قيل الكثير ونعرف اكثر من الكثير ربما عن الدور الذي لعبه البريطاني ت. اي. لورانس المعروف بـ «لورانس العرب» في اندلاع الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين. وكيف ان جهوده ادت إلى تقويض دولة هؤلاء ومن ثم إلى دخول الاستعمارين البريطاني والفرنسي المنطقة المشرقية العربية، حتى وإن احتج كثيرا على هذا لاحقا. لكننا نكاد نجهل تماما ما الذي آل إليه مصير صاحب كتاب «اعمدة الحكمة السبعة» بعد مغادرته المشرق العربي. نعرف فقط انه قتل في العام 1935م في حادث دراجة غامض. ولكن ماذا حل به طوال العشرينات؟ بالتأكيد لم يهدأ الرجل، بل واصل «مساعيه» الثورية، ولكن هذه المرة في منطقة عاصفة اخرى من العالم: في افغانستان. هناك لعب لورانس، ولكن تحت قناع «الجندي روس» دورا خطيرا في الثورة التي قضت على حكم امان الله الاصلاحي، كما في مجرى الصراعات بين الانجليز والروس والفرنسيين. انه فصل من تاريخ لورانس، وفصل من تاريخ افغانستان تكشف عنهما هذه الاطلالة.
«ها هو الملك غير المتوج قد تحول إلى جندي عادي»، بهذه العبارة، تقريبا، عنونت صحيفة «ديلي اكسبرس» البريطانية في العام 1922، مقالا نشرته لصحافي. فبعد تحقيقات طويلة، تمكن من العثور على آثار لورانس، بعدما كان هذا قد اختفى تماما عند انتهاء مهمته في الشرق الأدنى. عند انتهاء تلك المهمة كان لورانس قد عبّر عن غضبه الشديد معلنا ان فرنسا، والحكومة البريطانية، قد خانتا الآمال العربية باقامة مملكة للعرب يحكمونها بأنفسهم... ثم اختفى. والآن ها هي «الديلي اكسبرس» تكشف عن انه لم يختف. كل ما في الامر انه ضم إلى القوات الجوية البريطانية، كجندي عادي، تحت اسمه القديم جون هيوم روس، متناسيا الاسم الذي عرف به.
مهما يكن الامر فإن المغامر الأفّاق الذي ارتبط اسمه بالكثبان العربية وبالثورة ضد الاتراك، سرعان ما طرد في يناير/كانون الثاني 1923 من سلاح الجو البريطاني لينضم إلى سلاح البر. غير ان ذلك لم يعجبه كما يبدو، اذ اصر على العودة إلى الطيران. وسيتبين لاحقا ان إصراره لم يكن مسألة مزاجية شخصية. اذ في السادس من يوليو/ تموز من العام نفسه، جاء الضوء الاخضر من رئيس اركان القوات الجوية، ترنشارد، شخصيا. وهكذا في منتصف أغسطس/ آب، عاد لورانس إلى تلك القوات ليحمل الرقم 338171. وضم إلى قاعدة كرانويل، حيث راح يتدرب على قيادة الطائرات العسكرية من طراز «بريستول» و «د. هـ 9أ». وبعد ذلك بثلاث سنوات، اي في شهر يونيو/ حزيران 1926 أُبلغ روس/ لورانس، بأنه سوف يرسل إلى الهند للانضمام إلى القوات المرابطة هناك. وبالفعل ما ان حل يوم 7 يناير 1927، حتى كان صاحبنا في كراتشي. وسيخبر صديقه وكاتب سيرته ليدل هارت بعد ذلك بأنه منذ وصوله إلى المدينة التي كانت هندية في ذلك الحين، بدأ يمارس نشاطات استخبارية واستطلاعات جوية مستفيدا من دروس التصوير الفوتوغرافي التي كان قد تلقاها خلال السنوات الثلاث الماضية، ليصور تلك المناطق من الجو. وفي نهاية شهر مايو/ أيار 1928 نقل لورانس، تحت اسم روس، إلى حصن ميرانشا في مدينة بيشاور، وهو غير بعيد عن الحدود الافغانية، حيث سيصبح ذلك الحصن مقره ومنطلقه لفترة مقبلة من الزمن. فلماذا بيشاور؟ وما الذي كان يجري من حوادث مهمة في افغانستان، استدعت ارسال لورانس اليها؟ ما الذي كان يمكن ان يثير اهتمام لورانس ورؤسائه في تلك البقعة الجبلية التي لطالما تنازع الانجليز والروس من اجلها.
الحقيقة ان ما كان يجري هناك، لم يكن من الامور التي كان يمكن ان تفرح الانجليز، سادة المنطقة في ذلك الحين. اذ، قبل ذلك بعشر سنوات وعند موت الملك حبيب الله خان، كان ابنه امان الله خان قد حل محله، معلنا في الوقت نفسه استقلال افغانستان عن سلطات الاحتلال. ولقد تضافرت الضغوط الفرنسية - الاميركية يومذاك، مع حرب العصابات التي شنها رجال امان الله عند الحدود مع الهند، لتجبر الانجليز على الاعتراف بخطوات الامير الجديد الاستقلالية، فكان توقيع الاتفاقات بين امان الله والسير هاري دوبس، فرصة مكنت الاول من ان يقيم اتصالات مع الجيران السوفيات موقعا معهم معاهدة صداقة. وكان امان الله اصلاحيا وتحديثيا في طبعه. لذلك قرر ان يفتح بلده على العوالم الخارجية، مجريا الكثير من الاصلاحات السياسية والاجتماعية، فمنع تعدد الزوجات وعجل من الخطوات الاقتصادية، وحد من امتيازات كبار الاقطاعيين، وطور التعليم العلماني، كما دعا المهندسين والخبراء الروس والفرنسيين إلى التنقيب عن المناجم في بلده. وبدا واضحا من هذا كله انه يتصرف وكأن الانجليز لم يعودوا ابدا اوصياء على افغانستان، ومن دون ان يأخذ في حسبانه «المصالح الحيوية» البريطانية.
لندن ليست فرحة
ولم يكن من شأن هذا كله ان يثير فرحة لندن بالطبع. وهكذا راحت اجهزة بريطانيا تتحرك. وكانت اولى علامات تحركها، ابداء رد الفعل تجاه التقارب بين كابول وموسكو، حيث اشرفت على هجوم دام، شن ضد اول بعثة تجارية سوفياتية ارسلت إلى كابول، وكانت النتيجة ان قتل دبلوماسيان وجرح ثمانية عشر. لكن هذا لم يردع امان الله، اذ نجده في الوقت نفسه، وهو المعجب باصلاحات مصطفى كمال العلمانية في تركيا، يوقع معاهدة صداقة مع تركيا.
وهنا اضحى لورانس في قلب المعمعة، وهو الذي كان كتب قبل شهور رسالة إلى صديقه ونستون تشرشل يقول فيها انه يشم «رائحة صراع مقبل مع روسيا» معتبرا «افغانستان مفصل اي صراع مقبل وخطير في المنطقة». ولسوف يلحظ الباحثون لاحقا مقدار الثقة بالنفس الذي كان يملأ تحليلات واحكام ذلك «الجندي» البسيط الذي يخاطب الند للند، اكبر زعيم في بريطانيا تلك الايام، ويسدي اليه النصائح.
وهنا علينا ألا ننسى ان سلاح الجو الملكي البريطاني قد اعتاد لعب دور شديد الخصوصية في مجالات الاستخبارات العسكرية في الشرقين الادنى والاوسط، وذلك في غياب اية بنى استخباراتية اخرى تابعة للجيوش البريطانية المتنوعة. ومن هنا كان من المنطقي ان تفكر لندن بتسهيل مهمات لورانس/ روس عبر تعيينه سكرتيرا للملحقية العسكرية في كابول... لكن ذلك لم يكن ممكنا لأن لورانس لم يكن من هواة الاعمال المكتبية أو كتابة التقارير على الآلة الكاتبة. كان رجل تحرك ميداني لذلك تقرر ان يبقى مقيما في حصن ميرانشا لمدة ستة اشهر. وكان هذا الامر في حد ذاته استثنائيا لأن مدة اقامة اي جندي في الحصن ما كانت لتتعدى الشهرين.
لكن لورانس في حد ذاته، كان شخصا استثنائيا طبعا، ولهذا بقي هناك ستة اشهر حاول ان يستفيد فيها إلى اقصى حدود الاستفادة. وهو، قبل كل شيء، ابدى اهتماما بالشئون الطبية وراح يعتني بالمرضى من سكان مناطق الحدود الهندية - الافغانية. وكان ذلك طبعا يتم عن نوايا طيبة... لكنه كان في الوقت نفسه خير وسيلة للتجول في المنطقة والاحتكاك بزعماء القبائل والمسئولين المحليين. ومفيد هنا أن نذكر نقلا عن زميلته في الاستخبارات البريطانية والتي خدمت مثله في الشرق الاوسط جرترود بل، كيف ان «روس» امضى ثلاثة اشهر متنكرا في زي جمّال محلي، متنقلا بين مكان وآخر في المنطقة. أما عملاء المكتب الثاني الفرنسي، فإنهم لم يتوانوا عن البدء بمراقبة تحركاته رابطين وجوده هناك مع وجود واحد من معاونيه القدامى في الصحراء العربية، النقيب ديفيد هيوبرت يونغ، ضابط المخابرات الذي تدرب في القاهرة، والذي كان مكلفا في افغانستان بتأطير وتدريب الافغانيين المتمردين على امان الله، وهكذا بدا واضحا أن ثورة جديدة ضد الامير التحديثي المعادي للانجليز، بدأت تلوح في الافق، وان لورانس يلعب دورا اساسيا في الإعداد لها، ولم يكن من المصادفة ان تبدأ تلك الثورة بالفعل، في الوقت نفسه الذي كان لورانس قد انهى فيه اقامته في حصن ميرانشا. ففي الايام الاخيرة من العام 1928، رفع المدعو «باشا - السقائين»، وهو بائع ماء سابق ينتمي إلى الطاجيك وعرف دائما بعمالته للانجليز، رفع لواء العصيان ضد أمان الله، وراحت القوات التي جمعها تتقدم نحو كابول بخطى وئيدة.
الصحافة ضده
في كابول ابلغ امان الله، عن طريق المدعو ديبنكو، الممثل المحلي للاممية الشيوعية، كما عن طريق فرنسيي المكتب الثاني، بوجود لورانس في بلاده... فما كان منه إلا ان شجب ذلك مطالبا الانجليز بسحب عميلهم، فيما كانت الصحافية السوفياتية تنشر مقالات مطولة عن لورانس و«جرائمه»... وسرعان ما حذت الصحف البريطانية حذو الصحافة السوفياتية. وكانت صحيفة «اليرالد» الليبرالية اول من فتح النار يوم 5 نوفمبر/ كانون الثاني 1929 بقولها «ان السلطات الافغانية تتهم لورانس العرب بمساعدة المتمردين وتأمل باعتقاله» وعلى الفور التقطت صحافة حزب العمال المعارضة «الكرة» وراحت تنشر المقالات المعادية للورانس والمنددة بـ «الدور الذي يلعبه في بلد مستقل». وسارت في لندن مظاهرات احرقت دمى تمثل لورانس. وفي مجلس العموم طرح النائب اليساري ارنست ثالتر، اسئلته على الحكومة في هذا الصدد. اما في الهند فعمت التظاهرات ضد «الامبريالية البريطانية». وفي ازاء هذا كله اكتفى المحافظ اوستن تشامبرلن بالتأكيد امام مجلس العموم البريطاني بأن لورانس ليس اكثر من «جندي وعامل ميكانيك ماهر»... ومع هذا اتخذ القرار بإبعاده عن افغانستان إلى مكان آخر. غير ان ذلك القرار لم يهدئ الخواطر. ولكن لماذا كان ذلك القرار اصلا؟ ببساطة لأن بريطانيا في ذلك الحين حققت الاهداف المتوخاة في افغانستان. ففي 14 يناير 1929 تنازل امان الله عن الوست. وبعد ثلاثة اسابيع اعلنت السلطات الجديدة سحب كل الاصلاحات ملغية المدارس العلمانية، معيدة إلى الاقطاعيين املاكهم، فارضة على النساء ارتداء الحجاب من جديد.
وفي الوقت الذي كانت فيه «الثورة المضادة» تنتصر في افغانستان، كان «الجندي البسيط» روس في طريق عودته إلى انجلترا. وكانت رحلة العودة حافلة بالاسرار والغوامض، مثل ذهابه إلى افغانستان قبل ذلك واقامته فيها. فالحال ان لورانس غادر حصن ميرانشا على عجل، ناسيا حتى العديد من أشيائه خصوصا فوتوغرافه العزيز عليه. وهو حين وصل إلى ميناء بورسعيد في مصر، لم يغادر السفينة على الاطلاق. وفي مرفأ بلايموت الانجليزي وافاه ضابط مخابرات اصطحبه عابرا وإياه دروبا ملتوية... وفي لندن طلب منه ان يعود الى ارتداء الثياب المدنية وان يختبئ في انتظار اوامر اخرى... لكن هذا لم يمنعه من ان يظل على اتصال هاتفي يومي مع اثنين من كبار مسئولي الاستخبارات البريطانية. وهو لم يفصح ابدا عن اسميهما حتى امام صديقه وكاتب سيرته ليدل هارت.
في العام 1929 نفي امان الله إلى روما. وحل محله عمه نادرخان. وهذا الاخير تمكن من سحق ثورة باشا السقائين الذي كانت المخابرات الانجليزية قد تخلت عنه.
وفي العام 1933 جرى اغتيال نادر شاه. وبعد عامين من ذلك، في يوم 19 مايو 1935، قتل «الملك غير المتوج» لورانس في حادث سير لايزال غامضا حتى يومنا هذا. فهل للأمر علاقة بما فعله في افغانستان؟ سؤال سيظل إلى الابد، من دون جواب
العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ