العدد 5127 - الإثنين 19 سبتمبر 2016م الموافق 17 ذي الحجة 1437هـ

الشيخ علي المبارك... مجمع الفضائل

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

عندما بلغني نبأ رحيل فضيلة الشيخ علي بن الشيخ إبراهيم المبارك (1954-2016) غمرني إحساس ثقيل بالانقباض والحزن، صحيح أن مرض الشيخ لازمه في السنوات الأخيرة من حياته، واضطر بسببه أن يؤجل الكثير من مشاريعه العلمية، ويسافر للعلاج لأكثر من بلد، لكن رحيله بهذه السرعة لم أكن والكثيرين من أصدقاء الشيخ وعارفيه يتوقعونه. لم أتوقعه لأنني سمعته غير مرة يتحدث عن أوجاع جسده، كما لو كان يتحدث عن شيء لا يعنيه، أسقام يشعر بها ويدرك مخاطرها ويهتم بأمرها، ولكنه لا يتوقف عندها كثيراً، على الأقل هذا ما لمسته أنا شخصياً.

أكثر ما يغمر المقترب من هذه الشخصية المطمئنة ذلك الإحساس الدافئ الذي يبرع في نثره في اللقاءات الحميمة التي تجمعه بضيوفه أو معارفه وأصدقائه، وهنا الأمر يتعدّى كثيراً الأطر التي يرسمها عادةً علماء الدين بشأن أنفسهم أو يتبرع بعض المريدين أن يخلعوها على من يمحضونهم التقدير الكبير، فالشيخ علي كان دائماً بسيطاً في أحاديثه، عفوياً ومهذباً وأبعد ما يكون عن التكلف واصطناع ما ليس فيه، وهو العالم الجليل الذي كسب احترام الوسط العلمي في الداخل والخارج، لسجاياه الأخلاقية وغزارة علمه وتعدد اهتماماته، وجديّته في التحصيل.

كنت في المرحلة الإعدادية أول ما عرفت الشيخ، وكان وقتها يؤم المصلين في مسجد صغير بمنطقة إسكان عالي يقع بالقرب من منزله، والبيت والمنزل يقعان على طريق حيوي بالنسبة لنا ولأعمارنا آنذاك، فقد كان هذا الطريق يوصلنا للمدرسة وإلى حديقة صغيرة كنا نتخذها ميداناً لتفريغ الشحنة الهائلة من الطاقة في الحركة واللعب والشقاوة.

آنذاك، قُدّر لهذا المسجد الصغير أن يكون منطلقاً لنشاط ديني واجتماعي مؤثر على مستوى المنطقة، ونجح القائمون عليه في استقطابنا من خلالها ضمن فئة الشباب واليافعين، وكان يقتطع منا الفترة المسائية التي تتواصل حتى أذان المغرب، فنصلّي جماعة بإمامة الشيخ علي الذي كان يمثل بالنسبة لي لغزاً محيراً بسبب اقتصار دوره على إمامة الصلاة فقط، ثم منح المصلين خمس إلى عشر دقائق بعد انتهاء الفريضة للإجابة على أسئلتهم الدينية ثم لا شيء!

لاحقاً عرفت أن الشيخ كان مشغولاً بالكتابة والتحقيق، وقد ترك التوجيه الديني لأشخاص كان يرى أنهم أهل للقيام بهذا الدور، وكان برؤيته المتوازنة وتشخصيه الدقيق للواقع يرى أن الاكتفاء بإمامة الجماعة والاهتمام بشواغله في البحث العلمي أولى من ممارسة أدوار يقوم بها غيره خير قيام.

في تلك الفترة، حملتني صداقتي مع ابنيه محمود وحسن إلى بيته، ورأيت مكتبة الأسرة، واستعرت بعض ما يناسب إدراكي من كتبها وأغلبه قصص أدبية. وبعدها بسنوات عرفت الشيخ مرّةً أخرى، وفي هذه المرّة كانت المعرفة أعمق والصلة أوثق والأشياء بدت أكثر وضوحاً.

ينتسب الراحل لأسرة آل مبارك الهُجيري، وهي أسرة بحرينية عريقة من قرية الهُجير في توبلي، وجدّهم الكبير الشيخ مبارك الهجيري التوبلاني. ووالده الشيخ إبراهيم من مواليد هذه القرية قبل أن ينقل سكناه إلى قرية عالي بعد رجوعه من النجف الأشرف.

الراحل كان شديد التواضع حاضر النكتة، لا تمنعه سنّه المتقدمة ومقامه العلمي ومكانته الاجتماعية من أن يزور من هم في عمري، أنا الذي أُعدّ في عمر أولاده، وكان شديد الاعتزاز والاهتمام بالكتب، وحين يقف أمام الكتب يتفحص عناوينها بعناية وتركيز شديد.

قبل نحو عام تحدثتُ معه عن الدراسة العليا، وكان وقتها قد التحق للتو ببرنامج الدكتوراه في جامعة أم درمان الإسلامية في السودان، وكان يشجعني على الالتحاق معه في البرنامج الذي امتدحه وأشاد بمرونة الإجراءات فيه، تحدثنا كثيراً في هذا الأمر، إلى أن استقرّ عزمي على مواصلة المشوار الذي سلكه الشيخ في الدراسة العليا ولكن ليس في الجامعة ذاتها، وحُرمت بذلك من فرصة زمالته والسفر معه.

التحق الفقيد بدراسة العلوم الدينية في مطلع الثمانينات، والتحق بكلية الخليج الصناعية وخبر الوظيفة، ثم سافر إلى مدينة قم المقدسة بعد أن أخذ مقدمات العلوم الدينية على والده العلامة الشيخ إبراهيم المبارك (ت 1979م)، واستمر يحضر الدروس الدينية على كبار العلماء هناك حتى العام 1988، تتلمذ خلالها على الميرزا جواد التبريزي (ت 2006)، وفاضل اللنكراني (ت 2007)، والوحيد الخراساني، ومحمد هادي آل راضي، والسيد أحمد المددي.

ورث الراحل عن والده حبه للعلم وكثرة التأليف، وكما ألّف الأب كتباً كثيرة في الفقه والتاريخ والتراجم والمنطق والطب الشعبي، كان الولد سرّ أبيه، ونتاجاً لهذا الغرس. كان للفقيد دور تعليميّ مميز قبل دخوله سلك القضاء الشرعي، فتخرج على يديه عدد كبير من العلماء والخطباء والشعراء من مناطق البحرين المختلفة.

كان مثالاً للجدّية الكاملة في طلب العلم، حتى وهو على فراش مرضه، وتخصص في فقه المواريث، وفقه مواقيت وأعمال الحج وكتب فيها، وقد كتب عن ميقات «قرن المنازل» في أحد عشر عاماً أو أكثر، سافر فيها للقرى وصعد جبالاً وهبط ودياناً وسأل معمّرين.

وكان له ولعٌ خاص بعلوم العربية ونظم الشعر الكلاسيكي والجديد، وهو مدّون وجامع للكشاكيل والألغاز على الطريقة الأدبية القديمة، محيطاً بأخبار شعراء الجاهلية والإسلام، حافظاً للكثير من أشعارهم.

وشرح ديوان فلسفة الحكمة لوالده، وتصدّى لإعداد كتاب في تحقيق نصوص التراث المخطوط كمقرر دراسي لبرنامج محاضراته، وحقّق بعض الكتب أبرزها كتاب «الغنية في مهمات الدين عن تقليد المجتهدين» للسيد حسين الغريفي (ت 1001هـ/ 1593م)»، وكتاب «وسيلة الأنام في أحكام الصيام للشيخ حسين العصفور الدرازي «(ت 1216هـ/ 1802م).

ومن مؤلفاته الأخرى «الميراث أصوله ومسائله» (في جزئين)، «الدعاء في القرآن»، «البيان في التجويد»، «حماية الجنين بين الشريعة والقانون، دراسة مقارنة». وله ديوان شعر مخطوط وحدود المواقيت وأحكامها. كما حقق ونشر تراث والده: «النور المشرق في أحكام المنطق»، و»الأعمال الشعرية الكاملة، للعلامة الشيخ إبراهيم المبارك»، و»ديوان المراثي الحسينية».

وقد كتب رسالته في الماجستير التي حصل عليها من إحدى الجامعات الأهلية في «المصلحة في دعوى الإلغاء»، وهي دراسة مقارنة في القانون الإداري حصل عليها على درجة الامتياز، مع توصية الجامعة بطباعة الدراسة، وقد طبعت هذا البحث العام 2009 ولديه ماجستير أخرى في الشريعة الإسلامية.

أما ما يخص التراث والتاريخ، فإن له تعليقات على كتاب والده: «حاضر البحرين» كان من المفترض أن تصدر في النسخة المطبوعة حديثاً. وعندما قدّم كتابه في «التذكية بالحديدة» لأستاذه الميرزا جواد التبريزي قال له الأخير: «من عَلَّمني حرفاً كنتُ له عبداً»!.

وكان له اهتمام بفن الرسم، ومنه ما يتعلق بالتراث والبيوت القديمة؛ فهو يحتفظ بمجسم من تنفيذه لبيت والده القديم في قرية عالي حيث حاول تخصيص حجرة تراثية ليستذكر الذكريات الجميلة التي عاشها مع أفراد أسرته من أهله وعائلته.

رحمك الله يا أبا محمود، فقد كنت كبيراً في كل شيء، وبرحيل الكبار تصبح الأماكن التي شغلوها في حياتهم فارغة فراغاً موحشاً وأليماً.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 5127 - الإثنين 19 سبتمبر 2016م الموافق 17 ذي الحجة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 8:51 ص

      كلام طبق الأصل. أحسنت يا سبع

    • زائر 6 | 8:25 ص

      شكر وعرفان أستاذي وسام في رثاء فقيد العلم العالم الرباني الشيخ علي المبارك رحمه الله رحمة واسعة و نشدو على يديك بإظهار جهوده المكنونة لتنير هذا المجتمع و نحن على ثقة بك و أمثالك الباحثين و دمت سالم ..

    • زائر 4 | 3:50 ص

      وردة واحدة لانسان على قيد الحياة افضل من باقة كاملة على قبره !!
      احيانا كثيرة خصوصا نحن الشرقيين لا نقدر الاشخاص المميزين الا بعد ان نهيل عليها التراب عندها نرى من يتحدث عن المآثر والقبسات وتروى المعلقات في فضائله هذا ما يحصل للأسف ، لذا على كل صاحب قلم او مدونة او صفحات متخصصة ان يميط اللثام والاذى ايضا وينفض التراب عن شخصيات تعمل بصمت وتبدع بتصرف من دون اعلام وبهرجة .. واحسبك يا وسام احد من نعول عليهم لهذه المهمة

    • زائر 2 | 2:33 ص

      شكرا كاتبنا القدير لقد ابدعت في رثاء الشيخ الراحل وجعله الله في ميزان حسناتك حبذا كاتبنا ان تسلط الضوء ولو بالقدر اليسير على كتب الشيخ رحمه الله ولو بالمختصر المفيد

    • زائر 3 زائر 2 | 3:33 ص

      شكرا لمروركم الجميل

    • زائر 1 | 10:21 م

      الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته

اقرأ ايضاً