لا شيء يبرر دوراً للمسحراتي الطبّال سوى أنه جزء من مشهد تراثي احتفالي في رمضان اليوم. هو فلذة من الماضي، لا تجد معبراً الى الحاضر غير نافذة التراث برمزيتها التي تتعدى الملامح القديمة إلى التعبير عن حنين الإنسان إلى عهود الدعة والطمأنينة والهوية، في عصر يقتحم عليك أدق التفاصيل الحياتية، ويجبرك على العَدْوِ السريع، فأنت تعدو بين منزلك ومقر عملك، وتعدو حتى لا تفوتك المواعيد، وتتناول وجبة سريعة ثم تدفع ضريبة باهظة: ضغط دم، وتوتراً، وفي أسوأ الحالات إقامة في غرفة للعناية الفائقة!ذاك حديث العصر وضرائبه... ولا مفر من الاشارة إليه من قبيل المقارنة مع رمزية التراث، وجزء منه الطبال المكابر الذي يضيق ميدان تحركه ومع ذلك يتابع جولاته متمسكا بطبلة أو دف يشكلان الطرف الآخر من مفارقة طرفها الأول «الفيديو كليب» والأغاني السريعة الصاخبة المفتقرة الى المضامين. في المدن استغنت الأحياء الأرستقراطية المترفة عن خدمات الطبّال... لم تقدم إليه كتاب الإقالة مباشرة، ولكنها حجبت عنه الأعطيات، فبحث عنها في الأحياء الشعبية، إذ لايزال يلقى الحفاوة في الهزيع الأخير من ليل رمضان، ولايزال يحصل على «إكراميات» عيد الفطر نقوداً وحلوى. وها هنا، في الأحياء الشعبية من بيروت، شواهد على التحولات!. طبالون قلائل اضطروا إلى التفاهم، عرفا، على اقتسام الساحات والشوارع، إذ يكون لكل طبال حيز لا يتعداه إلى ميدان نشاط طبّال آخر، وإلا التبست الأمور صباح عيد الفطر، وصار توزيع «الإكراميات» أحجية تحتاج الى تفسير. طبّال بيروت تزيّا بأزياء العصر، وخلع «الطربوش» و»الغنباز» و»الشروال» و»الصدرية المقصّبة». ولكنه تمسك بطبلته الشبيهة بالقصعة، أو تمسك بالدف معدّلا باضافة الصنّاجات الصغيرة اليه، وأنشد مدائح نبوية تحث على الفضائل... أمر آخر تغير في مجرى التحولات: فلأن المدينة كبرت، ولأن الهجرة الداخلية ملأت أحياءها بالوافدين من الأرياف، لم يعد الطبّال يعرف الناس كما كان يعرفهم، لذلك فهو لا ينادي الناس - كالماضي بأسمائهم وكناهم... قصارى ما يفعله اليوم أن يتردد النداء القديم: «يا نايم وحِّد الدايم»... في الماضي هتف بالنائمين يوقظهم في السحر: استيقظ يا فلان، واستيقظ يا أبا فلان... فمَنْ ينادي اليوم والمقيمون في العمارات أناس آخرون؟! ولأمرٍ ما اختفت من نداءات الطبّالين تلك العبارة المنغمة الواعدة بزيارة كريمة من زائر كريم: «قوموا على سحوركم... جاء النبي يزوركم». فالطبّالون يتصرفون ويبتكرون: أحمد ياحبيبي سلام عليكْ يا عون الغريبِ سلام عليكْ *** كريم رمضان... شهر المحبّة والايمان مِنْ قال: رب العالمين شارك صيام المؤمنين *** قُمْ يانايم... يلّله تسحّر وسبّح المولى الجبّار رمضان كريم عليّ منوِّر يا مية هلا بشهر الأنوار. وفي أحد الأحياء يذهب بك أحد النداءات مذاهب شتى لا تخلو من سوء ظن: «تركنا الحرام يا رمضان»... فماذا يريد هذا الطبّال أن يقول؟. طبّال آخريستعير من الفنان الراحل سيد مكاوي أنشودته الرمضانية الطريفة من دون أن يدري - ربما - أن الأنشودة تعبير فني ظريف عن طقوس الطعام والتحلية: مسحراتي... منقراتي بفرح بقلبي، يتنقل بي أشوف قبالي على الطبالي... أقول يا زرعة... وأنت يا زلعة لقمة هنيه تكفي ميه. متسلطنه قال الزبادي... ست الحبايب يامحضنة روح الضنى... وأخضر بقشره أقول له: إطْرا. أدور... وأدور... من نور لنور صحبة زهور... هاتي السحور... سبع بحور في سلطانيه. هكذا تصبح النداءات والمدائح تفاصيل في المشهد الاحتفالي الذي يمثله الطبال اليوم... هذا الذي استغنى عنه الناس بمكبرات الصوت والساعات المنبهة وطبول الفرق الكشفية التي تجوب الشوارع. ولكننا نأنس بالطبال. نطل من الشرفات والنوافذ نترقب قدومه، وقد بشر به قرع طبلته من بعيد... نصغي الى نقرات العصا على جلد الطبلة تبدأ خافتة وهو بعيد، ثم ترتفع شيئا فشيئاً مع اقترابه، ثم تخفت مع ابتعاده... وفي هذه المسافة الزمنية القصيرة نستعيد ذكريات، ونحدث أبناءنا عن طبّال كان هو ضابط سحورنا وإمساكنا، وعن طبّال أغنى الناس قبلنا عن النظر في الخيطين الأبيض والأسود من الفجر، كما أمرت الآية القرآنية الكريمة: «وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر» (البقرة:187). صدق الله العظيم. ولا نصّ في الاسلام يقرر وظيفة الطبال. وإنما كان أول ظهورها تطوعاً، وأول الطبالين المتطوعين كان الوالي الفاطمي على مصر عنبسة بن اسحق. ففي سنة 238 هـ ارتأى هذا الوالي أن يطوف بشوارع القاهرة داعياً الناس الى الاستيقاظ للسحور، هاتفاً بهم: «ياعباد الله... تسحروا ففي السحور بركة» حتى إذا كرّس هذا الأمر عادةً أوكل المهمة إلى احد اتباعه، وأمره أن يقرع طبلاً في طوافه بالأحياء. وإلى اليوم لايزال الأمر عادة، مع كل التحولات التي طرأت. قبل عنبسة بن اسحق، ومعه، وبعده تولى المؤذنون ضبط ميقات السحور وميقات الإمساك، جرياً على سُنَّة سنَّها الرسول (ص)، إذ انتدب لها مؤذنيه: بلال بن رباح الحبشي وابن أم مكتوم، قال ابن عمر (رض): «كان لرسول الله (ص) مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم. فقال رسول الله: إن بلالاً يؤذن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا». ويفهم من الحديث الشريف أن وقت السحور كان قصيراً جداً. ويعزز هذا الرأي حديث آخر، فعن زيد بن ثابت قال: «تسحرنا مع رسول الله (ص) ثم قمنا للصلاة. قيل: كَمْ كان بينهما؟. قال: خمسون آية». ولكّن الطبّال جعل وقت السحور أطول. فهذا يخرր¬ من بيته مبكراً قبل الفجر، ليكون له متسع من الوقت يمكّنه من التجول في الأحياء، وبذلك يكون سبباً في استيقاظ الناس قبل أوان السحور. وها نحن على رغم الطبال، نصغي الى المؤذنين لنستوثق من الوقت، ونعتمد على الساعات المنبهة المضبوطة على الوقت المسجّل في الامساكيات... ولكننا نسارع الى الشرفات والنوافذ، نتأمل الطبال، ونأنس به ونقرر سلفاً ما سنقدمه إليه صباح عيد الفطر!.
العدد 86 - السبت 30 نوفمبر 2002م الموافق 25 رمضان 1423هـ