العدد 1441 - الأربعاء 16 أغسطس 2006م الموافق 21 رجب 1427هـ

الغذاميّ ناقد عظيم... أم شحاذ عظيم؟!

بدءاً، أقول إن هذا العنوان قد استلهمته من كتاب النقد الثقافيّ وتحديداً من فصل النسق الناسخ «اختراع الفحل» إذ يبدأه الغذاميّ بعنوان «المتنبيّ مبدع عظيم أم شحاذ عظيم؟»، وهذا الكتاب ينتمي للمشروع النقديّ في بعده الثقافيّ لعبدالله الغذاميّ، اذ ينقسم مشروعه النقديّ لقسمين، أولهما، النظرية النقديّة الأدبية وفي هذا القسم تندرج عدّة كتب منها الخطيئة والتكفير والقصيدة والنص المضاد وتشريح النّص أما القسم الثاني فهو النظرية النقدية الثقافية ويندرج تحتها النقد الثقافي وحكاية الحداثة والثقافة التلفزيونية كما أن بوادرها قد ابتدأت في بعض كتبه ومنها المرأة واللغة وتأنيث القصيدة والقارئ المختلف، وإن لم تتشكّل كنظريّة ومشروع إلا في كتابه النقد الثقافيّ... قراءة في الأنساق الثقافية العربية...

يبدأ الغذامي في مقدّمة النقد الثقافيّ متسائلاً «هل الحداثة العربية حداثة رجعيّة...؟، وهل جنى الشعر العربيّ على الشخصيّة العربيّة...؟، وهل هناك علاقة بين اختراع «الفحل الشعريّ» و«صناعة الطاغيّة»؟... وهذه أسئلة مشروعة في نقد الذات والنسق الثقافي للمكوّن الثقافيّ الأبرز الذي هو «علم العرب الذي ليس لهم علم سواه» على حدّ تعبير الخليفة عمر بن الخطاب...

في صفحات كتاب النقد الثقافيّ سأجدني مضطرّاً أن أقف عند عدّة مصطلحات سأستثمرها في قراءة جزء بسيط من مشروع الغذاميّ اذ يضيف الكاتب على عناصر الاتصال الستّة والتي بلورها رومان ياكبسون في نظرية الاتصال عنصراً مهماً بنى عليه الغذامي مشروعه كاملاً وهو العنصر النسقيّ والتركيز على هذا العنصر يعطي اللغة وظيفتها النسقيّة، ومن هذا العنصر يستطرد الكاتب في بلورة نظريته الثقافيّة ويضيف لأنواع الدلالات نوعاً إضافيّاً عما ذكره في كتابه الخطيئة والتكفير بالاعتماد على نظرية الاتصال، وهذا النوع هو الدلالة النسقيّة ويوضّحها بقوله «وهي ذات بعد ثقافيّ، وترتبط بالجملة الثقافيّة» والتي هي كما يقول أيضاً في سياق بلورة فكرة ان الجملة الثقافية ترتبط بالدلالة النسقيّة «إن الجملة الثقافية مفهوم يمسّ الذبذبات الدقيقة للتشكّل الثقافيّ الذي يفرز صيغه التعبيريّة المختلفة»...

في سياق كلامه عن جماليات الشعر وإفرازاته الثقافية التي يصفها بقوله «إلا أن فيه صفات أخرى لها من الضرر ما يجعل الشعر أحد مصادر الخلل النسقيّ في تكوين الذات وفي عيوب الشخصيّة الثقافيّة ولنتصوّر الصور الثقافية الآتية: أ- شخصية الشحاذ البليغ (الشاعر المدّاح)، ب - شخصية المنافق المثقف (الشاعر المدّاح أيضاً)، ج - شخصيّة الطاغية (الأنا الفحوليّة)، د - شخصية الشرير المرعب الذي عداوته بئس المقتنى (الشاعر الهجّاء)، والسؤال الذي سنطرحه هنا هو: هل إن الغذاميّ باعتباره منتَجاً من منتجات النسق الثقافي العربيّ وأحد إفرازاته يمكن أن ندرجه تحت أحد هذه الأنواع؟!...

وأجدني قبل أن أنتقل للإجابة عن هذا السؤال أستشهد ببعض ما ورد في الفصل السابع من النقد الثقافيّ وهو صراع الأنساق اذ يقول «وحينما نتحدّث عن نزار قباني هنا فلاشكّ أنه ليس إلا طرفاً من سلسلة طويلة، وهو إحدى الخلاصات الثقافية للنسق الفحوليّ، ويعزز ذلك جماهيريّة نزار ما يعني توافقه مع الحسّ الوجداني العام للثقافة، ومن همنا هنا أن نكشف ضمير هذه الثقافة ومستخلصاتها النسقيّة» ثم يعود ليقول «نعود ثانية إلى آخر قصيدة لنزار وعنوانها التقليديّ كما هو المعتاد الشعريّ لنزار (أنت لولا الشعر ما كنت بتاريخ النساء). وهو عنوان يتضمّن بالضرورة المعنى الحقيقيّ المخبوء في مضمر النّص وهو (أنت لولاي) بإحالة الضمير إلى الذات والتركيز على (الأنا) كما هو موجود في شعر نزار، وكما هو شرط الشاعر الفحل والأنا الطاغية»...

بالتجاوز عن انتقائية الغذامي في كتابه النقد الثقافي لنماذج شعريّة تعزّز نظريته ومفاهيمه إلا إنني هنا سأنتقل للقسم الثاني لعلّي أقتنص الإجابة عن السؤال الذي اجترحته في قراءة الغذاميّ المثقف وإذا ما كان حارساً من حرّاس النسق الثقافيّ الذي حاول تعريته...

عندما نتعامل مع كتاب الغذاميّ «حكاية الحداثة في المملكة العربيّة السعوديّة» كبنية متكاملة، نجد أن الكتاب يمثّل جملة ثقافيّة أفرزها النسق الثقافيّ وصوره الثقافية، إذ يحيل الكتاب في عنوانه لحكاية متكاملة، حكاية أفكار وحكاية مجتمع وحكاية مشروع، لكن قراءة الكتاب تحيلنا للقول إن العنوان باعتباره الأفق الذي نطلّ عليه على الكتاب ومضامينه يتضمّن بالضرورة المعنى الحقيقيّ المخبوء في مضمر النّص وهو (حكاية حداثتي) باعتباره على حدّ تعبير سعيد الغامديّ في شريط الكاسيت بالاعتماد على ما ذكره الغذامي ذاته في الكتاب بأنه حاخام الحداثة ورسول البنيويّة وأجد أن الوصف الأول ينطبق على الغذامي وإن كان ما أقصده مغايراً عما جاء عن الغامديّ وهو أن الغذامي مبشّر من الدرجة الأولى للحداثة التي هي حكايته وحكاية حداثته وليست حكاية الحداثة في المملكة...

يعرّف الغذامي الحداثة بأنها التجديد الواعيّ ويقول «وإذا قلنا ذلك فإن المترتب المنهجيّ سيكون بفتح أفق الوعيّ الحداثيّ على آفاق الاجتهادات التجديدية كلها، سواء جاءت على يد سياسيّ أو مصلح اجتماعيّ أو مبدع أو مفكر قديم أو حديث مع استبعاد الحصر في الأدب دون سواه واستبعاد العنصر الزمني»... بعيداً عن المغالطة المنهجيّة عند الغذامي والتي تؤدي بالتالي لإسقاط مفاهيم حديثة ارتبطت بالفضاء العقليّ الحديث وإسقاطه على الماضي والتاريخ جاعلاً من أبي تمام شاعراً حداثيّاً، فإن عبدالله قد انتهج بهذا التعريف تسطيحاً للمصطلح وضبابية التعريف وعموميته، وذلك لأنه لم يبنِ هذا المصطلح على ذاكرة معرفيّة فلسفيّة على غرار مصطلح النقد الثقافيّ، هذا المصطلح الذي يستدعي ذاكرة عمرها من الزمن قرنان، ومن المفاهيم والمدارس ما يصل لحدّ التناقض والمغايرة، ولا أخالني أتهم الغذامي بأنه لا يدرك بأن الحداثة منتج حديث تبلور منذ القرن السابع عشر على يد المفكرين الفرنسيين من أمثال فولتير وروسو والموسوعيين من أمثال مونتسيكو وديدرو وتجذر العقلانيّة وارتباطها بمفاهيم التنوير وحقوق الإنسان بدل حقوق الله والحرية والمساواة، والتي تجسّدت هذه الحداثة في تجلٍ من تجلياتها الأبرز وهي الثورة الفرنسيّة العام 1789م... وفي تسطيح المصطلح ما يجعلني أعود لسؤالي وهو إن كان الغذاميّ مفكّراً شحاذاً أو مفكّراً منافقاً...

وهنا أجدني استشهد برضوان جودت زيادة في كتابه «صدى الحداثة» مدعماً رأيي إذ يقول «لذلك ألح الكثيرون على قراءة التراث وفقاً لاتصاله مع الحداثة كما فعل الجابريّ مثلاً مسلّماً بأن الحداثة تشكّل منطق العصر، والدخول إليه يقتضي مساءلة تراثنا عن قدرته على التجاوب مع قيم الحداثة المتمحورة حول العقلانية والتنوير والعلمانية والحداثة السياسيّة التي تشتمل على الديمقراطية وحقوق الإنسان»، ولطالما لم يرد الغذامي أن يحصر الحداثة كما ورد في العبارة السابقة بل يريد فتح أفق الوعي الحداثيّ بفتح آفاق الاجتهادات التجديدية كلها، فإننا سنقوم معه بعملية الفتح هذه التي هي مفتوحة بطبعها فالحداثة رؤية متكاملة تعود بالنقد والمساءلة على الدين والتراث والدولة والثقافة، وتطال المتعالي والزمني والدينيّ والدنيويّ، أي إنها تفكك الجوهر والشكل في عمليّة تزامنيّة...

هنا أجدني أقول بأن عبدالله الغذامي تجلّ من تجليات عيوب الشخصيّة الثقافية مثلما نزار والمتنبّي وأدونيس بحسب رأيه في كتاب النقد الثقافي... فليّ عنق الحوادث التاريخيّة في زمن التأسيس وإعطائها تأويلاً يتجاوز البنية الواقعيّة لهذه الحوادث إضافة لبساطة تعريفه الحداثة وتغييبه لذاكرة المصطلح المفهوميّة يجعلني أقول إن الغذاميّ يندرج في خطابه النقديّ تحت عنوان «شخصية المنافق المثقف (الشاعر المدّاح أيضاً)، شخصيّة الطاغية (الأنا الفحوليّة)»، إذ إن الحوادث التي أوّلها تأويلاً حداثياً وتحديدا الحوادث التي تدرج تحت زمن التأسيس هي أبعد ما تكون عن العلمانية والحداثة السياسيّة وحقوق الإنسان بدل حقوق الله والحرّية كما تشكّلت وتبلورت في أوروبا، ومن كلّ هذا يجعلني أقول إن الغذاميّ يقوّض بكتابه «حكاية الحداثة» كتابه «النقد الثقافيّ» ويثبت أنه أحد تجلّيات النسق الفحوليّ وإعادة إنتاج لصورة المثقف المنافق/ المتنبّي، ولكن بصورة حديثة، اذ يخفي تحت عملية نقده وتعريته للنسق الثقافيّ ذات النسق ولكن بشكل مضمر يستتر بمصطلحات ومفاهيم الحداثة الأوروبيّة

العدد 1441 - الأربعاء 16 أغسطس 2006م الموافق 21 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً