العدد 95 - الإثنين 09 ديسمبر 2002م الموافق 04 شوال 1423هـ

دور التكنولوجيين في صنع القرار السياسي

تواجه الحكومات السياسية في العالم المتقدم خصوصاً، قضايا كثيرة بل متزايدة كالعناية الصحية، البيئة، الطاقة، الزراعة، الاتصالات، النقل وغيرها، المتطلبة لمعرفة عميقة في العلوم والتكنولوجيا ما يمكن السياسيين من أخذ القرارات الفاعلة.

النمو الهائل لدور العلم والتكنولوجيا في السنين القليلة الماضية يعني زيادة نفوذهما في تفاصيل مجتمع الانسان المعاصر وتكاثر افرازاتهما في نشاطاته المختلفة ما يدعو إلى إعطاء أهمية قصوى إلى كيفية التعامل مع فعاليات وأنشطة الانسان المتنوعة ومن ثم صوغ قرارات سياسية ناجحة.

لا توجد شحة في الخبرات والمهارات والمعرفة في الأمور العلمية والتكنولوجية للتعامل مع قضايا مجتمع الواحد والعشرين المتكاثرة، لكن، غالباً كما تشير الأدلة، هو عدم استثمار ماكنة صنع القرار السياسي للخبرة التقنية المتوافرة. يوجد، كما يبدو، بون شاسع بين التكنولوجيين والعلماء والمهندسين من جانب وصانعي القرار ومشرعي القوانين وأعوانهم من السياسيين على المستويات المحلية والحكومية من جانب آخر. مازال الواقع العلمي يفرز صانعي قرار مجردين من المعرفة العلمية الضرورية لأداء عملهم بكفاءة وعدم وجود الشراكة المتداخلة والمتفاعلة بين السياسيين والتكنولوجيين لضمان زيادة أو نمو تأثير المعرفة التقنية المطلوبة على ماكنة القرار. وعلى رغم سرعة التطورات التكنولوجية فإن الكثير من العلماء والسياسيين لا يعون أهمية التداخل العضوي بين السياسة والتكنولوجيا في حياة الانسان ومجتمعه المعاصر. نرى بين الفينة والأخرى نقاشات ساخنة بين السياسيين والتكنولوجيين يحاول فيها كل جانب صب اللوم على الآخر لعدم حدوث التداخل المطلوب والتقارب المفروض بين المعسكرين. الخلل الأساسي لفشل الاتصال وقلة التفاهم بين العلماء والسياسيين هو بسبب تبلور مجموعتين ذات ثقافتين مختلفتين ونظامي عمل متباينين مع اولويات متفاوتة.

ثقافتان متباينتان

الوجه الظاهري يبين عدم وجود أي اختلاف بين مجموعتي العلماء والسياسيين وكأنهما في أمور كثيرة متشابهان. المجموعتان تعملان بشكل جاد ولا تحاولان اقتناء خبرات شاملة وضرورية للنجاح في عملهما. وتعتقد كل من المجموعتين انها الوحيدة التي تقوم بالعمل المهم بينما الأخرى تناقش الأمور الطفيفة فقط.

بينما الوجه الحقيقي يعكس فروقات اساسية بين العلماء والسياسيين بسبب تطور نظامي عمليهما لأهداف ومشاريع عمل مختلفة تماماً.

الهدف الرئيسي لمجاميع البحوث العلمية والتكنولوجية هو انتاج البحوث وبذر أفضل الافكار لتطوير التكنولوجيا وارتقاء المعرفة العلمية. ولا يهم أن تكون معظم هذه الافكار من قبل جماعة صغيرة من العلماء البارزين. بالمقابل فإن اهداف السياسيين وصانعي القرار هي إيجاد عملية أو ماكنة ذات مناعة حصينة للهيمنة عليها من قبل جماعة صغيرة من السياسيين. والافضل ربما، من وجهة نظر مانعي القرار، ان يستهلك الوقت الكبير للعمل والنقاش ثم الوصول إلى قرار بخصوص السماح بسيطرة مجموعة واحدة وصغيرة على العملية ولفترات طويلة.

قاد التباين الجذري في أهداف العمل التكنولوجيين والسياسيين إلى اتجاهات مختلفة وفرز في نهاية المطاف ثقافات عمل مختلفة الواحدة عن الأخرى.

التكنولوجيون مقابل السياسيين

يقيس التكنولوجيون نجاح النتائج الحاصلة ويزن هؤلاء الأمور، خصوصاً، عبر الانتاج النهائي بينما صانعي القرار السياسي يكون تحفظهم الأساسي على عملية صناعة القرار.

دور الانترنت عند بداية تطويرها في الستينات من القرن المنصرم كان في السماح للتكنولوجيين والباحثين بالمشاركة في الموارد التكنولوجية والمصادر العلمية. وتم أخذ القرارات فيما يخص الشبكة بأكملها، التي استحقت احترام واجلال الجالية العلمية، من قبل حفنة من العلماء. لم يكن هناك اي مصالح أو أغراض شخصية قوية لأي من هؤلاء العلماء في المجموعة الصغيرة وصانعة القرار فيما يتعلق بالمحصلة النهائية لشبكة الانترنت. في التسعينات من القرن الماضي اضحت الشبكة اداة جبارة خصوصاً في الأمور التجارية وانتباه صانعي القرار إلى دور القرارات السياسية في التأثير، سلباً أو ايجاباً، على مالية الشركات الكبرى ومناطق واسعة من الفعالية الاقتصادية.

وكان يتوقع أن يكون هناك تعارض في الرؤى واصطدام في التصورات بين التكنولوجيين والعلماء من جهة وصانعي القرار السياسي من جهة أخرى على كيفية ادارة وعمل الشبكة خصوصاً فيما يتعلق ببروتوكولات الانترنت.

أول عملية تطلبت سيطرة مركزية هي تحديد اسم خاص لكل مستخدم للشبكة (Name Domain). وكان هناك خلاف واسع بين المجموعتين على من له الحق في تملك الاسم المحدد، لشركة أو مؤسسة كما في http://www.almajallah.com على سبيل المثال لا الحصر. وتم في نهاية المطاف حسم الموضوع بخلق منظمة عالمية غير ربحية العام 1999، تسمى أيكان (Icann)، والاسم مشتق من الحروف الأولى للكلمات الانجليزية، حتى تعالج هذا الشأن.

تصور التكنولوجيين كان لفرز نظام ادارة مشابه لذلك الذي شرعوا العمل به عند ولادة الشبكة، لكن، على حجم أكبر لموازاة نمو الانترنت المتزايد. وينتخب افضل الناس للعمل في مجلس ادارة «أيكان»، صاحبة السلطة الواسعة في صنع القرارات الكبيرة، من قبل أسرة الانترنت العالمية. مهمة منظمة أيكان، حسب رؤى التكنولوجيين، هي التعامل مع التحديات التقنية والقانونية الصعبة فيما يتعلق بقوانين وأرقام المشاركين في شبكة الانترنت. أعضاء الكونغرس أو البرلمانات الأخرى عند سن القوانين ووضع الاجراءات وغيرها، باشروا بطرح أسئلة كثيرة، مثالاً لا حصراً: من هم الذين يسمح لهم بالتصويت في مجلس ادارة أيكان؟ من هم الذين يقررون أي من القضايا التي يحق لمجلس «أيكان» التصويت عليها؟ وما هي حدود سلطات أيكان على مستخدمي الانترنت؟

وغيرها من الأسئلة الأخرى التي تعتبر مهمة لصانعي القرار السياسي خشية سيطرة اقلية على عمل منظمة أيكان. التكنولوجيون والعلماء في مجلس الادارة للمنظمة يعتبرون هذه الاسئلة ارباكاً للأمور الحقيقية والصعوبات الواقعة التي تواجه عملهم. بالنسبة إلى التكنولوجيين والعلماء في إدارة وعمل مجلس المنظمة فإن اعطاء الوزن نفسه للخبراء وغير الخبراء في عملية أخذ القرار أمر مقلق للغاية. نقاش التكنولوجيين والعلماء غالباً ما يكون قائماً على حقائق مكررة وملاحظات دقيقة مستخدمين مصطلحات معرّفة بدقة. هذه اللغة الدقيقة للتكنولوجيا غالباً ما تكون غير مهضومة خارج دوائرهم. مفاتيح الخلق والابداع لانتاج افضل الحلول من قبل العلماء هي مناقشة ايجابيات كل فكرة بشكل مفتوح ثم تطويرها وتوفير الأدلة الشاملة لانتشار النتائج والدفاع عنها مع العلماء والتكنولوجيين الآخرين. اسلوب العمل هذا يعتبر فاشلاً في عالم السياسة لأنه يتطلب سماع كل وجهات النظر وقبول بعض الآراء ثم اللوبي والمساومة في كل مرحلة من مراحل العمل.

ضرورة التداخل

يتوجب من التكنولوجيين والعلماء ادراك ان كل ما يعملوه ذو علاقة مباشرة أو حساسة في مجتمع القرن الواحد والعشرين.

تتطلب صناعة القرار الفاعلة توفير المعرفة الشاملة لمعظم فعاليات الانسان وآليات أو عمليات العمل المتوافرة.

يحتاج صانعو القرار دائماً إلى أفكار جديدة ليتسنى لهم تحويلها إلى اجراءات وتشريعات للمواطنين.

دور التكنولوجيين في توفير المعرفة للسياسيين يكون ذا تأثير أكبر اذا قدمت المعرفة من خلال النقاش المستمر ومن دون ادعاء التكنولوجيين لنبع الأفكار من آبار العلم والتكنولوجيا. واحدة من الآليات المهمة لصناعة القرار هي الاستناد إلى مصادر خارجية معتمدة، إذ بامكان التكنولوجيين، بطبيعة الحال، لعب هذا الدور بكفاءة. ولأجل زيادة الفائدة، على الاقتراحات العلمية أن تأخذ في الاعتبار الواقعين السياسي والتكنولوجي.

ولاحداث التداخل المتناغم بين ميداني العلم والسياسة يجب أن تصبح مشورة التكنولوجيين للسياسيين واحدة من المفاصل المهمة لماكنة القرار. والأهم ربما وعي الاثنين بالخلفية الثقافية لنظام عمل كل منهما.

وهذا الأمر ربما أهم أكثر للتكنولوجيين والعلماء اذ يتطلب تورط أكبر عدد ممكن من العلماء والتكنولوجيين لفهم وكيفية عمل القرار السياسي. وهذا ما يدعو إلى احداث التغيرات التركيبية للكثير من المؤسسات الاكاديمية ومراكز البحوث العلمية والشركات الصناعية لمجتمع اليوم.

والمطلوب عمله

وضع الأسس الأولية لاستخدام الأدوات الضرورية والذاتية في عملية نقل وتوطين التكنولوجيا والانتاج العلمي في مجالاتها المدنية وإيجاد ما يسمى بتراكم الخبرات. ويتوجب ان ينتقل الكلام عن الفقر التكنولوجي من الطابع النظري إلى الواقع العملي ليأخذ شكل الاجراءات الضرورية واللازمة. ويلازم التشخيص والتشريح والمقارنة للواقع التكنولوجي المرير، الارتباط العضوي، كما نراه في الغرب واليابان وحتى الهند، بين المنظرين إلى مشكلات العلم والتكنولوجيا والصناعيين واصحاب القرار من السياسيين?

العدد 95 - الإثنين 09 ديسمبر 2002م الموافق 04 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً