ولد الاديب والمفكر محمود المردي في العام 1924 وتلقى دراسته الاولى في مدارس البحرين. بدأ عمله الصحافي في العام 1950 بادئا في مواجهة الوجود البريطاني، وكانت مقالاته آنذاك تعبر تعبيرا حقيقيا عن تطلعات شعب البحرين في نيل الاستقلال ما أثار حفيظة السلطة البريطانية التي اصدرت أوامرها لاغلاق الصحيفة التي كان يعمل فيها.
ويقول مؤنس المردي كانت البحرين ومازالت منارا للفكر المبدع سواء في العمل الوطني أو في المجالات الاخرى ومن هنا كان محمود المردي صحافيا لم يتأثر بالضغوط التي مورست ضده من قبل السلطة البريطانية اذ سرعان ما أصدر صحيفة ثانية بعد الصحيفة الاولى التي تم إغلاقها.
وفي العام 1965 حصل على ترخيص باصدار صحيفة أسبوعية اسماها "الاضواء" التي اسست لبداية عمله الصحافي المنتظم في البحرين.
وفي بداية السبعينات اصدر صحيفة يومية اطلق عليها اسم "اضواء الخليج" ولكن لم تستمر بالصدور لقلة الامكانات المادية والبشرية.
وفي العام 1976 اسس المردي صحيفة "اخبار الخليج" وبعد العامين اصدر صحيفة "Gulf Daily Newsz باللغة الانجليزية وظل يرأس تحرير الصحيفتين حتى وافته المنية في العام .1979
حديث الذكريات
لذكريات الكفاح ومواجهة الصعاب طعم خاص والحديث عنها له طعم خاص ايضا يصل في بعض الاحيان الى ما بعد الخصوصية ليكون تأريخا وملكا للناس الذين عاش من اجلهم هذا المكافح أو ذاك.
ومن هنا يتذكر سفير البحرين السابق في الصين حسين راشد الصباغ أول لقاءاته مع الصحافي محمود المردي.
الصباغ يحكي
عرفت محمود المردي في صيف 1968 وكنت حينذاك اعمل موظفا في دائرة الإعلام التابعة لحكومة البحرين وكانت الدائرة تقع في الدور الثاني من بناية كبيرة ملاصقة لباب البحرين، ذلك المعلم الحضاري المهم بموقعه الاستراتيجي إذ تحيط به الاسواق وبعض المصارف والدوائر الحكومية الأخرى والمطاعم والفنادق الكثيرة وشركات الطيران، ولا ينقطع من حوله سيل السيارات بصخبها وضجيجها، ولا تكاد تتوقف أيضا حركة الناس الغفيرة والدائبة حتى تبدأ من جديد بزخم واندفاع اشد واقوى كان المردي دائم التردد على دائرتنا كلما سنحت له الفرصة وكانت زياراته الروتينية هذه مصدر سعادة غامرة لنا كما ان ابراهيم العريض رحمة الله لا يبخل علينا أيضا بزيارته بين الحين والآخر الى جانب بعض الشخصيات البحرينية المرموقة ومنها المرحوم أحمد الشيراوي وغيره لا يسع المقام هنا لذكرهم وما لبثت الا وانضممت الى محرري "الاضواء" وكتابها والمساهمة بالكتابة في الصفحة الادبية وتم كل هذا بمبادرة من المرحوم المردي فهو صاحب المبادرات الكريمة والنفس السخية في تشجيع الراغبين في ميدان العمل الصحافي بجوانبه المختلفة من ادب، وفكر وثقافة وتربية ومال واقتصاد، وغيرها. وأول ما لفت نظري وأثار فضولي وكذلك انتباه الزملاء الآخرين فيما يتصل بشخصية المردي مظهره الخارجي الارستقراطي الى حد ما فهو يدخن بشراهة مستعملا الغليون "البايب" الانيق الى جانب النظارة السوداء التي لا تبارح عينيه خلال ساعات النهار كل هذا كان يضفي على شخصيته شيئا من الهيبة أو قل الرهبة للذين لم يحتكوا به بصورة مباشرة، بينما هو في واقع الامر يتمتع بشخصية بسيطة هادئة بل حانية سرعان ما يألفها المرء عندما يعرف كنهها ويتوغل في اعماقها عن كثب وقد عرفها كل الذين أنسوا معاشرته واستأنس بآرائهم وارتاح الى صداقتهم بعيدا عن كل تكلف أو مجاملة وباح اليهم بكثير من مكنونات نفسه.
وماذا عن الجانب الآخر من شخصيته... جانب الموقف الرافض للوجود البريطاني على ارض البحرين؟
- المردي يتمتع بشخصية طاغية ومؤثرة ذات حضور كبير في الساحة البحرينية بأبعادها السياسية والصحافية والثقافية والاجتماعية. وتمتع أيضا بذهنية متقدة ومتفتحة وذات اطلاع واسع على كثير من المعارف الانسانية على رغم انه لم ينل من التعليم النظامي الا الشهادة الابتدائية، وهي شهادة متواضعة. وكان يعتد بها في تلك الأيام الخوالي التي نشأ فيها المردي وترعرع وسط ظروف معيشية صعبة.
واتصف المردي بشخصية وطنية بارزة ذات مشاعر دافئة وحيوية متقدة ونضج فكري رائع، وكل هذا أهله للنجاح في هذا المضمار الحيوي المهم وتغلب على كثير من الصعاب والتحديات ببذل المزيد من العمل والمثابرة كما قابل كل المضايقات أو السلبيات بكثير من التسامح والصفح والصبر ويكفيه فخرا ما نال من تقدير وحب وتكريم واعطته المكانة المرموقة والصدارة المتألقة التي يستحقها بين ابناء هذا الوطن المجدين والمخلصين. كنا نأنس الى حديثه الممتع في لحظات صفائه واعتدال مزاجه حين يحدثنا بإفاضة عن الوظائف الكتابية التي تنقل بينها ما بين العمل في شركة نفط البحرين وفي دائرة معارف البحرين وفي عمله المصرفي في بعض المصارف في البحرين والسعودية ولم تخل من تجارب ومعاناة صعبة في فترة الخمسينات أو قبلها بقليل ولكنها ساعدت على صقل شخصيته ومدها بأسباب الخبرة التي لم يكتسبها الا بعد كد وعناء ويبدو لي ان تلك الوظائف لم ترض طموحه الكبير هذا وكان يرنو الى ما هو أكبر من ذلك. ومن هنا نجده يقتحم ميدان الصحافة بكل ثقة لتحقيق آماله وتطلعاته ويصبح احد اعلامها البارزين.
الصحافي القارئ
ماذا عن قراءاته الخاصة؟
- لاحظت ولعه وحرصه على القراءة بنهم كبير إذ خص مكتبه بكثير من الكتب السياسية في اللغة الانجليزية المتمكن منها الى جانب قراءاته الواسعة بلغته العربية في مختلف المعارف ولاسيما تلك التي تتصل بعمله الصحافي والاعلامي. وكثيرا ما ردد على مسامعنا رغبته العارمة في اصدار صحيفة يومية ترضي طموحه الصحافي وتعبر عن توجهاته السياسية والوطنية وتحقق ما تصبو اليه نفسه من اقامة مجتمع الكفاية والعدل الذي نادى به ودعا اليه في كتاباته المبكرة بكثير من التفاؤل من خلال نظرة واقعية ورؤية وطنية فاحصة في الفكر والسياسة والاجتماع. وفي الخمسينات كنت مثل بقية أقراني تلاميذ المرحلة الابتدائية والثانوية نتابع بشغف واصرار قراءة مجلة "صوت البحرين 1950 - 1956" التي شارك فيها المردي مع صحب له في تأسيسها واصدارها. وكذلك حرصنا على قراءة صحيفة "القافلة" الاسبوعية بورقاتها المحدودة وكذلك صحيفتي "الخميلة" و"الوطن".
كنا ننتظر صدور هذه الصحف بترقب وشوق لا حد لهما الى جانب الصحف المصرية مثل "المصور" ومجلة وكتاب "الهلال" الغنية بمواقفها المختلفة وموضوعاتها الدسمة. وهنا لابد من الاشارة الى مكتبة عبدالله الجودر في سوق القيصرية العامرة بالكتب والصحف المختلفة وساعدتنا هذه الصحف في الغالب الأعم في هذه المرحلة المبكرة من العمر على تشكيل وعينا السياسي والاجتماعي ولو بصورة محدودة لأنها كانت ذات نزعة وطنية قوية وكنا في أمس الحاجة اليها لمعرفة ما يدور حولنا من تطورات على الاصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية في ظل انبعاث الروح الوطنية والمد القومي الجارف وظهور تيارات التجديد والإصلاح في بيئة البحرين المعطاء وما عرف عنها من انفتاح وتقبل لمختلف التيارات الوافدة على مر العصور.
هل تحدثنا عن دور صحيفة "الاضواء" في ذلك، وكيف كانت تتناول قضايا وتطلعات الناس؟
- عندما اصدر المردي صحيفته "الاضواء" 1965 كانت صفحاتها ساحة مفتوحة لكل فئات المثقفين على الساحة البحرينية الذين تناولوا فيها القضايا السياسية والفكرية والادبية وهموم الناس المعيشية والاجتماعية والتعليمية وقضايا الاستقلال والوحدة التي كانت موضوعات الساعة في حقبة الستينات وارهاصاتها السياسية المتسارعة. وكان المردي مسرورا لرؤية هذه التيارات الفكرية تتصارع وتتحاور على صحيفة "الاضواء" ويبدي كل تشجيع ودعم لهذه الاقلام لأنه يؤمن بدور الصحافة الفاعل في تعميق الوعي لدى الناسخ وكأني به قد حقق ما يصبو اليه من طموح وطني، وهنا اورد قوله: "صحيفتي هذه جاءت الى الدنيا بولادة عسيرة... بعملية قيصرية. استنفدت مني كثيرا من السعي والجهد والمثابرة حتى رأت النور".
كان المردي صاحب أسلوب صادق وموضوعي وكان بعيدا عن أساليب الاثارة والتزويق وتجنب رفع الشعارات، واتسم أسلوبه أيضا بقوة العبارة ونصاحتها وشفافيتها ولم يخل احيانا من السخرية الهادفة والايماءات اللطيفة التي لا تحرج الآخرين أو تؤذي مشاعرهم. وظل اصدار صحيفة يومية هاجس المردي وحلمه المجنح وبقي حيا في وجدانه وعمل بكل همة ونشاط على تحقيقه على رغم امكاناته المحدودة وموارده المالية الشحيحة. وهكذا صدرت صحيفته اليومية "أضواء الخليج" في نوفمبر/تشرين الثاني 1969 واذكر جيدا انني في صبيحة ذلك اليوم ذهبت ومعي رئيس تحرير "الايام" السابق نبيل الحمر لملاقاة المردي كنا نحمل اليه باكورة العدد الأول من هذه الصحيفة وقد خرجت لتوها من المطبعة، وعندما تصفح هذا العدد المتواضع جدا وجدت ابتسامة عدم الرضا على وجهه ومسحة حزن حاول أن يداريها أو يخفيها ولكنه لم يفلح إذ اعقبتها زفرة حرى وحسرة على تلك الجهود الضائعة وكأن لسان حاله يقول: يبدو أننا نحرث في البحر، وهي عبارة طالما رددها كثيرا. كانت "أضواء الخليج" تصدر خمسة أيام في الأسبوع وبقيت صامدة لعدة شهور ثم توقف صدورها نهائيا خلال العام 1970 بسبب نقص الامكانات المالية وعدم توافر الكوادر الصحافية المتخصصة. وكنت ساهمت بكتابة عمود يومي في هذه الصحيفة تحت عنوان "نبضات" وبتوقيع "حرص".
وكان من الطبيعي الا ترضي هذه البداية طموح المردي وظل يكافح بمثابرة واصرار بعد اخفاقه هذا، وتمثل ذلك فيما بعد في اصدار صحيفة قوية فاعلة وكان له ما اراد إذ اصدر "أخبار الخليج" في شهر فبراير/شباط 1976 بعد أن هيأ لها كل عوامل النجاح لذلك خرجت علينا بثوب قشيب وحازت كل مقومات الصحيفة الناجحة ولاقت النجاح المطلوب وكانت البشارة الموعودة التي حلم بها المردي طوال سنين عدة.
عقد من الصداقة الحقة
وهل امتدت علاقتكم مع المردي بعد ذلك طويلا؟
- لقد امتدت علاقتي بالمردي قرابة عقد من الزمان ما بين 1968 و1979 وهي سنة وفاته كان المردي خلالها نعم المعين لي ولزملاء آخرين في الكتابة في صحيفته "الأضواء" ثم "أضواء الخليج" و"اخبار الخليج" اخيرا وتأتي أهمية هذه الحقبة من تاريخ البحرين الحديث في انها شهدت تحقيق استقلال البحرين الناجز وهو انجاز كبير بكل المقاييس سيذكره التاريخ والاجيال القادمة بالوفاء والتقدير لكل من شارك فيه بدعم وسعي وطني ويأتي على رأسهم الشخصيات المهمة التي ساهمت بجهودها الخيرة والمخلصة والمتواصلة في تحقيقه.
ولا تخطئ العين المجردة الدور الوطني المخلص الذي اضطلع به المردي في مسيرته الصحافية في هذه الفترة المضيئة من تاريخ الصحافة في البحرين. لقد أسس صحافة فاعلة بفضل جهوده الدائبة للارتقاء برسالتها، إذ استطاعت أن تساهم في نهضة البحرين الحديثة... رحمك الله يا محمود رحمة واسعة واثابك على كل عمل خير في سبيل هذا الوطن
العدد 937 - الأربعاء 30 مارس 2005م الموافق 19 صفر 1426هـ