العدد 5384 - السبت 03 يونيو 2017م الموافق 08 رمضان 1438هـ

في برنامج مسامرات ثقافية ... مداخلة سعادة السفير المغربي محمد آيت وعلي خلال ندوة فضاءات الوسط بمناسبة رحيل المفكر العربي محمد عابد الجابري

الوسط – حبيب حيدر

this will be replaced by the SWF.
في برنامج مسامرات ثقافية ... مداخلة سعادة السفير المغربي محمد آيت وعلي خلال ندوة فضاءات الوسط بمناسبة رحيل المفكر العربي محمد عابد الجابري

إن العزاء لمحمد عابد الجابري هو أن نتذاكره وأن نمعن النظر ونتعمق فيما تركه، خاصة وأن الرجل قد أثبت خلال مسيرته طيلة الستين سنة أنه لم يكن يطمع في جاه ولا مناصب، وكان زاهداً في كل شيء وهو من المفكرين الذين رفضوا الجوائز من الشرق أو الغرب. ومن حق الرجل وهو غير موجود بيننا أن نعود إلى مشروعه وإلى تراثه وما ألّفه بكثير من الهدوء والتفحّص. وأكاد أزعم أنني أعرف أستاذي الجابري معرفة جيدة خاصة وأنني درست عليه سنتين كان يدرسنا كتاب موسى بن ميمون "دلالة الحائرين" واختيار الجابري تدريس هذا الكتاب لأنه أراد أن يعطي لطلابه في درس الفلسفة الأساس الفكري والأيديولوجي والمعرفي الذي قام عليه الفكر المغربي لاحقاً وهو علم الكلام وهو غير موجود لدى أي باحث عربي قديماً أو حديثاً إلى أن جاء ابن ميمون فجمع كل ما أنشئ في المغرب في علم الكلام ليقدمه للفكر اليهودي وجمعه في كتاب "دلالة الحائرين".

الجابري بنى مشروعه على أساس علمي معرفي تأصيلي، رجع إلى النصوص وغاص فيها وأخذ وقتاً كبيراً إلى أن طلع بكتابه في العقل العربي. ألف في العقود الثلاثة الأولى من حياته كثيرا في أمور تخص الواقع العربي في مشاكل التعليم ومشاكل الاستقلال وما بعده والمشاكل السياسية. الجابري كان أحد زعماء أكبر حزب في المغرب وهو الحزب الاشتراكي للقوى الشعبية إلا أنه بعد ذلك اقتنع أن المعرفي يجب أن يظل معرفيا والسياسي كذلك.

اختار الطلاق مع السياسة وابتعد عن الحزب وقدم استقالته من اللجنة المركزية للقوى الشعبية، لينطلق في مشروعه الفكري، وقد بدأ بكتاب يعتبر الأساس في مشروعه ( نحن التراث 1980) وهو ثاني كتاب في تاريخ الفكر المغربي المعاصر الذي اعتبر عتبة مهمة وتوجهاً جديداً. وقبله كتاب الأيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروي في 1967 وحينما أطل الجابري بـ (نحن والتراث) قامت ضجة كبيرة، ففيه أتى بمفهوم القطيعة آخذاً هذا المفهوم عن الفلسفة الفرنسية المعاصرة وخاصة لدى غاستون باشلار. فجاء بمفهوم القطيعة الأبستمولوجية وقامت ضده ضجة من أن هناك قطيعة بين المشرق والمغرب وهناك الكثير ممن لم يعجبهم هذا الكلام. ولاحقاً سيؤسس مشروعه في نقد العقل العربي على ثلاثية البيان والبرهان والعرفان على اعتبار أنه في الوطن العربي هناك عقل عرفاني ساد في المشرق العربي والعقل البرهاني ساد في المغرب والكثير لم يعجبهم هذا الكلام أما الجابري فما رد في يوم من الأيام وإنما استمر في مشروعه.

القول الأساس الذي جاء به الجابري حينما دافع عن مفهومه للقطيعة أن ما أراد قوله في القطيعة المعرفية الأبستمولوجية هو داخل مجال معين ليس داخل الفكر. ليس العقل المشرقي عقل عرفاني والعقل المغربي عقل برهاني إنما حينما نتكلم في الفلسفة في الفكر هنا يحصل نوع من الاعتماد على العرفانية وفي الجانب الآخر من العالم الإسلامي الاعتماد على البرهان.

الجديد الذي أتى به الجابري في مشروعه هو أنه صادف أن المدرسة المغربية كانت حديثة العهد بالمدارس الغربية عكس المشرق. فمصر مثلاً لامست فكر النهضة الأوربية مع رفاعة الطهطاوي ومرورا بلطفي السيد إلى طه حسين إلى المفكرين المعاصرين إلا أن علاقتها بهذا الفكر انتهت بعد الخمسينيات. لم تعد هناك بعثات أو اتصال مباشر. بعد الخمسينيات حدث تصارع في المدارس الفكرية في الغرب من الماركسية إلى ما بعدها إلى نقد الماركسية إلى البنيوية إلى فلسفة الاختلاف إلى فلسفة الرفض.

ثمة مجموعة من المدارس الفكرية التي تأسست على أساس درس اللسانيات لم تكن معروفة قبل الخمسينيات. قبل فردينان ديسوسير لم تكن المناهج وأدوات البحث تزودت بدرس اللسانيات الذي أعاد قراءة الأشياء قراءة أخرى، وكذلك درس الأبستيملوجيا اللذين سيسلحان المفكر والباحث ليعيد قراءة التاريخ. لذلك فإن ما قام به الجابري أنه تسلح بهذه الأدوات ورجع مرة أخرى ليدرس الفكر العربي الإسلامي. وهناك محمد أركون الذي ظل فقط على مستوى التحفيز والدعاية أو تلقين الباحثين والطلاب والمفكرين والدعوة إلى أنه يجب أن نعيد تراثنا مسلحين بالأدوات الجديدة في العلوم الإنسانية، ولكن الجابري طبق ذلك فهو ليس داعية وإنما ممارساً. وإذا كان أركون قد وقف داعية ومحفزاً لتطبيق مفاهيم أدوات البحث المعاصرة والعلوم الإنسانية المعاصرة فإن الجابري قد مارس ذلك. ومن نتائج هذا البحث أنه أتى بأشياء جديدة لم تقبلها كثير من الحقول أو بعض المفكرين والباحثين في المشرق، ولكن الذي لا يعرفه البعض أن المدرسة المغربية حينما كانت تشتغل وتستعمل مفاهيم في البحث لم تكن تستعمل مفاهيم لغوية منحوتة فقط. ليست كلمات يمكن أن نستبدلها بمفردات وإنما هي أدوات بحث. حينما يتكلم عن الأبستيمية، العقل، القطيعة، هذه أدوات بحث إذا أنت استبدلتها بمفردات أخرى يصبح النص لا قيمة له. إذاً أنت أمام نص هذا النص فيه مميزات خطاب علمي من دقة وصرامة واختصار، اختار الأدوات التي فيها حمولة معرفية. هنا ننتقل باللغة من المفهوم إلى التداول وتصبح المصطلحات المستعملة ليست مصطلحات فقط وإنما مفاهيم ذات دلالات فندخل في مجال آخر هو مبحث التداولي والمدرسة التي تنتج هذا الفكر قد أعدت على درس اللسانيات ودرس الإبستميلوجيا وستنتج الكثير.

حينما نتكلم عن الجابري نحن لا نتكلم عن مفكر فقط بل عن المفكر وعن المناضل السياسي وعلى من وجد أمام شيئين "هل أمزج بين السياسة والفكر أم أضحي بالسياسة للفكر وما قيمة الفكر إذا لم يخدم المجتمع. الجابري هو هذه الطروحات وهذه الإشكالات".

صحيفة الوسط البحرينية - العدد 5384