جلس بعض الرجال والنساء الذين يفضلون أن يسميهم المرء دعاة حقوق الإنسان في حديقة خلفية تابعة لمبنى قديم يقع في الشطر الشرقي من مدينة برلين. فيما مضى هؤلاء يحتسون الشاي ويتناولون الخبز القوقازي وراحوا يتحدثون عن الجديد عن الشيشان لفت أحدهم النظر إلى أن هذا المكان كان في نهاية الثمانينات مقرا لاجتماعات سرية لمعارضي النظام الشيوعي، ومن هنا تم التخطيط لمسيرات الاحتجاج التي أدت إلى انهيار النظام وأيضا جدار برلين. كان هذا قبل خمسة عشر عاما واليوم يلتقي هؤلاء مجددا للحديث عن حرب بوتين الخاصة في الشيشان التي دخلت عامها الخامس في عهده وعامها العاشر بعد أن بدأها الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين. وجلس الحاضرون يستمعون إلى ما جاء به معارضون شيشان يعيشون في المنفى الألماني ليقولونه.
وقد أصبح هذا اللقاء دوريا إذ تشعر المجموعة أنها مهتمة كثيرا بقضية الشعب الشيشاني وطموحه في الاستقلال عن روسيا. بين المعارضين الشيشان وزير الشئون الاجتماعية في حكومة الرئيس المنتخب أصلان مسعودوف الذي يقود مقاومة سرية ضد القوات الروسية في الشيشان ويدعى عبدي بيسلطانوف وكذلك نائب الرئيس الشيشاني المنتخب سعيد أبومسلموف المكلف بتوثيق جرائم الحرب التي يرتكبها الروس في الشيشان. وكان مسعودوف فاز بالانتخابات التي جرت في الشيشان تحت إشراف منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في مطلع العام 1997 وفي شهر مايو/ أيار من العام المذكور وقّع مع يلتسين اتفاق سلام في الكرملين لكنه انصرف إلى المقاومة السرية بعد اندلاع الحرب الروسية الشيشانية الثانية وهو مختبئ في مكان ما في جبال القوقاز، بينما يقيم وزير الخارجية في حكومته أحمدوف في الولايات المتحدة ووزير الثقافة أحمد سكاييف في بريطانيا. وتم أخيراً تعيين إكهارد ماس أحد معارضي النظام السابق في ألمانيا الشرقية رئيسا للجمعية الألمانية القوقازية التي تعقد اجتماعاتها بصورة عفوية ومن دون تحضيرات مسبقة. وقال ماس: لم يعد الحديث في هذه الحلقة يدور حول هونيكر وجهاز استخباراته(ستازي) وإنما يدور الحديث حول بوتين وأجهزة الاستخبارات الروسية. لا تقتصر المساعدة التي يقدمها داعية حقوق الإنسان الألماني الشرقي لأصدقائه الشيشان على تعبئة استمارات طلب اللجوء السياسي بل يوفر لهم الإقامة المؤقتة في مسكنه وفي مساكن أصدقائه ويقوم بدور بارز للتعريف بقضية الشعب الشيشاني. هذه الأيام ماس منشغل كثيرا بسبب وجود زائر جديد اسمه سعيد بومسلموف الذي تعبر سيرة حياته عن التاريخ الحديث للشيشان ومعاناة شعبه الصغير. ولد بومسليوف بحسب أقواله في كازاخستان العام 1953 وكان ستالين قد أمر بإبعاد الشيشان إلى هذا البلد في العام 1944 وبدأ الشيشان العودة إلى بلدهم بعد تراجع الزعيم السوفييتي نيكيتا خورتشوف عن سياسات ستالين. بعد الخدمة العسكرية درس بومسلموف الاقتصاد والفلسفة الألمانية في موسكو. دفعت به الدعاية السوفياتية المركزة ضد الألمان إلى حب التعرف على ألمانيا وشعر أن الشعب الألماني تعرض لاضطهاد السوفيات مثل الشيشان. شاء القدر أن يتعرف على فتاة من ألمانيا الشرقية حملت منه وحين قررت العودة إلى برلين الشرقية رفضت السلطات السوفياتية السماح له بمرافقتها لأنه ليس روسي الجنسية وليس عضوا في الحزب الشيوعي. قال بومسلموف: كل ما قلته أنني أريد الالتحاق بزوجتي ومولودنا لكنهم رفضوا الاستماع لاحتجاجاتي ما دفعني إلى الصراخ بهم: أنتم خنازير. كانت كلفة فقدان الأعصاب السجن عدة سنوات اضطر بومسلموف إلى قطع دراسته مدة عامين ثم واصل الدراسة لاحقا في جامعة غروزني في الشيشان. في الثمانينات بدأ العمل السري في إطار حركة «بات» وأسس في العام 1990 الحزب الديمقراطي الشيشاني وبعد عامين حصل على مقعد في البرلمان حتى العام 1997 وكان عضوا في وفد المفاوضات الشيشاني مع روسيا، وقال: تفاوضت طويلا مع الجنرال ليبيد ولم ألجأ لحمل السلاح فأنا سياسي مثقف ولست محاربا، واضاف: لقد استخف الروس بشعبنا على الدوام وحاولوا إقناع الرئيس دوداييف بالحصول على منصب عال في موسكو وكانت هذه مهزلة إذ إننا نعرف أن ستالين قضى على نسبة 60 في المئة من الشعب الشيشاني ولا نعتقد أنه يمكن الثقة بالروس في أي وقت من الأوقات.
بعد مقتل دوداييف عقب هجوم بالصواريخ في العام 1996 شغل بومسلموف منصب نائب الرئيس بندرباييف وبعد الانتخابات التي تمت في العام 1997 شغل منصب المستشار الأمني للرئيس مسعودوف وأصبحت الشيشان جمهورية مستقلة، لكن نزاعا داخليا بدأ يزعزع الأمور، ذلك أن الإسلام الذي لم يلعب أي دور في الحياة السياسية في الشيشان أصبح له أكبر أثر على سياسات الدولة بعد أن تم إقرار العمل بالشريعة الإسلامية. قال بومسلموف إنه شخصيا أيد إقرار الشريعة شرط أن يجري العمل بإسلام قوقازي. لكنه قال إن المشكلات كبرت بمجيء جماعات من العرب الذين سعوا إلى نقل حربهم الخاصة إلى الشيشان وأصبحوا ينظمون من أراضيها هجمات على جمهورية داغستان المجاورة.
قال بومسلموف إن بعض هؤلاء العرب كانوا يتحدثون اللغة الروسية أفضل من اللغة العربية وقد راوده مرارا أن موسكو أرسلتهم لإثارة الشغب في الشيشان والتعطيل على الجهود بإقامة علاقات جيدة مع الجيران. قال بومسلموف إنه لا يشك أن موسكو نفسها كانت وراء عمليات التفجير التي وقعت فيها بنهاية العام 1999 وقام بوتين على أثرها بإشعال نار الحرب الثانية في الشيشان المستمرة حتى اليوم. وانتقلت رحى الحرب في خريف العام 2002 إلى أحد مسارح مدينة موسكو وانتهت بكارثة. قال مسلموف إن بوتين حمل الرئيس مسعودوف مسئولية احتجاز رهائن في المسرح على رغم أنه كان يعرف تماما أن العملية من عمل القائد الشيشاني المتطرف شاميل باساييف. في الغرب يعمل مسلموف في الترويج لقضية شعبه ويقول: نحن لا نمارس الإرهاب بل نحن ضحايا الإرهاب وأن المقاومة الشيشانية موجهة ضد القيادة السياسية في موسكو والقوات الروسية وأضاف: على مدى سنوات طويلة كان الروس يقولون إننا عصابات وبعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول العام 2001 نقل بوتين عن بوش وصف الإرهابيين واستغل الفرصة لأن العالم لم يعد بعد الهجوم على الولايات المتحدة يفرق بين الإرهابيين والثوار الذين يصبون إلى حرية شعبهم واتهامنا بالإرهاب مرفوض تماما. أيده الحاضرون حين هزوا رؤوسهم حين قال: إذا نحن إرهابيون فماذا يمكن وصف ما يفعله الروس بنا؟
وفقا لأقوال إكهاردت ماس يعيش نحو 150 شيشانياً في المنفى البرليني وليس لديه معلومات واضحة عن عددهم في ألمانيا لأن السلطات الألمانية لا تعتبرهم مواطنين شيشان بل مواطنين روس. دلت التجارب أن الاستخبارات الروسية النشطة في ألمانيا تلاحق القادة الشيشان مثلما تتجسس على معارضي الكرملين في الخارج. ويعيش الشيشان الذين ينشطون بالعمل السياسي حياة خطرة. فقد اغتالت الاستخبارات الروسية الرئيس الشيشاني السابق بندرباييف في مدينة الدوحة إذ كان يعيش كلاجئ سياسي ولا يؤكد بومسلموف جازما أن اغتيال بندرباييف من تخطيط وتحريض الكرملين بل يضيف أن الاستخبارات الروسية تلاحقه مع رفاقه في برلين وكذلك من قبل مكتب حماية الدستور الألماني(البوليس السري). أشار بومسلموف إلى أن البوليس السري الألماني يجد صعوبة بالغة في تعقب نشاطات المعارضة الشيشانية في مدن ألمانيا ولم يستطع هؤلاء الحصول على معلومات عن خليتنا كما فشلوا بشراء متعاونين لظنهم أنه بوسعهم شراء الناس بالمال فنحن في الشيشان لا نبيع قضيتنا.
مازال بومسلموف ينتظر أن يجري البت بطلب اللجوء السياسي الذي قدمه للسلطات الألمانية وحصلت عرقلة جديدة بعد تدخل وزارة الداخلية الألمانية لأن الحكومة الألمانية لا ترغب في أن تؤثر قضية الشيشان على سير العلاقات الاقتصادية المكثفة بين ألمانيا وروسيا. على رغم أن وزير الخارجية أحمدوف حصل على حق اللجوء السياسي للولايات المتحدة وعلى رغم تحسن العلاقات بين واشنطن وموسكو وعلى رغم الجنون الأميركي من نتائج هجوم 11 سبتمبر 2001 ولذلك يعتقد مسلموف أنه سيحصل قريبا على رد إيجابي يضمن له العيش في المنفى حتى يتحقق النصر لشعبه
العدد 721 - الخميس 26 أغسطس 2004م الموافق 10 رجب 1425هـ