منذ ثمانينات القرن الماضي دخلت الصين طور إعادة تشكيل شخصيتها السياسية في سياق انفتاح اقتصادي مدروس. والآن بعد مرور نحو ربع قرن على نظرية «رأسمالية الدولة الاشتراكية» تبدو الدولة في حال من النمو الذي قد يفرض عليها بعد فترة زمنية خطة تعيد النظر في آليات التقدم الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي في توزيع الثروة. وإعادة الهيكلة في حال قررتها قيادة الحزب الحاكم تحتاج إلى برنامج يجدد المصالحة بين الرأسمالية والاشتراكية ويعيد ترتيب علاقات التعايش بين الماضي الامبراطوري (قوة المركز) والحاضر المنفتح على آليات السوق.
حتى الآن لاتزال القوى المنتجة خارج سياق التطور الاقتصادي الذي حققته الصين في العقود الثلاثة الأخيرة. فالناس تراقب وتلاحظ وبدأت تنتبه إلى وجود تحولات مهمة على صعيد التحديث والتنمية ولكنها لم تنتقل من موقع المشاهد إلى دور الشريك أو المشارك في نتائج هذا التقدم. الدولة بما تعنيه من أجهزة وقطاعات وفعاليات ومؤسسات هي المستفيد الأساسي من المتغيرات فهي تتحكم في آليات الإنتاج ومصادر الطاقة وهي أيضا تسيطر على الموارد والمداخيل، على حين الناس باستثناء فئة قليلة منهم لاتزال حركة عملهم تقع خارج دائرة أنشطة الشركات الحديثة. وهذا الأمر يدل على وجود تعارض يحتاج لاحقا إلى معالجة لردم التفاوت بين رأسمالية دولة مركزية تحتكر السلطة والقوة والمال وبين أنماط إنتاج تقليدية تشكل الموارد الرئيسية لمداخيل الناس.
الدولة في الصين ثرية وغنية وتكدس المال وتبادر إلى وضع الخطط والمشروعات للتنمية والتطوير، على حين الناس في معظم قطاعاتهم المنتجة يتحركون خارج لعبة مصالحة قررتها «دولة اشتراكية» في تعاملها الواقعي مع السوق الدولية وشروطها الرأسمالية. وبهذا المعنى تختلف الدولة في الصين عن تلك الدولة في الولايات المتحدة. فالدولة في أميركا مفلسة وتعتمد على الديون وسندات الخزينة لتأمين احتياجات مؤسساتها الخاصة أو المستقلة أو تلك التي تتعامل معها في إطار القطاع الخاص (الأسواق المالية، مؤسسات التصنيع الحربي، شركات الطاقة والنفط) ولكن المجتمع غني في ثرواته الخاصة ويستفيد بنسب متفاوتة من النشاط الاقتصادي الذي تقوم الدولة بتغذيته.
في الصين الحديثة لاتزال مشكلات الفقر والبطالة والتفاوت بين الريف والمدينة موجودة بقوة. وهذا الأمر ربما اقتضى لاحقا تأسيس جولة جديدة من الثورات الاجتماعية. فالصين مرت بأربع ثورات في القرن الماضي، الأولى قادها الحزب الوطني في العام 1911 وأدت إلى اقتلاع الامبراطور وإعلان قيام الجمهورية. والثانية قادها الحزب الشيوعي وأدت إلى انتزاع الاستقلال وإعلان قيام الاشتراكية في العام 1949 بقيادة ماوتسي تونغ. والثالثة قررتها قيادة الحزب في نهاية الستينات وأدت إلى اندلاع الثورة الثقافية الكبرى في مطلع السبعينات. والرابعة قررتها أيضا قيادة الحزب في الثمانينات بعد أن فشلت الثورة الثقافية في تحقيق أهدافها الاجتماعية فأعلنت سياسة الانفتاح الاقتصادي على العالم وتبني نظرية السوق في إدارة الإنتاج.
الثورة الرابعة لاتزال تمر بها الصين. فهي جاءت نتاج الفشل الثقافي في انتزاع الامبراطورية من جذورها الحضارية وهي أيضا جاءت ردا على تخلف وسائل الإنتاج وعدم قدرتها على التنافس في السباق الدولي.
نظرية «رأسمالية الدولة الاشتراكية» شكلت ذاك الحل التوفيقي أو التصالحي بين دولة اشتراكية واقتصاد سوق يخضع للشروط الرأسمالية. كذلك جاءت النظرية لتجدد المصالحة وتؤكد التعايش مع التاريخ. فالثورة اقتلعت الامبراطور من قصره ولكنها لم توفق في اقتلاع الصين من ثقافتها الامبراطورية. وهذا ما فرض على قيادة الحزب إعادة قراءة تلك العلاقة بين حاضر ملتبس في نموه الاقتصادي وذاك الماضي الذي يشكل الوجه الحضاري للمجتمع. وبسبب هذه الحاجة التي تجمع التقاليد الموروثة إلى جانب التقنيات العالية أخذت الدولة تعيد اكتشاف الماضي وتقوم بتوظيفه في الاقتصاد الحديث وما يتطلبه من سياحة داخلية وانفتاح ثقافي على عالم يريد التعرف إلى حضارة كبرى لعبت دورها في الماضي في توليد طاقات ساهمت في التقدم الإنساني.
الصين الآن تعيش حال التقدم السريع باتجاه المستقبل (استثمارات، تحديثات، شركات، توظيفات، توسعات في الإنشاءات) إلى جانب حال الانفتاح العقلاني على الماضي الامبراطوري. وهذا الجمع بين التقاليد الموروثة ونزعة الاستهلاك المعاصرة (هواتف نقالة، سيارات يابانية وأوروبية، ملابس وتقليعات غربية، صالونات حلاقة وتصفيف الشعر وتجميل وغيرها) موجودة في كل ناحية أو زاوية في بجين. فالعاصمة تشبه قفير النحل في الحركة والإنتاج والتزاحم والتنافس والبيع والتسويق. الكل يعمل ويبحث عن دور. والكل يدرك أن هناك ثورة كبرى تعيشها الصين ويتوقع منها الكثير من المنجزات. إلا أن البعض يتخوف من أن يؤدي التطور السريع إلى نمو قشرة ارستقراطية تكتنز المال وتمنع تداوله في السوق الداخلية.
سوق الصين المحلية هائلة الحجم. فالإنتاج يعتمد على ضخامتها كذلك الاستهلاك حتى السياحة. الصين حتى الآن لم تستفد من الخارج إلا بحدود نسبية فرضتها علاقات تجارية وقعت الدولة اتفاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الآسيوية والإفريقية. فالعلاقات الاقتصادية مع العالم لم تخرج حتى الآن عن دائرة اتفاقات رسمية موقعة بين الدولة بوصفها ذاك الطرف الذي تتركز فيه القوة وبين دول أو شركات قررت نقل مشروعاتها بقصد الاستفادة من حجم السوق الداخلية. وهذا النوع من الاقتصاد الرأسمالي المُوَجَّه أو المُسَيْطَر عليه من «الدولة الاشتراكية» أدى إلى نمو تفاوت في التطور بين سوق تشجع أصحاب المصالح الكبرى على فتح مصانع لبيع المنتوجات وبين دولة تحتكر المال وتحد من تدخل الناس أو مشاركتهم في آليات التقدم الحديثة. لذلك يرجح أن تحصل ثورة خامسة في الصين تكون مهمتها إعادة ترسيم حدود العلاقة بين ثروة الدولة وإنتاج المجتمع لتصبح متناسبة مع درجات التقدم التي حققتها في العقود الماضية. فالدولة الاشتراكية في الصين لم تعد قادرة على العودة بعجلة الاقتصاد إلى الوراء باعتبار أن إنتاجها يعتمد على السوق الدولية، كذلك لا تستطيع استكمال تقدمها إلى الأمام من دون مراجعة تلك الآليات التي تتحكم في قطاعات الإنتاج الداخلية وعمليات إعادة توزيع الثروة ومردود ذاك الانفتاح على العالم ودوره في تحقيق التوازن بين طبقات المجتمع والمدينة والريف.
بقايا امبراطورية
بانتظار تلك اللحظة الزمنية التي يتوقع أن تشهد خلالها الصين ثورتها الخامسة بدأت الدولة تنتبه إلى قوة سوقها الداخلية وأهمية الثقافة وما تعنيه الساحات والميادين والأحياء والقصور والحدائق من رمزية لتأكيد الطابع الحضاري الخاص لعملية التقدم. هناك الآن عودة إلى الماضي ومحاولة اكتشاف وظيفة تلك الثروة الثقافية التي لا تقدر بثمن. والدولة التي دخلت مرة في طور محاولة اقتلاع الرموز الحضارية وتدميرها وتحطيمها بدأت تدخل الآن طور إعادة اكتشاف الماضي وتلوينه وتزيينه وحمايته من التلف أو الخراب. وتشكّل هذه المصالحة بين التراث والتقاليد من جهة والتقنيات والمستوردات من جهة أخرى حاجة سياسية لتثبيت التعايش المطلوب وضبط إيقاع مسار المركزية مع الانفتاح في آن.
كل الرموز والبقايا الامبراطورية تخضع الآن لعملية تجميل وتجديد وترميم لإظهار الماضي قوة فاعلة لايزال تأثيرها مستمرا على نهضة الحاضر. ساحة تانامين التي شهدت تظاهرات وانتفاضات وإضرابات وحركات تمرد وعصيان تحولت الآن إلى مكان يغص بالسياح الأجانب وتلك الوفود الزاحفة من بر الصين. فهذه الساحة (سكوير) تعتبر الأوسع في العالم وتقع فيها مؤسسات الدولة الرسمية والمصرف الوطني القديم وقصر الشعب (البرلمان) ومعابدُ إضافة إلى مقبرة ماوتسي تونغ التي ترتفع على حائط مدخلها صورة الزعيم المؤسس بعلو خمسة أمتار وعرض ثلاثة. الصورة العملاقة تستبدل سنويا فيما جثمان ماو يرقد في الداخل ويستقبل يوميا آلاف الزائرين.
«معبد الجنة» اسم قصر امبراطوري يقع على مقربة من ساحة تانامين كان يستخدمه الامبراطور ثلاث مرات في السنة ويتحدث إلى الناس من خلف أسواره.
«قصر الصيف» كان آخر القصور التي شيّدها الامبراطور الأخير وتتمثل فيه مجموعة نماذج من الأبنية والبحيرات والقنوات تمتزج فيها الثقافة الصينية متأثرة بأسلوب العمارة الأوروبية.
أما «المدينة المحرمة» فهي تحتوي داخل أسوارها المرتفعة إلى عشرة أمتار على مجموعة قصور وأبنية تشير إلى مركز الدولة وهيبة امبراطورها. فالمدينة هي المركز وعاصمة الامبراطورية والمكان الذي يعيش فيه صاحب الدولة وخدمه وحشمه وكل طاقم المساعدين والمستشارين.
كل قصر من هذه الصروح الضخمة يعتبر تحفة فنية ومعمارية تدل على وجود عظمة حضارية تجسدت في أشكال مختلفة خلف أسوار كان لا يستطيع عامة الشعب الدخول إليها أو ملامستها في العهد الامبراطوري. الآن فُتِحت الأبواب وأخذت القصور تستقبل الناس التي تتوافد من المناطق القريبة والبعيدة لرؤية مشاهدَ كانت محرمة عليهم قبل العهد الجمهوري.
هذه الكنوز الثقافية لا يقتصر وجودها على مركز المدينة وإنما تمتد إلى محيطها وجوارها المنتشر إلى الشمال وأطراف العاصمة. فعلى مقربة من بجين عاصمة الامبراطورية منذ عهد أسرة مينغ تقع مقابر 13 امبراطورا حكموا الصين من هذه الأسرة. وليس بعيدا عن تلك المقابر يمتد السور العظيم.
سور الصين يعتبر معجزة بشرية وهو المَعْلَم الوحيد الذي يمكن رؤيته بالأقمار الاصطناعية من صنع الإنسان على الأرض. فهذا السور يمتد على مرتفعات جبلية وهضاب وتلال يبلغ طولها الإجمالي 4500 كيلومتر. وفكرة بناء السور جاءت تلبية لحاجة عسكرية فرضتها طبيعة المواجهات الدائمة بين حضارة مركزية تبحث عن الاستقرار والطمأنينة وثقافة منغولية متنقلة تعتمد سياسة الغزو لتأمين العيش. وأدى هذا التضاد بين ثقافة مستقرة وأخرى متنقلة إلى توليد فكرة السور للحماية ومنع الغزاة من التقدم أو الاقتحام. الفكرة من أساسها جاءت لتلبية حاجة عسكرية لوجستية وتحولت لاحقا إلى مهمة امبراطورية توارثها حكام الدولة على امتداد 700 سنة حتى تم الانتهاء من بناء السور.
السور هائل الحجم يرتفع وينخفض ثم يعلو ويهبط بحسب ما تفرضه مساحات الجبال المسننة والهضاب والوديان التي تحتاج إلى مخافرَ أمامية كانت وظيفتها مراقبة تحركات المغول والإبلاغ عن هجوم في حال الأزمات. والفكرة تأسست بعد أن لاحظ قادة الجيش الامبراطوري أن قوات المغول (منغوليا الآن) تعتمد على الخيول في معاركها القتالية وهي تكون قوية في مواجهات السهول والسهوب وتضعف حين تنتقل المعارك إلى الجبال. فالأحصنة تفقد قدرتها على الحركة والمناورة في الأمكنة الوعرة والمرتفعات. وأدت هذه الملاحظات إلى تأسيس مشروع بناء السور فوق المرتفعات الجبلية لمنع الغزوات والغارات.
السور الآن عديم الفائدة في عصر الطيران والصواريخ كذلك لا قيمةَ سياسية له بعد أن تمت المصالحة بين المغول (منغوليا) والصين في العصر الامبراطوري. ما تبقى من السور هو محافظته على قيمته التراثية والعمرانية. فالسور يعتبر ثروة تاريخية في كل المعايير. فهو يمتد على كل المرتفعات والجبال التي تحيط بالعاصمة ويذهب غربا وشمالا إلى أفق غير منظور. ولأنه شيّد لتلبية حاجات عسكرية فإنه اعتمد فكرة التحصينات والمخافر التي تربطها ممرات يتراوح اتساعها بين ثلاثة أمتار أو ستة وتتصل كل الجهات بسلالمَ يتراوح ارتفاع درجاتها بحسب الحاجة والمنطقة ويصل أحيانا علو الدرجة الواحدة إلى نحو متر أو مترين.
هذا السور (العسكري) يصعب اجتيازه أو قطع مسافاته؛ لأنه يتطلب قوة بدنية وفترة زمنية لا يقوى عليها الإنسان المعاصر. ولكن مشاهدة مقاطعَ صغيرة منه تعتبر كافية لتقديم صورة مختصرة عن معنى بناء سور كلّف مئات المليارات وأزهق أرواح آلاف البشر وتطلب مئات السنين وانتهى الأمر به إلى انهيار وظيفته العسكرية والسياسية بعد عقد تلك المصالحة بين الصين ومنغوليا في العصر الامبراطوري.
هذا الجانب الإنساني والعسكري سقط بحكم التقادم الزمني إلا أن فكرة بناء الأسوار لعزل البشر وفصلهم لاتزال موجودة ويعاد تَكرارها من برلين إلى فلسطين وانتهاء ببغداد.
الصين المعاصرة اجتازت السور وتجاوزت عقده وتحصيناته ومخافره ووظائفه. فهي لم تعد تعني في الذاكرة المعاصرة تلك العزلة أو المكان البعيد في أقصى المعمورة. الصين الآن ترمز إلى بلد الإنتاج الهائل من الحاجات البسيطة التي أخذت تجتاح أسواق العالم من شرقه إلى غربه... وبعيدا عن السور العظيم.
العدد 1902 - الثلثاء 20 نوفمبر 2007م الموافق 10 ذي القعدة 1428هـ