العدد 15 - الجمعة 20 سبتمبر 2002م الموافق 13 رجب 1423هـ

ثلاث دكتورات لا دكتورة واحدة... والغرام دافع لخدمة الوطن

«فراولين دكتور» أسطورة التجسس في الحرب العالمية الأولى

في ذلك الزمن الذي كانت فيه اعمال التجسس اشبه بالحزمة اليدوية. وقبل ان تدخل التكنولوجيا عالم نقل الاخبار والتضليل والتضليل المضاد، بشكل نهائي. في ذلك الوقت كانت الجاسوسية وعمليات الحصول على الاخبار والمعلومات تتم بشكل شبه حرفي، وعن طريق الافراد. ولما كانت الشبهات تروح دائما صوب الرجال اكثر مما تروح صوب النساء، كان من المنطقي لدوائر الاستخبارات ان تلجأ إلى الجنس اللطيف مستخدمة السيدات للوصول إلى ما يراد الوصول اليه. ولئن كانت ماتا هاري النموذج الاكثر شهرة وحضورا خلال الحرب العالمية الاولى، فإنها لم تكن وحدها، سواء اوجهنا انظارنا صوب قوات المحور - المانيا وحلفائها - ام صوب قوات الحلفاء. والحال ان حضور المرأة في عالم الاستخبارات، وكذلك في مستويات العمل المرادف للقتال كافة كان كبيرا إلى درجة انه تمكن من خلق اساطيره .

ومن هذه الاساطير، تلك المرأة الحديدية - قبل ان تولد النساء الحديديات في عالم السياسة - التي عرفت بلقب «فراولين دكتور» - أو السيدة الطبيبة - والتي اثارت هلع الكثيرين وفضول الجميع، حين راحت الانباء تتناقل عنها والتخمينات تدور في شأنها. وكان لذلك كله ان خلق امرأة نموذجية، ليس لأنّ الكتاب والسينمائيين استعادوها لاحقا، ليبنوا على أساسها شخصيات دخلت عالم النجوم. ولسوف يقال دائما ان الكاتب الألماني هاينريش مان، شقيق نوماس مان، استعار الملامح المتناقلة لـ «فراولين دكتور» لكي يسبغها على بطلة روايته «الملاك الأزرق» التي أدت دورها مارلين ديتريك، فدخلت الاثنتان سجل الخلود الفني.

ومهما يكن الأمر، فإن «الملاك الأزرق» قد تكون لها ملامح «فراولين دكتور» ولكن من المؤكد انها لم تقم بما قامت به هذه الأخيرة، لا في مجال عمليات التجسس المفترضة، ولا في مجال العديد من المهام الأخرى التي قامت بها خلال الحرب العالمية الأولى، أو التي نسبت إليها، طالما أننا سوف نكتشف بعد قليل، ان «فراولين دكتور» لم توجد أصلا، بل كانت من إبتداع مخيلة جماعية، لاشك ان الدعاية الحربية الألمانية ساهمت في تعزيز تلك المخيلة لغايات لا تخفى.

ولادة أسطورة

تعود حكاية «فراولين دكتور» إلى صيف العام 1914، كما تفيدنا سجلات كتاب «التاريخ العالمي للاستخبارات»، ففي ذلك الحين، حين راح الجنود الفرنسيون المهزومون واللاجئون البلجيكيون يتدفقون عبر الحدود من بلجيكا إلى فرنسا، كانوا جميعا يتحدثون عن امرأة ألمانية غامضة، ذات شعر يميل إلى الشقار وملامح قاسية، تلين في بعض الأحيان. وقالوا جميعا ان تلك المرأة العاملة في الصفوف الألمانية كانت هي التي تحقق مع الأسرى، أو تغويهم أو تعذبهم حسب الظروف. والملفت ان كل الذين كانوا يتحدثون عن المرأة، التي سرعان ما اصطلح علي تسميتها «فراولين دكتور» كانوا يروون حكاياتها نقلا عن آخرين، بمعنى ان أحدا لم يزعم انه قابلها أو رآها بأم عينه. لكن هذا كان يكفي لاستنفار الحلفاء، خاصة منذ أعلن الانجليز في العام 1915 ان ثمة «جاسوسة خطيرة يتراوح عمرها بين 26 و28 سنة، ولا يعرف أحد شيئا عن هويتها، تعمل في ارتباط مباشر مع «الكولونيل نيكولاي». ونيكولاي كان أحد أعمدة الاستخبارات الألمانية في ذلك الحين. وهذه المرأة التي صار اسمها على الفور «فراولين دكتور» وصفت بأنها «نحيلة وشقراء» وقيل انها تعمل في محيط الجنرال فون بزلر، قائد الجيش الثالث، في الاحتياط الألماني. وهكذا ولدت «نجمة» كبيرة من نجوم الحرب العالمية الأولى. لكنها كانت ولادة مفتعلة. لأن «فراولين دكتور» كانت من نتاج الوهم والمخيلة. والحلفاء هم الذين اخترعوها من دون ان يعوا خطورة ذلك، معطينها سمات ستظل ملتصقة بالنموذج الأكثر شهرة للجاسوسة القاسية، والمرأة المغوية القاتلة في القرن العشرين.

ولكن هل صحيح ان تلك الاسطورة/ النجمة ولدت من العدم؟

ليس تماما. ذلك ان الواقع التاريخي عاد ليقول لنا، انه إذا كانت «فراولين دكتور» من اختراع المخيلة التي عززها الحلفاء، فإن ثمة ثلاث نساء - على الأقل - عملن في صفوف القوات الألمانية يمكن ان تكون كل واحدة منهن أعارت ملامحها وسمعتها وممارساتها، للسيدة الدكتورة بحيث يمكن ان نقول في نهاية الأمر ان «فراولين دكتور» انما كانت توليفة بين الثلاث، لا وهما صنع من لا شيء.

خطيبة متفانية

الأولى بين الثلاث كانت بحسب المعلومات التي تجمعت بعد انتهاء الحرب الأولى، آن - ماري ليسّر، ابنة العائلة الموسرة والتي كانت في السادسة عشر من عمرها حين تعرفت إلى ضابط شاب من حرس القيصر الألماني يدعى كارل فون فنانكي. وهي إذ اضحت عشيقة هذا الأخير حملت منه ووضعت طفلا سرعان ما مات. وما ان عرف أهل آن - ماري بالأمر حتى طردوها في وقت كان فيه الضابط الشاب يعاني إذ حظر عليه رؤساؤه الزواج من محبوبته، فطلب نقله إلى جبهته بروسيا الشرقية وكان له ما أراد. أما آن - ماري فتوجهت إلى برلين حيث عملت بائعة ثم سكرتيرة. وفي تلك الأثناء ظهر الكولونيل الرهيب نيكولاي على الخط وجند الضابط الشاب في «المكتب الثالث» عاهدا إليه بأن يرصد عمليات التحصين البلجيكية بالقرب من «انفر». وارتأى الضابط بناء على نصيحة نيكولاي ان يصطحب معه آن - ماري، خصوصا وان أحدا لن يلحظ وجود عاشقين ولن يخمن انهما مكلفان بمهمة. وكانت تجربة كررها الضابط لاحقا في فرنسا حيث كان مكلفا برصد عمليات انشاء سكك الحديد في منطقة فردان - شارل فيل، ودائما لحساب المكتب الثالث الألماني. ولكن سعادة العاشقين لم تكتمل. إذ سرعان ما قضى التهاب الزائدة على الضابط الشاب. فصعقت آن ماري، واحسّت بالضياع وكادت تنهار لولا ان نيكولاي عرض عليها فورا ان تنضم، منفردة هذه المرة، إلى جهاز الاستخبارات وتكمل المهمة التي كان حبيبها بدأها. ولم يكن أمامها إلا ان تقبل لتبدأ فترة تدريب مكثفة شملت ممارسة ارسال الرسائل المشفرة وقراءتها، ودراسة التحصينات وسكك الحديد والاقتصاد. وهكذا حتى اذا اكتمل إعداداها في صيف العام 1914 كلّفت بأول مهمة كبيرة لها في ميلانو بإيطاليا، وهناك حققت نجاحا كبيرا، جعل نيكولاي يرسلها إلى فرنسا لتمضي سبعة أشهر متتالية وتقوم بالكثير من المهمات. وهكذا ما ان حل شهر أغسطس/ آب من العام التالي 1915، حتى صارت عميلة مهمة من عميلات المكتب الثالث وصار لقبها «أ.ع.ج»... وصارت من خيرة من يكلّفون بمهام سرية في فرنسا: 3 مهمات كبيرة خلال تلك الحرب، اثنتان في العام 1916، وواحدة أخرى دامت 5 شهور كاملة بين نهاية 1917 وبداية 1918. ومن هنا وبسبب نجاحها، وبسبب مهمات تجسس مضاد قامت بها في ذلك الحين في ألمانيا، خيّل للكثير انها هي «فراولين دكتور»، ونسبت إليها أعمال كثيرة، مثل القبض على 82 عميلا للحلفاء، وإعدام عدد منهم، والتدبير لاغتيال الجنرال البريطاني كيتشنر «الذي مات غرقا خلال مهمة كان يقوم بها في روسيا»، واعتقال عميلة الحلفاء اديث كافيل... إلخ. ولكن النجاح سرعان ما أسكر آن - ماري، فبدأت تدمن على المخدرات. ولاحقا خرجت من الظل في العام 1927 وراحت تثرثر كثيرا متحدثة عن مآثرها، لكن كل ما قالته أكد انها ما كان يمكن ان تكون «فراولين دكتور»... وعند نهاية أيامها ألحقت بمصح بالقرب من زيورخ قضت فيه.

المرأة الغامضة

المرأة الثانية التي «أعارت» ملامحها ومآثرها لأسطورة «فراولين دكتور» ستعرف دائما بلقب «امرأة برن الغامضة»، والتي لطالما حكى ضباط كثيرون عن التقائهم بها في فندق «بوريفاج» في لوزان بسويسرا، وهذه المرأة كانت - كما يبدو - حسناء، شابة تنتمي إلى الارستقراطية الألمانية العليا، ما يجعل من المستحيل معرفة اسمها الحقيقي. وكانت شقراء مثل آن - ماري، وبالغة الحسن.ولسوف يقال لاحقا انها كانت عشيقة دوق «برونزفيك»، الذي كان مسئولا عن أجهزة الاستخبارات التابعة لوزارة الخارجية الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى. وتقول حكاية «الغامضة» ان اول ظهور مرصود لها كان في اواخر العام 1941، حين وصلت إلى سويسرا مكلفة بالعلاقات معها لحساب الصليب الاحمر، الذي كانت تحمل بطاقة كممثلة له. وهناك، لكي تقوم بمهمتها على خير وجه تنكرت في زي ممرضة. وصلت يومها سويسرا متسللة، عبر النمسا المجر. وما ان وصلت حتى اتصلت بالكولونيل الالماني المقيم في سويسرا، نوان انيم، المسئول عن نشاطات التجسس الالمانية هناك. ولان هذه المرأة لم تعرف حقيقتها ابدا، سرعان ما أضحت محل ولادة خيالات الحلفاء... وهكذا نجد «مآثرها» تروى بكل فضول و«احترام» في مذكرات مسئولين استخباريين فرنسيين وروس، من الذين حكوا عنها حكايات متناقضة... كلها تشير إلى انها يمكن ان تكون «فراولين دكتور»... ومع هذا تبدو هذه الروايات في جوهرها غير متماسكة، ومختلفة في تصويرها لـ «الدكتورة الغامضة» عن الصورة التي صاغتها مخيلة الهاربين من بلجيكا. في احسن الاحوال قد تكون لديها بعض ملامح الدكتورة ولكن ليست كلها...

دكتورة... ولكن في الفلسفة

اما المرأة الثالثة التي تفي «ملامحها» بالغرض فهي اليزابيث شراغمولر، المولودة في العام 1892، ابنة لاسرة من الصناعيين المتوسطين في وسنفاليا. واليزابيث حصلت على دراسة متميزة في جامعة فرايبورغ، وهناك تعرفت إلى الضابط الوسيم الشاب كارل بريم، الذي كان مكلفا من قبل المكتب الثالث بتدريس اللغة الانجليزية. وهكذا، عن طريق فؤادها وحكاية غرامها، تماما كما كانت حال آن - ماري، وربما حال «الغامضة» ايضا، دخلت اليزابيث عالم الاستخبارات، اذ ان كارل بريم سرعان ما جندها، بعدما وقعت في هواه. لكن الاستنفار العام من اجل الاستعداد للحرب سرعان ما فرق بينهما، لكنه لم يبعدها عن مهماتها الجديدة. صحيح انها كدكتورة في الفلسفة كان يمكنها ان تعيش حياة هادئة في كنف اسرتها الموسرة، لكن حب الغامرة ناداها... وكذلك شعورها الوطني. وقررت ان تقوم بدور فعال. وهكذا وضعت في عهدة الكولونيل نيكولاي، بعث بها إلى بلجيكا حيث كلفت من قبل المكتب الثالث بالرقابة على البريد في بروكسل. ومن ثم انتقلت إلى انفر حيث راحت تبعث بتقاريرها عن تحصينات انفر، ما أكسبها احترام الجنرال فون بزلر وتقديره. وهكذا صارت ضابطة متفرغة في المكتب الثالث. وهناك كلفت بتجنيد وتدريب عملاء المستقبل. ولربما كانت مهمتها هذه هي ما جعل مخيلة «الحلفاء» تعطيها لقب «فراولين دكتور» وتسمها بسمة جعلت منها قاسية الفؤاد صلبة. خصوصا وان اليزابيث عرفت بسرعة ان حبيبها كارل بريم، الذي كان رقي إلى رتبة نقيب، قد قتل اثناء عمليات القصف التي قام بها الحلفاء، فيما كان يودع، رفاقة عائدا من الجبهة. والأدهى من هذا انه لن يعثر على جثته ابدا.

ومن البديهي ان موت الحبيب على الشاكلة، قد هز اليزابيث من اعماقها، وجعلها تتفرغ تماما لمهماتها الاستخباراتية. ومن هنا نجدها في تلك السنوات الحاسمة وقد صارت واحدة من اقدر واقوى ضباط المكتب الثالث البريطاني. بل انها صارت المسئولة عن فرع مدينة انفر عند بدايات العام 1915. وتقول الحكاية التي تناقلها الحلفاء منذ ذلك الحين، ولكن من دون ان تؤكدها المصادر الالمانية نفسها، انه يعود إلى تلك الحقبة امر اطلاق الالمان لقب «فراولين دكتور» عليها... وان هذا اللقب انما ألصق بها، ليس لانها طبيبة، كما قالت افلام كثيرة، المانية وفرنسية، أُنتجت لاحقا، بل لانها دكتورة في الفلسفة لا أكثر. المهم في الامر ان اليزابيث شراغمولر ظلت في وظيفتها تشغل المهمات التي تكلف بها في بلجيكا حتى العام 1918. فما الذي سيكون عليه مصيرها بعد ذلك؟.

تقول الحكاية، ان اليزابيث نُسيت تماما بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى. وهو نسيان لم يخرجها منه بعد سنوات كثيرة سوى جوزف غويلز، وزير الدعاية النازي ايام حكم هتلر، اذ ان غويلز عرف حكايتها فاتصل بها وبدأ النازيون بتكريمها بوصفها «بطلا ايجابيا» ونموذجا يجب ان يحتذى للمرأة التي تخدم وطنها ولاسيما افكاره النازية... ذلك ان اليزابيث انضمت في ذلك الحين الى الحزب النازي الذي راح يستفيد من مواهبها وخبراتها. ولم تكن وحدها، من الجيل القديم التي انضمت الى النازيين بل كان هناك كذلك الكولونيل نيكولاي الشهير الذي سرعان ما وجد نفسه يعزز من خلال شخصية اليزابيث، اسطورة «فراولين دكتور» مصرا على انها هي تلك الدكتورة الرهيبة... واليزابيث لم تكذب الحكاية، طبعا، وان كان كثيرون قد شككوا في صدقية الأمر كله. واليزابيث التي ظلت على الدوام وطنية مستعدة لخدمة ألمانيا، ماتت في العام 1940، أي عند بدايات الحرب العالمية الثانية وكلها ثقة بأن وطنها سوف يسنتصر وان النازيين سوف يحكمون أوروبا، على الأقل، وان الأقدار سوف تكمل المهمة التي كانت بدأت بها: مهمة الانتقام من الحلفاء الذين قضوا- قصفا - على حبيبها

العدد 15 - الجمعة 20 سبتمبر 2002م الموافق 13 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً