تعبير جميل... يقع ضمن الأقوال التي صنعت من ذهب... يستحق أن يخط بماء الذهب ... ويغلف بإطار مصنوع من الذهب. يستخدم ليعبر عن حقيقة وواقع ليس غائبا عنا. وبعيد كل البعد عن أي تفسير أو تأويل. فهو يعني الكثير من الناحية اللغوية كما يعني أكثر من الناحية المعنوية. جرت العادة على استخدام مثل هذا التعبير لوصف عطاء الأمهات الذي لا ينضب، ويأتي مرتبطا بقول الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
الشاعر يرى الأبناء على أنهم امتداد للأصل وهي الأم. أما الأبناء فهم الفروع الذين لابد وأن يرثوا الأم في طباعها، أخلاقها، مبادئها، واستقامتها. لذلك عندما تفتقد الأم الأخلاق، العلم، المبادئ والاستقامة، لابد وأن الأبناء سيفتقدون هذه العناصر، وذلك لأن الأم لا تمتلكها، وبالتالي فلا يمكنها توريثها إلى الأبناء. إذن فإن «فاقد الشيء لا يعطيه». وللإيضاح، لو جاءني سائل ليطلب دينارا على سبيل المثال وأنا لا أملك الدينار، فكيف ألبي له طلبه وأعطيه الدينار؟ كيف سأعطيه ما لا أملك؟!
يستخدم هذا المصطلح أيضا لمن ينسبون إلى أنفسهم نجاحات الآخرين! فيدعون بأن فلانا ناجح لأنهم قاموا بتربيته وقاموا بتعليمه ومساندته! لا يعترفون بأن فلانا ناجح لأنه إنسان عصامي، بنى نفسه من الصفر، مجد ومجتهد وبأن «من جد وجد ومن زرع حصد ومن سار على الدرب وصل»، وبأنهم أصلا لم يقوموا بتربيته وتعليمه، وبأنهم كانوا على علم تام بأنه إنسان طموح ولديه جميع مقومات النجاح. فلو فشل هذا الشخص نفسه لقالوها بملء أفواههم «فلان إنسان فاشل».
غريب هذا الزمان! يتشدقون بهذه الكلمات بينما هم غارقون في الفشل بكل ما تعني كلمة الفشل من معان. فشل في تربية الأبناء وتعليمهم وتركهم كالزرع البري، أي «زرع الله على الله»... فشل في تلقينهم المبادئ والأخلاق والقيم الإنسانية... وفشل حتى في متابعتهم... حتى يأتي يوم ليجدوا فيه قسما من الأبناء وقد شقوا طريقهم في الحياة بتوفيق من الله وبمجهودهم الشخصي ونجحوا. قسم آخر من الأبناء فشل فشلا ذريعا حتى في فهم معنى أن يكون مسلما ويطبق مبادئ الإسلام ويراعي حرمات الآخرين، وأقلها تطبيق الحديث النبوي «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده». وقسم أخير تنحى جانبا واتخذ مكانا هادئا لا هو سلبي ولا إيجابي، عملا بمقولة من عجزوا عن نصرة الحسين (ع) وقالوا «ما لنا والدخول بين السلاطين». ففي مثل هذه الحالات لا يستطع الأب أو الأم أن يمنحا الآخرين ما لم يمنحاه لأبنائهما، فهذا مناف للمنطق.
قال الإمام علي (ع) لابنه الحسن (ع): «بني وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، فلو أن شيئا أصابك أصابني، ولو أن الموت أتاك أتاني». هذا يؤكد لنا أن الأبناء هم الامتداد الطبيعي للآباء، فما يقوم به الأبناء ينعكس سلبا على آبائهم من حيث التربية والتوجيه، ولذلك قيل إن «الفتى سر أبيه». إذن، إذا فقد الأب تربية أبنائه التربية الصحيحة انعكس ذلك على تصرفاتهم الاجتماعية. وبالتالي يظهر لنا أن من لم يقم بتربية وتعليم أبنائه لا يستطيع أن يعلم ويربي الآخرين، وبالتالي «فاقد الشيء لا يعطيه».
يستخدم المصطلح كذلك للمسئول الذي لا يمكنه أن يكون مثلا أعلى لموظفيه. كيف سيحاسب الموظفين على التأخير إن كان يأتي للعمل متأخرا؟ كيف سيعلم الموظفين تطبيق العدالة بينما هو نفسه متحيزا الى فرقة أو شلة دون أخرى؟ كيف سيعلم الموظفين الالتزام وهو مليء بالمخالفات؟ كيف سيبني فيهم الثقة في النفس وهي من مقومات الموظف الناجح وهو يريدهم مستعبدين عنده ورهن إشارته؟ كيف سيعلمهم تطبيق اللوائح القوانين وهو يضرب بالقوانين عرض الحائط؟ الغريب أن مثل هكذا مسئولين يحظون بشعبية كبيرة بأساليبهم الملتوية، وبطريقة أو بأخرى يتم ترفيعهم ووضعهم في مراكز هم أصلا عاجزون عن تحمل ما هو أقل منها! مثل هكذا مسئولون تنطبق عليهم مقولة «فاقد الشيء لا يعطيه». لا أريد أن أخلط الأوراق ولكن الموضوع يأخذني إلى أوضاع نقابة «بابكو». فبدلا عن قيامها بتمثيل الموظفين وحل مشكلاتهم، أصبحت النقابة مشغولة بنزاعات داخلية وتيارات متضاربة لا نهاية لها، حتى انسحب منها الكثير من الموظفين الذين فقدوا الثقة فيها وفي كل من يدعي بأنه حريص على مصلحتهم. فغذا كانت النقابة غير قادرة على حل مشكلاتها فكيف ستعالج مشكلات الموظفين؟!
نعود ثانية إلى قول «فاقد الشيء لا يعطيه». النقابة تفتقد الاستقرار والهدوء، فكيف ستمنح الموظفين الاستقرار والهدوء؟!
وعموما، يستخدم هذا المصطلح لكل من يتوقع منه أن يحتل المثل الأعلى والقدوة لمن حوله. ولا يعني ما ذكرته مسبقا أن الأرض قد خليت من المثل الأعلى... فـ «لو خليت خربت».
أميرة بوحميد
العدد 1664 - الثلثاء 27 مارس 2007م الموافق 08 ربيع الاول 1428هـ