العدد 2611 - الخميس 29 أكتوبر 2009م الموافق 11 ذي القعدة 1430هـ

زوبعة النقاب وأزمة المؤسسة الدينية (2-2)

يرى الإِمام أبو حيان أن الأرجح أن المراد بنساء المؤمنين، ما يشمل الحرائر والإِماء وأن الأمر بالتستر يشمل الجميع، وأن الحكمة من وراء هذا الأمر بإسدال الجلابيب عليهن، درءا للتعرض لهن بسوء من ضعاف الايمان.

فقد قال - رحمه الله -: والظاهر أن قوله: «وَنِساء المؤمنين» يشمل الحرائر والإِماء، والفتنة بالإِماء أكثر لكثرة تصرفهن، بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح... «ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ» لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت فى غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها.

ويبدو لنا أن هذا الرأي الذي اتجه أبو حيان - رحمه الله - أولى بالقبول من غيره، لتمشية مع شريعة الإِسلام التي تدعو جميع النساء إلى التستر والعفاف».

4. دافع عن شيخ الأزهر بعض الأساتذة بجامعة الأزهر، وممن استمعت إليه في دفاعه عنه الدكتور مبروك عطية، في برنامجه (الموعظة الحسنة) بقناة «دريم» الفضائية، وكان مما قاله أن الأزهر معروف عبر تاريخه برفض النقاب، وأن الوجه ليس عورة عنده، فإصرار الفتاة على النقاب وهي تتعلم في هذه المؤسسة الرافضة له معناه أنها تريد أن تسرق من الأزهر إجازة علمية لتضفي بها مشروعية على أقوالها فيما بعد... إلى آخر ما قال. والملاحظة هنا أن أبرز كتاب أفصح فيه الأزهر عن موقفه من القضايا المعاصرة هو كتاب بيان للناس، فماذا قال هذا الكتاب عن النقاب، جاء بالكتاب نصا: «والنِّقاب الذي يغطي وجه المرأة جُزء من الحجاب المفروض عليها في ملابسها وحِلْيَتِها وفي عُطورها وسائر ما تَتَزَيَّن به، وتَحرِص عليه كرائم النساء من قديم الزمان.

وهو في الإسلام مُختلَف فيه بين الفقهاء في وجوبه أو ندبه لغير الفاتِنات بجمالهن الطبيعي، وذلك بناء على اختلافهم في تفسير قوله تعالى: «ولا يُبدِينَ زِينَتهنَّ إلا ما ظهرَ منها ولْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ» (النور: 31)، وقوله: «يَا أَيُّهَا النبيُّ قلْ لأزْوَاجِكَ وبَناتِكَ وَنِساءِ المؤمنينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ» هل ضرب الخمار على الجيوب وإدناء الجلاليب يستلزم تَغْطِيَة الوجه أو لا؟ وهل الوجه من الزينة الظاهرة التي لا مانع من إبدائها؟

وكان كرائم النساء يَحْرِصن عليه؛ حياء من الرجال لا أمرا واجبا، «فالرسول (ص) لم يُنكِر على سبيعة بنت الحارث أن أظهرت الكحل والخِضاب حتى رآها الصحابي أبو السنابل» (رواه البخاري ومسلم)، ومع جواز كشْف الوجه يُحْرَم نظر الأجنبي إليه، والنصوص في ذلك كثيرة».

5. ولعل بعضا ممن يرى رفض الأزهر للنقاب، يقصد أن المذاهب الأربعة لا ترى وجوب النقاب، وهي المذاهب التي يدرسها الأزهر. لكن الواقع يشهد بأن الأزهر لا يقتصر في تدريسه على المذاهب الأربعة، بل إنه يدرس المذاهب الثمانية في قاعات الفقه المقارن، بل يقارن بين أقوال المجتهدين عموما في المسألة الواحدة، ويخرج عن المذاهب الأربعة في بعض ما يختاره للتشريع في قضايا الأحوال الشخصية وغيرها. ومعروف أن عددا من أهل العلم من غير المذاهب الأربعة، بل ومن بعض العلماء المحسوبين على التمذهب بالمذاهب الأربعة يرى وجوب النقاب. ومنذ متى والأزهر يقيد نفسه بالمذاهب الأربعة تدريسا وتنظيما وتشريعا، فالمذاهب الأربعة، بل الثمانية ترى أن مصافحة المرأة الأجنبية - إذا أمنت الشهوة والفتنة - حرام، فهل يرى هؤلاء المدافعون هذا الرأي الآن؟

6. دافع بعض رجال التيار الليبرالي في مصر إبان هذه الأزمة عن حق النساء في النقاب، وأن الحرية الدينية مكفولة للجميع، ومن تجليات هذه الحرية عدم حظر النقاب على من ترغب فيه. والحق أنه مع اختلافي الكبير والأيدولوجي مع التيار الليبرالي إلا أنني أجد أن من الواجب عليّ أن أشيد باتساق بعض رجالاته مع فكرة الليبرالية، فمع رفضهم الشخصي للنقاب في ذاته إلا أنهم أدانوا ما فعله شيخ الأزهر من قهره هذه الفتاة تساوقا مع فكرتهم في الحرية الدينية، والتي من الممكن أن تقودهم غدا إلى الدفاع عن حرية الشذوذ الجنسي مثلا، وحرية التملص من تكاليف الشريعة للمسلمين.

وفي هذا الوقت الذي نجح فيه بعض رجال التيار الليبرالي في هذه الأزمة سقطت الأقنعة عن منظمات نسوية طالما صدعتنا بالدفاع عن حقوق المرأة في العمل وفي حقها في الحفاظ على جسمها ضد الختان، وفي حقها في رفض انفراد الزوج بالطلاق، وفي حقها في رفض تعدد الزوجات، وفي حقها في أن تلبس ما تشاء، وما حادث صحافية السودان منا ببعيد... وجدناها في هذه الأزمة صامتة متوارية وراء الحدث، في وقت كانت المرأة المنتقبة فيه أشد ما تكون إلى مؤازرتهن لها، فسقطت هذه المنظمات في الأزمة، وظهر للجميع أنها لا تدافع عن حقوق المرأة من حيث هي حقوق، ولكن تدافع عما تقتنع به من حقوق!

7. قد يبدو حظر النقاب افتئاتا على الناس في حريتهم في لبس ما يشاءون، ولكن المشهد ينطوي على بعد أعمق من ذلك؛ إذ إنه يمثل مصادرة لحرية الناس في معتقداتهم، فحظر النقاب على من تعتقد فرضيته تقليدا لمن تثق في علمه وأمانته حظر لها من ممارسة عقائدها وأفكارها، وفرض عقيدة عليها بالقوة. ومعلوم أن العامي يجب عليه أن يسأل من يثق في علمه وأمانته لا أن يفرض عليه آخرون أنفسهم وأفكارهم.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز «شركة الأبدان» فهل يجوز له منع الناس؟

فأجاب: «ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك؛ لاسيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار. وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على «موطئه» في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول (ص) تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد: لا تسمه «كتاب الاختلاف» ولكن سمه «كتاب السنة».

ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله (ص) لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه.

العدد 2611 - الخميس 29 أكتوبر 2009م الموافق 11 ذي القعدة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً