العدد 308 - الخميس 10 يوليو 2003م الموافق 10 جمادى الأولى 1424هـ

جولة بين آثار الدمار في حي الأعظمية

مشاهدات عائد من بغداد

هولاكو مرّ من هنا... قالها الأعظميون حين سألت بعضهم عما جرى لحيّ الأعظمية أثناء اقتحام بغداد من قبل قوات الاحتلال الأميركي... وآثار الدمار والخراب تنتشر في كل جزء من مرافق هذا الحيّ الكبير المزدحم بسكانه وحركته اليومية... فالحياة تبدو مشلولة في هذا الحي والحوانيت والاسواق والمحلات المعروفة بازدهارها وغناها مغلقة... والوجوم يبدو على وجوه الاعظميين وكأن عيونهم معلقة في السماء وهم يجدون أنفسهم فجأة بين دبابات وآليات وجنود الاحتلال التي احتلت حيّهم بجميع مفاصله... حتى بيتي الذي أسكنه منذ العام 1939 لم يسلم من قذائف الاباتشي ورصاص الجنود على رغم بعده النسبي عن ميدان المعركة التي جرت أيام 10 و11 و12 أبريل/ نيسان 2003 بين القوات الأميركية وأهالي حي الاعظمية.

وحيّ الاعظمية واحد من أقدم أحياء مدينة بغداد وسمّي بهذا الاسم لوجود قبر الامام الاعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت فيه. وينسب الى الإمام الأعظم المذهب الحنفي وكذلك مدرسة الرأي والقياس. ودفن في هذا المكان ايام الخليفة أبي جعفر المنصور في القرن الثاني الهجري ودفنت الى جانبه الخيزران والدة الخليفة هارون الرشيد. وتضم مقبرة الأعظمية قبور عدد من الرموز العلمية والدينية والاجتماعية والسياسية التي برزت على امتداد التاريخ العراقي. وقريب من المقبرة يرتفع بناء جميل تعتمره قبة زرقاء كبيرة دفن تحتها الملك فيصل الأول والملك غازي والملك فيصل الثاني والملك علي ملك الحجاز وشخصيات اخرى من العائلة المالكة السابقة. وأطلق على هذا الحي عند تأسيسه ايام الخليفة الثاني من بني العباس أبي جعفر اسم الرصافة (رصافة المهدي) وامتد جنوبا ليؤسس تاريخيا مدينة بغداد الحالية التي هي امتداد للعصر العباسي وشرقا باتجاه محاذي لنهر دجلة ليؤسس حي الشماسية الذي اصبح في حينه موطنا للأديرة والكنائس المسيحية.

والأعظمية المعاصرة يبدأ تاريخها العام 1634 حين اخذها السلطان العثماني مراد الرابع من أيدي الملوك الصفويين حكام ايران وجاء بقبائل العبيد والنعيم ليتوطنوا فيها بهدف حماية قبر الامام الأعظم من العبث. ومن حينه قامت في هذا الحي أجمل البساتين والحدائق واشتهر بهوائه النقي وبانخفاض درجة الحرارة فيه قياسا الى بقية احياء بغداد، اذ ان نهر دجلة يشكل قوسا دائريا حوله.

وعند قيام المملكة العراقية العام 1921 أقام الملك فيصل الاول في احد القصور المطلة على النهر وهو قصر شمشوع وشيد البلاط الملكي فيه. وخلف البلاط الملكي قامت احياء الارستقراطية السياسية العراقية التي انبثقت منها غالبية الحكومات والوزارات العراقية.

وحول هذه الاحياء امتدت المحلات المسكونة من قبل كبار وصغار موظفي الدولة وكبار الادباء والعلماء والشعراء والصحافيين والكتّاب. فقد سكن هذا الحي من الرؤساء كل من الشريف شرف (الوصي على العرش العام 1941) ومحمد نجيب الربيعي والرئيسين الشقيقين عبدالسلام وعبدالرحمن محمد عارف. أما من رؤساء الوزارات فكان ياسين الهاشمي وطه الهاشمي وجعفر العسكري وحكمت سليمان ورشيد عالي الكيلاني ومصطفى العمري ونورالدين محمود ومحمد فاضل الجمالي وناجي طالب وعبدالرحمن البزاز. ومن الشعراء الرصافي والجواهري وبلند الحيدري وأحمد حامد الصراف وبدر شاكر السياب وكمال نصرت وسليمان العيسى (السوري الاسكندروني) وعائلة الخزرجي وأميرة نورالدين وغيرهم من كبار الشعراء. ومن القصصيين سكن هذا الحي رائد القصة العراقية عبدالملك نوري وعدد آخر من الروائيين والقصصيين المعروفين. ومن الادباء والمؤرخين سكن الاعظمية عدد كبير لا يحصى، نأتي على سبيل الذكر على قسم منهم امثال محمد بهجة الاثري وأحمد سوسة ومصطفى جواد وفؤاد عباس وفؤاد جميل وسالم الالوسي وحسين الأمين والعلامة منير القاضي وحامد مصطفى وعلي الوردي وجواد علي وعبدالعزيز الدوري وغيرهم من الرموز العلمية والادبية المعروفة. ومن الفنانين سكن رواد الحركة الفنية في العراق منهم جواد سليم ونايف حسن وحافظ الدروبي واسماعيل الشيخلي وعطا صبري وأكرم شكري وقاسم ناجي وزيد صالح وكذلك الرواد الاوائل أمثال عبدالقادر الرسام وصالح زكي ورؤوف الحبيبة جي وحسن سامي. ومن المعاصرين اسماعيل فتاح ونهى الراضي وسهام السعودي وغيرعم من الرسامين والنحاتين والخزافين المعروفين.

أما المعماريون فقد اشتهر منهم من سكان الاعظمية رفعت الجادرجي ومعاذ الالوسي وهشام منير وهشام المدفعي وطارق الجدة وقحطان المدفعي وقحطان عوني. ومن قادة الحركة الوطنية نذكر على سبيل المثال كامل الجادرجي وصديق شنشل وجعفر ابوالتمن وفايق السامرائي وصلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان. وككل المبدعين كان لكبار الاطباء المعروفين وجودهم الواضح في الاعظمية أمثال كمال السامرائي وسامي سليمان وعبدالامير علاوي وهاشم علاوي والبحرانيان احسان وزهير والسوداني فيصل واليستاني عبدالحميد وأحمد صميم الصفار وآخرون غيرهم.

ومن الموسيقيين كان روحي الخماش والهام المدفعي وسالم حسين وسعدون جابر. ومن العوائل التجارية القديمة المعروفة في بغداد سكن هذا الحي آل البغدادي وآل الجلبي وآل الشابندر وآل الخضيري وآل الرحيم وآل شنشل وغيرهم.

وفي هذا الحي قامت أول جامعة في العراق المعاصر التي سميت حينئذ بجامعة أهل البيت اسسها فيصل الاول ثم قامت بعدها في الحي نفسه جامعة بغداد ثم جامعة الحكمة (الأميركية) والجامعة المستنصرية وأسس المجمع العلمي العراقي مركزه في هذا الحي وكذلك المكتبة المركزية والمعهد القضائي ومعهد الفنون الجميلة ومسرحه المعروف وأكاديمية الفنون الجميلة التي اسسها خالد الجادر.

عرفت الاعظمية بطبيعة اهلها وتسامحهم فقد عاش الاعظميون على مر العصور بتآخ وألفة لا يميز بينهم دين أو عرق أو أي انتماء طائفي، فعلى رغم الغالبية العربية المسلمة فيها سكنها عدد غير قليل من اليهود والنصارى، وكان لليهود فيها كنيسان مافتآ مفتوحين لحين مغادرة اليهود العراق الى فلسطين بين العامين 1950 و1951 وفيها كنيسة مسيحية تمارس فيها الواجبات والطقوس الدينية لحد اليوم. أما المساجد المتعددة والمنتشرة في محلات حي الاعظمية فإنها تعود لمختلف المذاهب والطوائف الاسلامية.

وعرفت الاعظمية بتكاتف أهلها ووقوفهم صفا واحدا تجاه جميع المواقف الوطنية والحساسة في التاريخ العراقي وكان لها الدور البارز في كل الحركات والفعاليات الوطنية عبر التاريخ العراقي المعاصر فكانت سباقة في ابداء معارضاتها لكل ما يمس سيادة واستقلال ووحدة شعب العراق.

لا غرابة اذن ان نرى ابا الشعراء ابا الطيب المتنبي يقف بشموخ عند بوابة الاعظمية الجنوبية ويضع يده اليمنى على صدره ليستصرخه النحات الكبير محمد غني حكمت ويقول للملأ جميعا: انا الذي نظر الاعمى الى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم. وأن نرى الفارس الشاعر عنترة بن شداد يمتطي صهوة جواده ليقف في منتصف الاعظمية يلقي بكلماته العذبة في أذني حبيبة قلبه تنساب عطرا مع أنغام خرير دجلة ويتذكر ما كان يقوله عبدالقادر الرسام وهو يرسم الغروب على شاطئها: ان اجمل غروب في العالم هو غروب الشمس فوق الاعظمية.

واليوم وبعد اجتياح قوات الاحتلال الأميركي حي الاعظمية يبدو غروب الشمس فوق الاعظمية موشحا بخرائط الدمار والخراب... والشفق الاحمر الذي رسمه عبدالقادر ينفث رائحة الدم مشوبة بسموم الدخان المنبعث من البيوت المحترقة والمباني التي هدّها القصف الذي لا يعرف التمييز والرحمة. ففي كل زقاق من الازقة القديمة رسمت القنابل فوق جدران البيوت العتيقة العريقة لوحات تترية وقعتها الاباتشي بتوقيعها الاسود الممزوج بالحقد والكراهية، وأمام كل بيت بقايا حديد لسيارة العائلة الصغيرة وقد تركتها الصواريخ تراكما مهملا من ذكريات ابريل الدموي. وحول هذا الركام يلتف الاطفال يسردون للزائر وقائع الايام الثلاثة التي عاشها الاعظميون في مقاومتهم للاجتياح الأميركي الحاقد، ويرددون اسماء قتلاهم من الاطفال والنساء والشيوخ والرجال. وعند مدخل الزقاق تستقر دبابة المحتلين يربض فوقها جندي مدجج لا يأبه لسباب وشتائم الاطفال المجتمعين امامه وربما يفسرها بعبارات ترحيب وتبجيل.

وعلى جوانب الشوارع والساحات العامة ترتفع المباني المحترقة والمهدمة التي تركتها الطائرات خرابا خاليا ممن كان يشغلها أو يقطنها فلا المصارف ولا الدوائر ولا عمارات المكاتب الخاصة ولا الاسواق خلصت من الدمار الشامل لحي الاعظمية. أما حدائقها التي كانت تزهو بزهور الروز والجيرانيوم فقد تحولت الى مقابر لابنائها وضيوفها الذين اغتالتهم رصاصات الاحتلال.

ولم يسلم قبر الامام الاعظم من الدمار، فالساعة التاريخية التي يفتخر بها آل محسوب - العائلة التي صنعتها والتي تتوارث اجيالها صيانتها وتشغليها - أصابتها الصواريخ من جهات كثيرة، والشبابيك التاريخية المصنوعة يدويا بطريقة (الخردة - كار) اصبحت رذاذا من خشب وزجاج محطم، والشباك الفضي التاريخي الموشح بخط الثلث الجميل والذي يغطي القبر تناولته القذائف والطلقات. وفي مواجهة الجامع الكبير تبدو القبة الزرقاء المنتصبة فوق منتدى الامام الاعظم وقد نخبتها الصواريخ والقذائف وتنتشر أمامها سيارات المدنيين المحترمة التي اصبحت بقايا من ركام من الحديد المهترئ. وحول الساحة الكبيرة التي كانت تزهو بمطاعم الرصيف المعروفة لدى البغداديين والدبلوماسيين الاجانب لم تعد العمارات سوى هياكل سوداء ممزقة تشهد على ضراوة الهجوم الوحشي الحاقد على هذا الحي.

ولم تسلم من الخراب مقبرة الاعظمية التي تضم في تربتها رفات عدد كبير من شخصيات العلم والدين والفكر والسياسة امثال الزهاوي والرصافي والالوسي ما ينبئ بأن الحقد الذي طال تراث العراق المخزون في متاحفه ومكتباته امتد الى قبور بعض من صنع ذلك التراث ليعبر ولو بشكل رمزي عن بربرية المحتلين الممتدة من صناع القرار حتى اصغر جنودهم.

وعلى رغم كل ذلك يتباهى الاعظميون بأنهم قاوموا بشدة هجوم المحتلين ويفتخرون بالاسماء التي خرت تحت وابل الصواريخ والقذائف... يجاهرون بصوت واحد انهم وككل العراقيين يرفضون الاحتلال بكل صلابة وتصميم ويبقى ارتباطهم جذريا بالارض التي دافع اجدادهم عنها حين غزاها التتار العام 1258 وحين غزاها الانجليز العام 1917. فإن كان التاريخ يعيد نفسه فلابد إذن لقوات الاحتلال ان تأذن بالرحيل لأن ساعة سيطرة الشعب على مصيره آتية لا ريب فيها. فكما قاوم الاعظميون كبقية فصائل الشعب العراقي سطوة الدكتاتورية والطغيان خلال 35 عاما من الحكم البعثي القمعي الدموي يطبعون اليوم بصمات ابهامهم على وثيقة رفض الاحتلال الاجنبي وسحق كل محاولات الاذلال والتركيع

العدد 308 - الخميس 10 يوليو 2003م الموافق 10 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً