العدد 119 - الخميس 02 يناير 2003م الموافق 28 شوال 1423هـ

السياحة الدينية مرة أخرى

الكاتب الصديق حسن مصطفى كعادته دائما يطرق الجديد في كتاباته وينأى عن المألوف. وتسمح له أريحيته وروح التسامح الواسعة بالانتقال اللطيف بين المفاهيم المعاصرة والتراثية من دون أية عقد وحواجز، كما ينتقل ماء الورد في الزجاج الشفاف بلطف خفي وذكاء لماح في تعبير عما بعد حداثة زاخرة وعملية تحتفي بالحياة بعيدا عن النصوص وتتجاوز التنظير إلى التأثير في مجرى الأشياء من حولنا. وما تناوله حسن مصطفى في مقالته يوم الجمعة 27/12/2002 م في صفحة تراث عن «السياحة الدينية» في المدينة المنورة على مشرفها الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه الكرام، يتيح لنا توسيع دائرة التعاطي مع مفهوم السياحة الدينية ليشمل أمكنة وأزمنة مختلفة.

ولكن قبل التوسع في ذلك تجدر الإشارة إلى أن الشعار الذكي الذي حمله المهرجان السياحي الديني الرسمي الذي نظمته إدارة المدينة المنورة وهو (عبادة واستفادة) يتمثل واقعا في أننا كلما أعطينا الاعتبارلـ (الاستفادة) استطعنا أن نحرر (العبادة) من جمودها العقائدي ونجعلها شأنا حياتيا لا دينيا فقط. حدث هذا ويحدث في كل الأمكنة التي تحتضن مراكز ومقامات للسياحة الدينية.

وبالمقابل ستكون العبادة هي الحارس الروحي لئلا تطغى (الاستفادة)، فهو يخفف من غلو النفعية ويلطف من ماديتها بما يعبر عن توازن الشخصية الإنسانية في الإسلام فلا نفعية تطغى على روح الإنسان ولا رهبانية تحرم المنفعة المادية، «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا»، (سورة الجمعة: 10) وهو ما وجد مصداقا له في أن الأسواق في الحواضر الإسلامية حتى اليوم تقام بالقرب من المساجد والجوامع، في دلالة بالغة على البعدين الديني والدنيوي في الشخصية الإسلامية، بل إن النصوص الفقهية تعطي للصلاة في مسجد السوق أجرا أعلى من الصلاة في مسجد القرية. ولو أخذنا شقيقتنا الكبرى العربية السعودية موطن الحرمين وثاني القبلتين، مثالا لهذا التبادل الغني بين (العبادة) و (الاستفادة)، لوجدنا أنه حين كانت (العبادة) فقط محل (الاعتبار) مع تجاهل الاستفادة كان التشدد سيد الموقف. وقد عبّر عن تسيده بتقييد زيارة الأضرحة وخصوصا الرسول (ص) والزهراء وأئمة البقيع (ع).

استنادا إلى حجج أقل ما يقال عنها إنها ليست محل اتفاق كل المسلمين. بل وأكثر من هذا، طال التقييد مساجد أثرية مثل مسجد المباهلة، وجبل أحد وغار حراء وغير ذلك من الآثار.

ولكن لما وضعت (الاستفادة) في الاعتبار إلى جانب (العبادة) ولو إلى حد ما بحسبان ما يضخه زوار الأضرحة من شيعة إيران وشيعة دول الجوار بالإضافة إلى قسم لا يستهان به من السـنــة، في السوق السعودية من ملايين الريالات من خلال الشراء والاستئجار واستخدام المواصلات، كان لا بد من تخفيف هذه القيود. وهو ما حدث فعلا، فلا يمكن الحديث عن سياحة دينية من دون وجود ما يمكن أن نسميه ليبرالية دينية، تعطي لكل طقس مساحة كافية من حرية الممارسة، ولا يمكن تصور سياحة دينية في المدينة المنورة دون المرور بضريح الرسول وغيره من الآثار.

وهذا بالضبط ما علمنا إياه سنــة المشرق العربي مثالا. فهذه المجتمعات إذ توجد المقامات في سورية والعراق تحررت من عقدة الاختلاف المذهبي بشأن زيارة المقامات، وهاهم يجنون دائما وعلى الخصوص الآن ثمار هذا التسامح من خلال مئات الآلاف من الزوار الذين تتزايد أعدادهم كل عام ولا تنقطع وفودهم صيفا وشتاء.

ومن المفارقة في هذا المجال القول إن كل أشكال الدعم العربي الشعبي والرسمي للعراق في ظل الحصار والمقاطعة لم تصل لأن تضاهي التوافد العفوي لآلاف الزوار المؤمنين في كل شهر برا وبحرا غير عابئين لا بالحصار ولا بخلافات أنظمتهم مع العراق، ولا بمخاوف اندلاع حرب وشيكة، ومقيمين لفترات طويلة أحيانا، ومن المستغرب ألا يتم إلقاء الضوء إعلاميا على هؤلاء الفقراء بينما يتم الاحتفاء بسارقي الأضواء وعشاق الكاميرات الذين يجعلون من كل زيارة لهم للعراق حدثا قوميا مجيدا!!

وسعى الأردن حديثا إلى استثمار وجود بعض المقامات فيها من أجل استقطاب الزوار الشيعة، فاليوم أصبح من الغباء تحكيم الأيدلوجيا إذ يجب تحريك الاقتصاد.

ولا تكاد تجد في بلاد المشرق العربي، سورية والعراق خصوصا، ما يوحي بأية هويات مذهبية متناقضة، تفصل بين الزائر والبائع أو بين المستأجر والمالك، فلا شيء يهم في هذا العالم غير الثقة المتبادلة بين زائر يطلب العبادة وبائع يطلب (الاستفادة). ومن هذه النفعية المخففة أو (البراغماتية المحدودة) إذا صح التعبير، ينبع التسامح.

ولعل من الأمثلة الطريفة الشائعة التي يوردها الزوار هو وجود ملالي سنــة في أضرحة سامراء يقومون (بتزوير) أي بقراءة نصوص الزيارة، للزوار الشيعة مقابل مبالغ زهيدة.

وحتى في السعودية نفسها في مواسم الحج والعمرة لا يضع مقاولو المواصلات أي اختلاف مذهبي في اعتبارهم وهم يوفرون الباصات المنزوعة السقوف للحجاج الشيعة الذين يعتقدون بطلان الإحرام تحت ظل متحرك، كسقف السيارة أو غيره. وهكذا يبدو أن أقصر طريق لتقارب فرق هذه الأمة المرحومة لا يمر عبر العقيدة والثقافة والجدل المذهبي ولكن عبر الاقتصاد.

أعود الآن إلى البحرين فأشير إلى أن طقوس عاشوراء التي تقام هنا لا نجد لها مثيلا في كل بقاع الوطن العربي بما في ذلك كربلاء حيث مقام صاحب الذكرى، وبما في ذلك إيران وهي أكبر بلد شيعي من الناحية السكانية.

لقد مكن التسامح الطويل العمر بين فئات هذا البلد من جهة وبينها وحكامها من جهة أخرى، والذي ساد عهودا طويلة، من ازدهار طقوس عاشوراء وتطورها لأشكال غير مسبوقة على مستوى الوطن العربي جعل هذا البلد جزءا مميزا بتعدديته المذهبية وحريته الفريدة في الممارسة الدينية. ومن الناحية الثقافية لا يمكن النظر إلى هذه الممارسات بوصفها تعبيرا مذهبيا، بل من الممكن القول إنها بالأحرى طقس بحريني وطني فريد، وجزء من التراث الحي لهذا البلاد ومن رأسماله الرمزي، بمقدار ما تتميز أسبانيا بمصارعة الثيران، وتتميز (ريو دي جانيرو) بالبرازيل بمهرجانها الشهير، وهو تراث جميل ومسالم يتمتع بقابلية كبيرة للتسويق في سبيل الجذب السياحي الديني بحيث تتحقق (الاستفادة) مقابل (العبادة). وإذا ما أخذنا المهرجانات الأربعة الكبرى في عاشوراء في كل من السنابس والديه وعالي بالإضافة إلى المنامة، لكان لدينا مادة دينية وفلكلورية غنية يمكن ترويجها اقتصاديا من دون النيل من قدسيتها الشعائرية، إذا ما تم استثمارها بحذر وذكاء.

إن ما نعنيه بكون طقوس عاشوراء البحرينية تتجاوز كونها مذهبية خالصة إلى كونها سمة بحرينية، هو بالتحديد ما يجتذب شيعة الخليج العربي، إلى هنا، وإن بأعداد محدودة، إذ لا تشبع ليالي عاشوراء في بلدانهم نهمهم الشعائري.

أعتقد أنه بقليل من التخطيط وكثير من التسامح والإدراك لأهمية استثمار هذه الهوية المزدوجة للشعب البحريني يمكننا تسويق هذه الجزيرة باعتبارها مركز جذب سياحي لشيعة الخليج وربما لغيرهم من العرب والأجانب في موسم عاشوراء في عملية متعددة الأبعاد ستحرك سوق الفنادق والشقق والمشتريات والمواصلات.

ويكفينا مثالا ما يؤدي له هذا الموسم على المستوى المحلي المحدود من إنعاش هائل لسوق الأغذية عموما واللحوم خصوصا، وسوق الإلكترونيات والتجهيزات وغيرها، فكيف سيكون الأمر لو فكرنا في ذلك بشكل مخطط له، نحقق فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة

العدد 119 - الخميس 02 يناير 2003م الموافق 28 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً