دخلت أزمة تقاسم مياه النيل مرحلة حساسة بتوقيع دول المنبع (إثيوبيا ورواندا وأوغندا وتنزانيا ثم كينيا) اتفاقية فيما بينها، فيما رفضت مصر والسودان مطالبتين ببقاء حصصهما من ماء النيل كما كانت. ففي دراسة حصلت عليها «الوسط» من المكتب الإعلامي بسفارة جمهورية مصر العربية بالمنامة، أعدها أيمن السيد عبد الوهاب، ناقش فيها أبعاد المشكلة، متطرقاً للأسباب السياسية والتاريخية، مبيناً تأثير هذه الاتفاقية على العلاقات مستقبلاً بين هذه الدول، وجاء في الدراسة:
أن توقيع الدول الخمس على الاتفاقية الإطارية لمبادرة دول حوض النيل, فرض التساؤل على الخطوات المطلوبة من جانب مصر والسودان.
والتساؤل بشأن مستقبل المبادرة, وربما إطار التعاون المستقبلي. التساؤل برغم مشروعيته, وبرغم ما يصاحبه من ردود أفعال مشحونة بالغضب من جانب الكثير من المتابعين والكتاب والمهتمين بملف المياه, فإن الإجابة عليه تتطلب قراءة التطورات الأخيرة في سياق تطورها التاريخي. فعلي مدى نحو أكثر من أربعين عاماً من أشكال التعاون الجماعي, لم تستطع دول الحوض التوصل إلى اتفاق جماعي لتنظيم التعاون المائي في حوض النيل. ما يعني أن القيود والأسباب التي حالت دون وضع إطار قانوني ومؤسسي لأشكال التعاون لا تزال قائمة, وهي أسباب سياسية في المقام الأول وتاريخية في المقام الثاني, وإن زاد عليها أسباب جيواقتصادية وجيوسياسية.
وهو ما يقودنا إلى دلالات هذا التوقيع, وأولاها يتعلق بمحاولة فرض أمر واقع جديد على مصر, وذلك بمحاولة وضع نهاية للمفاوضات, وفرض رؤية خاصة تتجاوز المصالح المصرية. أما الثانية فترتبط بمعادلة التفاوض التي حكمت المسار التفاوضي, والتي ثبت عدم فاعليتها في تجاوز العقبات. فقد استندت هذه المعادلة إلى رؤية مصرية سودانية تقوم على الحقوق التاريخية المكتسبة مع تصور تنموي يساهم في زيادة كميات المياه بالقدر الذي يلبي احتياجات الجميع من المياه, في المقابل استندت دول المنبع إلى أبعاد سياسية تتعلق بمفهومها للسيادة الوطنية ومفهوم مختلف للتنمية في الحوض لا يرتبط بالتعاون مع مصر بشكل رئيسي. وأما الثالثة فترتبط بحالة الترقب التي منعت باقي دول المنبع ( بوروندي, الكونغو الديمقراطية) من التوقيع على الاتفاقية حتى الآن, في انتظار رد الفعل المصري.
أما الرابعة, فتتعلق بمؤشر الخطر على مستقبل التعاون الجماعي في الحوض والذي ارتبط بمحاولة تسويق رؤية الدول الموقعة, بأنها تمتلك من موازين القوى والأوراق التي تمكنها من الاستغناء عن التعاون مع مصر, وبالتالي طرحت مهلة زمنية تمتد عاماً للتوقيع ( تنتهي في مايو/ أيار2011), أو الخروج من المبادرة, بما يعني عدم قابلية الإطار الموقع للتغيير».
وقال عبد الوهاب في الدراسة «تنطوي الدلالات السابقة على نتيجة مهمة تتمثل في محاولة تخلص دول المنبع من القيد المصري على مشاريعها ورؤيتها ـ ولو نفسياً ـ مع الاحتفاظ بورقة الجهات المانحة والراعية للمبادرة. بمعني السعي نحو معادلة صفرية من جانب دول المنبع، حيث تحصل على كل شيء, ومصر والسودان لا تحصلان على شيء.
واتساقاً مع هذه النتيجة يبقى التساؤل على المبادرة ومستقبلها مطروحاً بقوة في هذه اللحظة. فالمبادرة التي تقوم على قاعدة عدم الإضرار والتوازن المصلحي, تبدو أمام قراءتين تتباينان في تفسير هذه القاعدة. وما يهمنا في هذا السياق, أن المبادرة تنتهي فعلياً في العام2012, وبالتالي فإن عدم التوصل إلى إطار آخر( المفوضية العليا) يعني أن هذه المبادرة ستنتهي بعد عام من الوقت المحدد لإغلاق باب التوقيع على الاتفاق الإطاري».
وأضاف، «كما أن المبادرة التي تقوم على الرؤية المشتركة (وتعاون الحوضين الشرقي والجنوبي) للأفكار والمشروعات التكاملية التي تحافظ على مياه النهر وتولد الطاقة وتحقق الاستقرار وتنظم التعاون, تبدو على المحك سواء لدول الحوض, أو للدول الراعية للمبادرة, وهو ما يتطلب تأكيد مجموعة من الركائز المصرية تجاه اللحظة الراهنة, منها:
- تأكيد أن التعاون واستمرار التفاوض هو السبيل الوحيد للحيلولة دون ضياع مجهود ما يزيد على عشر سنوات من النقاش والعمل الجماعي والجهد الدولي. واستمراراً لمنهاج فرضته الخبرة التاريخية (مشروع الهيدرولوميتولجية, والأندوجو, والتيكونيل, وأخيراً مبادرة حوض النيل).
- الموقف السياسي المصري الرافض للتصعيد والداعم لآليات التعاون وإعطائها الأولوية على آليات الصراع, يعني أن المهلة الزمنية, هي فرصة أخيرة لاستمرار التعاون مع دول الحوض في إطار المبادرة, أو البحث عن إطار جديد.
- إن فك الاشتباك بين مسار العلاقات بين مصر ودول الحوض ومسار التفاوض على المياه أمر يمكن توقعه حالياً فقط, شريطة عدم الانتقال لمرحلة أخرى تتزايد فيها عناصر التهديد, أو التأثير على حصة مصر باعتبارها تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري.
- إن توسيع مجالات التعاون وتعميقها مع دول الحوض سيستمر, ويمكن أن تظهر ثماره بعيداً عما سيفرضه ملف النيل من انعكاسات سلبية حالية.
تتسق تلك الركائز مع رفض مصر التدخل في الشئون الداخلية لدول المنبع, باعتباره مبدأ راسخاً في السياسة المصرية.
وهكذا, يبدو أن جرس الإنذار الذي أطلقه توقيع بعض دول المنبع يفرض تحركاً مؤثراً وحيوياً مستنداً لرؤية استراتيجية تتكامل فيها أدوار كل الجهات الحكومية وغير الحكومية التي تتعامل مع ملف المياه, أو دول الحوض. وهنا يمكن الإشارة إلى مستويين من التحرك.
المستوى الأول, ويرتبط بمناهج التفاوض المستند لكون التعاون هو السبيل لمواجهة الاحتياجات المتزايدة لدول حوض النيل من المياه, وأن الخلافات يمكن تجاوزها من خلال ثمار التعاون. هذه النتيجة على رغم صدقها في المنهاج التفاوضي المصري فإن الواقع الراهن تجاوزها, وبالتالي كشف المنهاج التفاوضي الحقيقي للدول الموقعة, على أهمية تدعيم المنهاج التفاوضي المصري بمجموعة من التحركات الموازية ذات السمة التصعيدية, منها:
- تقديم شكوى فورية للاتحاد الإفريقي, لاسيما مجلس السلم والأمن الإفريقي, وتأكيد أن التوقيع على الاتفاق هو تهديد لاستقرار هذه المنطقة.
- التحرك على المستوى العالمي, من خلال مخاطبة الرأي العام العالمي والمنظمات المعنية بقضايا المياه والتنمية, بالإضافة للتحرك تجاه الجهات المانحة والقوى الكبرى ذات المصلحة في منطقة الحوض والحريصة على الوجود والاستثمار في هذه المناطق, وإظهار مخاطر عدم الاستقرار على الاستثمارات إذا استمرت دول المنبع غير حريصة على استمرار التفاوض والتعنت ضد المصالح المصرية الاستراتيجية.
- تأسيس شركات مصرية تهدف إلى شراء الأراضي وزراعتها مع شريك وطني في هذه الدول.
أما المستوى الثاني من التحركات المصرية, فيجب أن تتوازى مع المستوى الأول, وترتكز على بناء استراتيجية مصرية أوسع للوجود والتحرك في منطقة البحيرات العظمي والقرن الإفريقي بقدر أكبر من الفاعلية والتشابك مع القضايا الحيوية والحساسة في هذه المنطقة.
المستويان السابقان, يمكن أن يضاف إليهما اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في حالة إصرار الدول الموقعة أو غيرها على تجاهل الحقوق التاريخية والقانونية لمصر.
وهكذا, يبدو أن استمرار «المبادرة» أو إعلان نهايتها سيرتهن بالقدرة على طرح صيغة المفوضية العليا, كلجنة عليا لتسيير المشروعات القائمة كحل وسط حالي, لحين التوصل لاتفاق جماعي, أو البحث عن صيغة أخرى لتنظيم التعاون المائي بين دول الحوض.
العدد 2820 - الأربعاء 26 مايو 2010م الموافق 12 جمادى الآخرة 1431هـ