية بين الزوجين، أو بين أحد الزوجين وأسرة الآخر (الحياة، 21 فبراير/ شباط 2010).

التساؤلات التي تدور في خلد من يراقب هذه الصورة المأساوية التي تعكسها هذه البيانات: هل جذر الانقسام الفلسطيني سياسي أم اجتماعي؟ وهل الفلسطينيون منقسمون اجتماعياً قبل انقسامهم سياسياً؟ أم أن الانقسام السياسي أدى إلى الانقسام الاجتماعي؟ وإذا كان الأمر كذلك ألهذا الحد بلغت البنية الاجتماعية الفلسطينية من الترهُّل والسوء مبلغاً لا يمكن تخيله أو تحمله؟ ألهذا الحد كان العامل السياسي طاغياً في تشكيل الاجتماعي؟ أم أن أسباب هذا الانقسام هو ترهُّل واهتراء البنيتين الاجتماعية والسياسية معاً؟ وأين المجتمع المدني الفلسطيني الذي تشكل إبان تأسيس السلطة الوطنية وشهدنا فيها بزوغاً لهذه المؤسسات المدنية وأخذت على عاتقها نشر القيم الديمقراطية وقيادة التحول الديمقراطي ومراقبة أداء النظام السياسي، فما فائدتها إذا كانت المحصلة صفر؟

من الصعوبة بمكان دراسة العمل السياسي بدون الأخذ بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية. لذا فإن هذه التساؤلات تقع ضمن اختصاص علم الاجتماع السياسي. ومن هنا فإن اكتشاف الضعف والترهل في الواقع الحالي يتطلب قراءة هذا الواقع من منظور علم الاجتماع السياسي الذي يربط بين الوقائع السياسية بعضها بالبعض الآخر، ويربط بين هذه الأخيرة والوقائع غير السياسية، سواء أكانت هذه الوقائع اجتماعية أو اقتصادية أو دينية أو أخلاقية أو ثقافية. فالتأثير بين المجتمع والنظام السياسي، بين البنى الاجتماعية والمؤسسات السياسية هو تأثير حتمي لا فكاك منه، لأن الواقعة السياسية هي واقعة اجتماعية، وأن المجتمع «كل» يتكون من مجموعة من العناصر التي يعتمد بعضها على البعض الآخر، فهذه العناصر لا تكون لوحدها عوالم منغلقة ومنعزلة بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر.

وفي ضوء هذه الرؤية المنهجية التي يتعين قراءة هذه البيانات من خلالها. يمكن القول إن هذا الانقسام طال أهم بنيتين اجتماعيتين وهما: الأسرة والمدرسة.

فقد لعبت الأسرة الفلسطينية دوراً بارزاً في التنشئة السياسية، فتفجير الانتفاضة الأولى العام 1987 من شباب وأطفال الحجارة ليس إلا تعبيراً عن الأسرة الفلسطينية وبدورها في التنشئة السياسية التي حافظت على الهوية القومية للطفل الفلسطيني بعد أن زيفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي كل المقررات الدراسية، ونزعت منها أي بعد قومي، وبعد أن ركنت سلطات الاحتلال إلى أن الجيل الجديد نشأ وتربى في ظروف ستجعله أقل مقاومة ورفضاً للاحتلال، إذا بها تفاجأ الأسرة الفلسطينية وقد أخرجت لهم جيلاً أقوى وأصلب وأقدر على المقاومة، ولم يكن ذلك إلا برهاناً قوياً على أن دور الأسرة في التنشئة السياسية يمكن أن يكون هو خط الدفاع الوحيد أمام الشعوب والأمم في مراحل معينة من حياتها السياسية. وهنا تبرز التساؤلات في ضوء البيانات السابقة التي تبين ضعف الأسرة الفلسطينية وتراجع دورها: لماذا تأثرت الأسرة بهذه السرعة بالانقسام السياسي؟ ولماذا أصابها الانقسام والفرقة والتناحر؟ ألهذا الحد بلغت الأسرة مبلغاً من الضعف والترهل؟! ألهذا الحد كانت غير محصنة ومخترقة سياسيا؟! لماذا فقدت دورها في أن تكون حاضنة ومصدر أمنٍٍ وأمان لأبنائها في الوقت الذي يفتقدون فيه للأمن النفسي والاجتماعي في ظل الاحتلال الصهيوني الإحلالي؟ ولماذا فقدت الأسرة هذا الدور التي لطالما كانت سداً منيعاً في السابق وحصنا دافئا لأبنائها؟

تشير البيانات أيضاً إلى أن الانقسام طال طلبة المدارس والجامعات. ومن المعروف أن المدرسة هي البيئة الثانية التي يواجه فيها الفرد نموه وإعداده للحياة المستقبلية، ويأتي دورها بعد دور الأسرة حيث إن دورها لا يكتمل إلا بما تضفيه المدرسة من مبادئ تسهم في تشكيل شخصية الفرد، وذلك بما تحتوي عليه من المناهج وما يدرسون من المواد، وعن طريقها يستكمل المواطن ما بدأته الأسرة من تربية وتعليم. وهكذا تلعب المدرسة في الأعداد السياسي للنشء دوراً مكمّلاً للأسرة. ولكن واقع الحال وتأثر المدرسة والجامعة بالانقسام الفلسطيني يؤكد أن هذه المؤسسات لم تكن محصنة كما يجب، بل كانت سهلة الاختراق وسهل التأثير فيها وإقحامها في غياهب الصراعات الداخلية: فأين المؤسسة التعليمية ؟ أين النظام التعليمي الفلسطيني؟ أين المناهج الفلسطينية الحديثة التي شرعتها السلطة الفلسطينية واحتوت قيماً سياسية من قبيل العدل والتسامح والمساواة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية؟ أين المؤسسات الفلسطينية المستقلة؟ ولماذا عجز الفلسطينيون عن تشكيل بنى مستقلة تتوسط بين النظام السياسي والعائلة وتكون حصناً منيعاً وإطاراً حامياً من توغل الاستبداد السياسي وعند انهيار النظام السياسي؟

والأنكى أن غالبية من شارك في الاقتتال الفلسطيني الداخلي هم من جيل المراهقين والشباب التي تتراوح أعمارهم ما بين 15- 25 سنة، هذا الجيل تربى في ظل وجود سلطة وطنية فلسطينية، فأين هذه المناهج الحديثة التي تواكب التطور والحداثة ونشأ عليها هذا الجيل إذا كانت المحصلة صفر؟ ألهذا الحد كانت المؤسسة التعليمية مهترئة ومتآكلة؟ أم أنها كانت مخترقة سياسياً تقوم بدور سياسي تحريضي تعبوي أكثر منه تعليمي وتثقيفي؟ ولماذا عجزت المؤسسات التعليمية في المساهمة في تحقيق التكامل السياسي من خلال ما تبثه من ثقافة سياسية قومية؟ ألهذا الحد افتقد هذا الجيل إلى القدوة الحسنة والنموذج الذي يحتذي به؟ أين القيم التي تحث على التواصل والتآزر والتماسك؟ هل تحول المواطن إلى كائن استهلاكي أناني فردي؟

مما لاشك فيه أن الشعب الفلسطيني صمد صموداً بطولياً في وجه أعتى قوة في العالم، وقدم تضحيات وبطولات من أجل الوطن وفي سبيل الله. ولا يخامرنا أدنى شك في نبل وتضحيات وبطولات الشعب الفلسطيني في مواجهة التحدي الصهيوني. ولكن ما يثير الاستغراب هو ضعفه في مواجهة الأخطار الداخلية ومواجهة الذات والعمل على نقدها وكشف عيوبها ومثالبها. فهذا التحدي الخارجي لم يقابله بنى داخلية قوية رصينة توازيه في المقدار، بل ضعف داخلي مشين وعجز فاضح على مجابهة الأخطار الداخلية. إن المجتمع الفلسطيني في أمس الحاجة إلى امتلاك ثقافة النقد الذاتي وإلى الحرية الفكرية والجرأة الكبيرة. إذ تعاني المؤسسات الفلسطينية أشد المعاناة من ضآلة وضعف الإسهامات الفكرية في مجال النقد الذاتي. إن إخمادنا للنقد الذاتي وحرية الفكر يعني قتلاً للعقل وتعطيل ثقافة النقد الذاتي وهي بداية الطريق إلى الانحدار والهزائم والتخلف السياسي والاجتماعي، فصعود المجتمعات وتقدمها مرتبط بامتلاكها حرية التفكير والعقل والنقد الذاتي الذي يعتبر جزءاً أساسياً من عملية التطوير والتقويم المستمر وترشيد السلوك، وطالما كان الأمر كذلك، فما أحوج هذه المؤسسات إلى ثقافة النقد الذاتي، من أجل ترشيدها، وتخليصها من أمراضها.

والخلاصة التي تؤكدها هذه البيانات أن البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني هي بُنية عصبوية لم تتطور اجتماعياً وسياسياً وثقافياً بما يؤهلها لتكون ضاغطة على النخب السياسية، وناظمة للتفاعلات السياسية، وضمانة لنفاذ القواعد الدستورية، وبالتالي حاضنة للتحول الديمقراطي الذي يشهد تقهقراً في الأراضي الفلسطينية. وعليه فإن المجتمع الفلسطيني لم ينجح حتى الآن في إحداث تحولات بنائية شاملة والخروج من إطار العصبوية الاجتماعية والسياسية وتشكيل بنى سياسية واجتماعية حديثة ومتطورة.

إن الواقع الفلسطيني اليوم مليء بالمشكلات التي تراكمت تاريخياً وأحدثت تفكك وترهل في المجتمع والنظام السياسي معاً معطوفاً على انهيار أخلاقي وقيمي، فعندما يجرؤ فلسطيني على قتل أخيه الفلسطيني فنحن أمام انهيار أخلاقي وقيمي وليس انهيار سياسي فحسب. إن اهتزاز الثوابت الأخلاقية التي تمثل المرجعية العليا وضمير الجماعة ومعايير السلوك التي تحدد ما يجب أن يكون عليه هذا الأخير، فهذا مؤشر على عقم واهتراء كل المؤسسات الفلسطينية ابتداء من الأسرة مرور بالمدرسة والجامعة وانتهاء بالحزب السياسي، وتصبح هذه التشكيلات غير قادرة على التعامل مع الواقع وضبطه وتقنينه.فلا غرو والحالة هذه أن تكون النتيجة هي أن يمر المجتمع السياسي بحالة من الفوضى، مما يمهد الطريق إلى البحث عن مطلقات وثوابت أخرى تكون قادرة على أن تضبط واقع الاجتماع السياسي، فما يجري اليوم هو تيه وجهل سياسيين، نتيجة أن الأنساق الفكرية والفلسفية والبنى الاجتماعية والسياسية تعرضت للاهتزاز. ويتحمل مسؤولية الوصول إلى هذا الوضع كل من ساهم في تلك الحالة أو وافق عليها أو لم يعترض عليها أو تواطأ معها، وهي مسؤولية تاريخية مستمرة مهما مضى من الزمان. والكل يتحمل المسؤولية بمقدار وظيفته ودوره في البناء الاجتماعي والوطني.

فبعد أن أثبت التاريخ أن لا وحشية الاحتلال الصهيوني وجبروته استطاع أن يلغي الشعب الفلسطيني أو يضعف انتمائه لوطنه، ولكن وصول الوضع الفلسطيني إلى حد التفكك سوف ينعكس على حالة الانتماء هذه، وبخاصة أن البيانات المذكورة أعلاه تؤكد أن نسبة الهجرة هي نسبة عالية وسوف تزداد إذا بقي الوضع على حاله، واستمر انشطار العقل السياسي والبناء الاجتماعي، وسيُهزم وطن أمام سياسات فاشلة وعصبوية اجتماعية قاتلة. فضلاً عن الانقسام السياسي بين قطبي النظام: فتح وحماس. كل ذلك يأتي في ظل انحسار اليسار الفلسطيني، وضعف التشكيلات السياسية الأخرى، وأخيراً الدور الضعيف وغير المؤثر للمنظمات الأهلية وباقي تشكيلات «المجتمع المدني الفلسطيني». وعليه لا مراء والحالة هذه أن البنيتين الاجتماعية والسياسية تعيش حالة اهتراء وخواء، وأن كلا البنيتين في حالة تفكك مستمر فضلاً عن تآكلهما.

لا نورد هذا التحليل ليكون مبعثاً على التشاؤم، بل لأن بداية المعالجة هو التشخيص السليم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لنبين تأثير الانقسام على البنى الاجتماعية التي لم تنل الاهتمام الكافي، لطغيان التحليل السياسي، والاهتمام بالقضايا الكبرى، وتقديم الموضوع السياسي الوطني على الهم الاجتماعي والديمقراطية، دون أن نعير الاهتمام بالقضايا الصغرى أي اهتمام. ومن ناحية ثالثة لنوضح خطورة ما وصل إليه الوضع الفلسطيني من خطورة مما يتطلب إعمال العقل والنقد الذاتي والمراجعة الشاملة وبخاصة للعقدين الأخيرين من حياة الفلسطينيين، وضرورة إنجاز عقد اجتماعي وطني جديد. وأخيراً لتبيان أن ثمة أزمة بنيوية ووظيفية شاملة تطال البنى الاجتماعية والسياسية والعلاقات والمفاهيم وأشكال العمل السائدة في السياسة الفلسطينية.

العدد 2820 - الأربعاء 26 مايو 2010م الموافق 12 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً