العدد 5011 - الخميس 26 مايو 2016م الموافق 19 شعبان 1437هـ

مرارة حبر... قصة قصيرة

رقص قلبي فرحاً، عندما أعلنت أسماء المبتعثين إلى الخارج، كان اسمي الثالث في القائمة! لم أكن متوقعاً أن أحصل على البعثة، إذ كانت الإجراءات صعبة... كانت - أيضاً - أسئلة اللجنة الوطنية صعبة ومحيرة نوعاً مَّا. مع أنني كنت الأول في مدرستي، كنت أعلم أنني سأتنافس مع صفوة الصفوة من الطلبة والطالبات في بلدي للحصول على البعثة للدراسة في الخارج. كان اسمي الثالث... أخيراً.

أتذكر حينما حان موعد مقابلتي... جلست أمام اللجنة مرتجفاً: كنت أجلس أمام ثلاثة... رجلين وامرأة. ابتسم الجميع بهدوء، ثم بدأ الأول بطرفة لكسر الحائط الجليدي الذي كان بيننا: «هل تحتاج يا بني أن نطفئ الأضواء حتى تهدأ؟» قهقه الجميع بصوت هادئ ... زاد ارتباكي قليلاً ثم هدأت. وبعد التعارف والأسئلة الخفيفة والطريفة عن الدراسة والمعدل المدرسي وعن هواياتي أحسست أن النقاش أصبح جادّاً بالتدريج. أوضح لي الرجلان أن أحدهما مسئول في وزارة التعليم والآخر كان أكاديميّاً متقاعداً ... أما المرأة فكانت مديرة قسم البعثات الخارجية.

«أخبرني عن طموحك الشخصي بشكل عام ... يا ولدي» تحدث الرجل الأول بعد أن ساد صمت لبرهة. كانت إجابتي عفوية جداً وبريئة نوعاً مّا، هز الرجل رأسه بالرضى. ثم بادرني الرجل الثاني بسؤال وجدته ربما لغزاً: «ماذا ستقدم لمن يسعى في مساعدتك ويفني عمره في راحة بالك؟ هل ستكافئه؟» أجبته ببداهة واضحة: «نعم! وكيف لا وهو من ربّاني وسعى في راحتي ومساعدتي كي أبني مستقبلي؟» كنت - حينها - أفكر في والدي الذي كان كذلك. كانت صورته تتراقص أمام عيني وأنا أتحدث. ابتسم الرجل الثاني وهو يسمع إجابتي ويتأملها. ثم هزَّ رأسه سروراً. أما المرأة فكانت تسألني عن تصوري مستقبلاً، وكيف سأساهم في بناء مجتمعي بعد أن أحصل على البعثة الدراسية وأرجع إلى بلدي. كانت إجاباتي مفعمة بالحيوية والتفاؤل والنشاط!

ذلك اليوم... بعد عودتي إلى البيت... كنت أفكر في والدي... لم أكن أعلم لماذا! دلفت إلى غرفة مكتبه المكتظة بالكتب والمخطوطات القديمة التي لمعت سطورها دومًا، وفاحت منها رائحة الورق القديمة. كان والدي يقلب كتاباً صغيراً لم أكن أفهم لماذا يوليه عناية خاصة. مع أنه انتابني الفضول دائماً عندما ألمح الكتاب مسجى على طاولة المكتب... إلا أنني أجدني أتحير دائماً عندما تقع عيني على عنوانه «المعرفة والمراجعة والتجديد». كان لونه قاتماً بصورة لم أكن أعهدها.

«ها قد رجعت يا بني... كيف كانت المقابلة مع اللجنة؟»، و بدأت أسرد له قصتي بحماس واضح، وكان يبتسم ويتأمل. بعد أن أنهيت حديثي قال لي: «ولدي... هل فهمت سؤال الرجل الثاني؟» أجبته: «نعم! نعم! نعم! لقد ربيتني على مقابلة الخير بالخير يا والدي...». قاطعني والدي: «يا ولدي ... ستكون عندك أمانة يجب أن تحافظ عليها وتستثمرها. سوف تتفتح أمامك عوالم كبيرة وكثيرة ... وعليك أن تتحمل مسئولية كبيرة عندما تعود إلى موطنك».

لم أكن أفهم هذه الفكرة حينا... كنت مثالاً ممتازاً للشاب الأرعن الذي لم يكن يعرف أدنى معان في هذه الحياة... كان همي أن أنهل من شتى العلوم... أن أبحر في آفاق المعرفة الإنسانية البحتة. كنت شغوفاً بتاريخ الإنسانية ومناهج المعرفة وتلك الحياة التي يعيشها البشر في صوامعهم يلتهمون أمهات الكتب ويلاحقون المعارف المخزونة في كل زاوية منها. كنت على استعدادٍ لعقد صفقة مع الشيطان، كما فعل توفيق الحكيم وفاوست ... (المعرفة مقابل الشباب وكل لحظة من لحظات العمر). لذة المعارف كانت عارمة! لم أمل منها! فهي تتجدد كل يوم! كانت مثل (الجنون التطوعي).

مرت السنوات الثلاث التي قضيتها بإحدى أعرق الجامعات الغربية كلمح البصر! قضيتها في البحث والتنقيب عن المعرفة المطلقة والبحتة! ومن خلال الكتب سافرت لجميع أنحاء الأرض! تعرفت على أنماط وضروب فكرية... تعرفت على الكثير من العقول العلمية والفلاسفة والنحاة وأصحاب المذاهب الفكرية والفلسفية... تعمقت في الكثير من القضايا المنطقية والايدولوجية التي شغلت البشرية لقرون. الغريب في الأمر أنني وجدت كل شيء تعلمته خلال دراستي كان دائما يقودني إلى نتيجة واحدة: المعرفة البشرية ناقصة! غير مكتملة! كلما زادت تتناقص بشكل غريب! كل شيء يسير نحو دمارٍ عارم وشامل! لا أعلم ما هو!

بعد عودتي... جلست مع والدي في مكتبه... تبسم وهو يرى الكثير من المعاني والأسئلة قد ارتسمت في وجهي. أخرج كتابه الصغير وناولني إياه بهدوء. قال لي: «الآن يا بني... آن أن تقرأ هذا الكتاب». سألته: «و لماذا الآن؟!» أجابني:» الآن ستحمل على عاتقك أمانة كبيرة... ستنقلها لمن بعدك... المعرفة والمراجعة والتجديد. الزمن سرمدي... لكن المعرفة متجددة ومتراكمة. يجدر بك أن تراجعها وتضعها نصب عينيك».

لاحقاً... أهداني والدي مذكراته وخواطره حينما كان طالباً بالجامعة ... كانت أول أوراقها الصفراء مؤرخة بتاريخ ...1961 (كلية ...). بدأت أقرأ بعض سطورها ... تعجبت! فليست سطورها طلاسم يصعب عليّ تحليلها وفك مكنوناتها... كانت تختزل كل شيء تعلمته في رحلتي! لفت نظري أحد السطور... حيث كان: «المعرفة الإنسانية متجددة ومتراكمة! ربما أكون ذلك الإنسان الذي سيطوعها لخدمة نفسه ومجتمعه... ربما أكون الإنسان الذي أضع كل ما أعرفه للوصول لما لا أعرفه! ربما أكون ممن ورث المعذبين في الأرض... ثم كسر القيود... ربما أكون سعيداً عندما أتغلب على المرض الذي انتشر في قلب البشرية حينما أجدد أفكاري... و أبتسم رغم كدري! ما فائدة الحياة حينما تكون مجرد ساعات ولحظات أقضيها متناسياً من حولي وما حولي؟ ها أنا أستقبل هذا العام الجديد... لكنني لا أحس أنه جديد إلا عندما أجلس وأحاسب نفسي! سأجلس! سأعاتب نفسي! سأهديها كل ما توصلت إليه... سأنبهها لكل عثراتها وأخطائها! إن لم أستطع أن أنقلها من صومعتها إلى جنتها... عند ذلك سيقوم من بعدي بهذه المهمة... ليست مستحيلة! نعم! ليست كذلك! ربما لن أستطيع! ربما أغدو إنساناً اجتهد فأخطأ! لكن ما سيحظى به كل جيل من بعدي هو الخبرة المتجددة! سيستفيد من بعدي عند وقوفه عند تاريخي الذي سيندثر داخل الكتب».

أطبقت الدفتر الصغير المتهالك وأنا أحس بالمرارة! كانت كلمات أبي ومعانيها تترنح في مخيلتي... سألت نفسي: إن انتهجت طريقاً مغايراً لطريقي... هل سأصل إلى ما أبحث عنه؟، هل ستكون المعرفة المتجددة حبراً على الورق؟ إذا كانت المعرفة أداة للتداول فحسب... فهي لن تثمر إلا مزيداً من السطور والسطور... الآمال والآمال المتجددة!

أيمن زيد

العدد 5011 - الخميس 26 مايو 2016م الموافق 19 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:42 ص

      سلمت اناملك يا ايمن .. مقالاتك مشيقه وممتعه .. بالتوفيق

    • زائر 1 | 3:47 ص

      قصة مُفيدة و رائعة
      شُكراً للكاتب الكريم ، و شُكراً للوسط
      و أتمنى لكم دوامَ المُوفقيّة
      و السير على طريق المعرفة المُتجدّدة و الفاعلة نحوَ الإصلاح و التغيير و الإرتقاء !!

اقرأ ايضاً