تناولت في الجزء الأول من هذه الدراسة التاريخية - الدينية عملية التبشير الاولى التي قام بها البرتغاليون في الخليج العربي خلال القرن السادس عشر بعد احتلالهم التام لهرمز العام 1515م. ومع ان الحظ لم يحالفهم هنا كما في الهند وشرق آسيا لوجود الوثنيين واصحاب الديانات الارضية بكثرة، فإن قصة تحول إحدى أميرات هرمز العام 1586 إلى المسيحية الكاثوليكية في (جوا) بعد هروبها من القصر الملكي في هرمز إلى الهند، يضع امامنا اكثر من تساؤل عن هذا الموضوع.
ونحاول اليوم من خلال تتبع تلك القصة التي تنشر هنا لأول مرة، ما حدث لتلك الأميرة الهاربة من الخليج، باعتبارها اول اميرة هرمزية تفعل ذلك في ذلك الزمان. عل وعسى نكتشف ما اخفاه عنا الزمان عبر تلك العصور.
حدث هروب تلك الأميرة الهرمزية في عهد الملك الهرمزي (فرخ شاه الثاني) وهو من سلسلة الحكام الضعاف في هرمز البرتغالية. وفي الفترة نفسها التي كان فيها Mathias da) (Albuquerque هو القائد العسكري لقلعة هرمز.
يقول الرحالة الهولندي ( فان لينشوتن) في نسخة كتابه المطبوع العام 1885 ما يلي: «في العام 1586 جاءت أميرة من هرمز إلى ( جوا) وكانت حينها على دين محمد (ص) ، وطلبت أن تُعمّد على دين المسيحية الكاثوليكية وفضلت ان يكون عرابها في التعميد هو نائب ملك البرتغال في الهند (Dom Duarte de Menezes)، وقد تم تغيير اسمها إلى ( (Dona Philippa، وتزوجت هناك في جوا من احد ضباط البحرية البرتغالية في الهند وهو Antonio azevedo Coutinho».
ويصف الرحالة الهولندي هذه الأميرة بأنها كانت بيضاء ذات شعر اشقر وتتميز بسمات جمالية كبيرة من ملاحة الوجه و القسمات الشرقية. وكان معها احد اخوتها الشباب وتم تعميده هو الآخر في (جوا) وصار مسيحيا!!
إثر زواج أنطونيو من الهرمزية منحه ملك البرتغال واسبانيا ( فيليب الثاني) مبلغا من المال تحت اسم «زمالة قباطنة هرمز». ولأن البرتغاليين كان هدفهم المال دائما، فقد ارادوا جني الارباح من وراء هذا الزواج من ممتلكات (الدونه فليبا) الجديدة. صدرت الأوامر بعد حوالي ستة أشهر من الزواج إلى الزوج بضرورة السفر إلى هرمز لتحصيل الايجارات والمبالغ المتبقية هناك والتي تعود إلى الأميرة الثرية. وهنا تظهر بعض الرومانسية في هذه الحكاية... إذ تعلقت الزوجة العاشقة بزوجها وهما في بداية الارتباط إلى درجة انها اصرت على عدم مفارقته والسفر معه إلى هرمز. وقالت له وهي باكية: «لا أستطيع الحياة من دونك ابدا». لكن زوجها البرتغالي اقنعها بأن هناك خطورة في السفر معه إلى بلادها مرة أخرى وخصوصا انها هربت من اهلها. واقتنعت الأميرة على مضض وتجرعت آلام الفراق من اول لحظة لسفر زوجها، ولكنها طلبت من زوجها ان يسرع بالعودة وألا يتركها وحيدة لمدة طويلة.
وبينما انطونيو يستعد للسفر في منطقة (باردوس) القريبة من جوا في انتظار الرياح الموسمية لتقله السفينة إلى هرمز، لعب الفراق وكآبة الحزن بالأميرة العاشقة وامتنعت عن الطعام حتى سقطت طريحة الفراش وفي الوقت الذي ارتفعت فيه اشرعة السفينة التي ابحرت بالزوج الى هرمز، ازدات آلام الفراق ولوعته و صرخت الهرمزية باسم زوجها... وفارقت الحياة حزنا عليه في العام نفسه الذي تحولت فيه إلى المسيحية وتزوجته.
وبسبب اعجاب السلطات البرتغالية في جوا بشجاعة الأميرة الهرمزية وتقديرا لتحولها إلى المسيحية، ولأنها أول فتاة هرمزيّة تهجر بلادها وتتحول إلى المسيحية، فقد اجريت لها مراسم تشييع ودفن تليق بأميرة في مكانتها.
للأسف لا احد يعلم حتى الآن ما كان يدور بعقل وفؤاد تلك الفتاة الهرمزية، ولماذا فعلت ذلك؟ لأن المصادر الملكية الهرمزية تكتمت على هذا الموضوع - كما يحدث عادة اليوم في مثل هذه الحالات من الهروب والزواج في الخارج لهذه الطبقة - لكن يبدو انها كانت تعاني من عدة مشكلات اسرية في ظل الصراع الاسري الدائر في هرمز على العرش بين افراد العائلة الملكية. ولأنها لم تستطع حل تلك مشكلات مع ضعف ايمانها الديني في مجتمع تجاري صرف، لذلك فضلت اقصر الطرق واسرعها وهو الهرب كما يفعل بعض شباب هذا العصر.
والشيء بالشيء يذكر، فقبل هذا أيضا وفي العام 1549م (956هـ) قدم الشاه الفارسي (طهماسب) - وكان شديد التدين ولا يحبذ التعامل مع المسيحيين كثيرا - شكوى شديدة اللهجة إلى أحد سفراء البرتغال ويدعي (هنريك دي ماسدو) عندما كان في بلاطه مبعوثا من قبل الملك (جواو الثالث) البرتغالي. تلك الشكوى كانت أيضا بشأن إجبار البرتغاليين في الهند (جوا) لإحدى زوجات تجار هرمز على الدخول في المسيحية. والقصة اوردها لكم هنا ترجمة عن الفارسية كما ذكرها المؤرخ الايراني (جهانكير قائمقامي) في بحثه «مشكلة هرمز»، إذ يقول: وقعت حادثة العام 956هـ كانت السبب في توتير العلاقات بين ايران والبرتغال. ففي الوقت نفسه الذي كان فيه السفير البرتغالي مع الشاه طهماسب، ظهر في بلاط الشاه (زيد نسامي) وهو احد تجار هرمز الكبار ومن ذوي النفوذ هناك. وقدم شكوى على البرتغاليين الموجودين في الهند، إذ انه عندما كان هناك في عمل يخص تجارته وزيارة للهند أيضا، قام القساوسة البرتغاليون بإدخال زوجته في المذهب الكاثوليكي والديانة المسيحية واخذوا منه مبالغ ضخمة ثمنا للبضاعة التي اشتراها. اشعلت هذه الشكوى نار الغضب والثأر في نفس الشاه المتعصب للإسلام، فهدد الشاه السفير بأنه يجب أن يكتب في الحال إلى حاكم هرمز البرتغالي ليرفع الأذى عن اتباعه فورا في هرمز ويصلح الأمر، وإلا سيرسل جيشه لغزو هرمز. ومنع السفير من مغادرة ايران ما لم تحل المسألة. ارسلت رسالة إلى هرمز مع مرافق السفير البرتغالي. جاء الرد من حاكم هرمز البرتغالي بأن زوجة التاجر الهرمزي هي التي أبدت رضاها وميلها إلى دخول المسيحية وانها ليست آنذاك في هرمز. وبهذا الرد أخمدت نار الفتنة التي كانت قد اشتعلت وسمح الشاه للسفير بأن يعود من حيث أتى إلى هرمز في طريقه إلى البرتغال. ولكن - كما يضيف قائمقامي هنا - بقي الحزن والأسى في نفس الشاه طهماسب على ما حدث».
وتلك إذا قصة اخرى لزوجة ذلك التاجر الهرمزي حدثت اثناء فترة الحكم البرتغالي في الخليج، والتي لم تُبحث كما يجب حتى الآن وربما نقف عندها ذات يوم أيضا... فالغزو البرتغالي الأوروبي للخليج ليس مجرد قوة عسكرية جاءت لسلب الخيرات وذهبت... بل هناك اهداف كثيرة كانت وراء ذلك الغزو لابد ان نقف عندها دائما بالنقد والتحليل العميق، وهذا ما يدعونا إلى تبني مشروع فتح قسم للدراسات البرتغالية في جامعة البحرين، فحضارة الشعوب ليست اعمدة من الاسمنت وليست في قوارير المعامل ولا في الأسواق والمصارف فقط!!
الحكاية القادمة
من هو راشد المسقطي الذي حكم هرمز رئيسا للوزراء؟!
العدد 211 - الجمعة 04 أبريل 2003م الموافق 01 صفر 1424هـ