العدد 2164 - الجمعة 08 أغسطس 2008م الموافق 05 شعبان 1429هـ

وولدت من جديد

ما إن رنّ جرس المنبه الذي عادة ما كنت أضعه بالقرب من رأسي، حتى عاجلته بضربةٍ قاضيةٍ أسكتته على الفور وربما للأبد! فعلت ذلك وأنا مغمضة العينين وكأنني أصر على الاستمتاع ببقايا لذة النوم في فترة الصباح وهذا هو دأبي كل يوم، ولكن اليوم مختلف، فتحتُ عيني بقوة لأنني تذكرت، إنه يوم الدراسة الأول، وكان عليّ الاستيقاظ مبكرة حتى أهيئ نفسي للذهاب للمدرسة، انكببتُ أحدّق في المنبه المسكين، فغشاوة النوم مازالت تحجب عني الرؤية، شهقت شهقة كبيرة، يا إلهي، إنها السادسة والنصف، لابد أن صديقاتي قد استعددن للذهاب للمدرسة وأنا هنا أغرق في نومٍ عميق، ماذا أفعل الآن؟! سأسرح شعري أولا ... لا... لا... سآخذ حماما... ما هذا؟

بسرعة فائقة هيّأت نفسي وربطت شعري بربطة بيضاء جميلة ولبست زيي المدرسي واقتربتُ من المرآة لأنظر إلى نفسي على عجل... أعجبتني هيئتي، فحملتُ حقيبتي في يد وفردتي حذائي في اليد الأخرى، وانطلقت مسرعة نحو المدرسة، أتسللُ بخفة بالغة حتى لا تسمع أمي وقع قدمي، فتلحق بي بكوب الحليب وفطيرة الجبن، لكن محاولاتي تلك باءت بالفشل، لأن أمي كانت تنتظرني عند الباب وفي يديها الفطيرة وكوب الحليب!

- صباح الخير أمي.

- صباح الفل يا حبيبتي.

-أمي ما هذا؟ أنا الآن في الرابعة عشرة من عمري، أكاد أنهي المرحلة الإعدادية ومازلتِ تعاملينني كالأطفال؟

- وما الذي فعلته يا سعاد؟

- هذا الذي تحملينه في يديكِ... الإفطار...

- وهل الأطفال وحدهم من يتناولون طعام الإفطار؟!

- لن أتناول أي شيء وافعلي ما يحلو لكِ.

قلتُ ذلك متأففة وخرجتُ مغلقة الباب خلفي بقوة من دون أدنى احترام لوالدتي المسكينة. انسحبت أمي بهدوء ميمنة المطبخ، تكفكف دموعها بأطراف كمها وهي تمتم ولسان حالها يقول: أنا أستحق ذلك بل أكثر، أنا التي تركتُ لها الحبل على الغارب، لقد كنتُ أقاطع كل من يوجهني في تربيتها، وكلما تذكرت يتمها وفقدانها لوالدها وهي في الثالثة من عمرها لا أستطيع تمالك نفسي، حينما تخطئ أتغاضى عن معاقبتها علني أبكيها أو أزعجها، لقد دللتها كثيرا، لم اسألها أبدا ماذا تفعلين وإلى أين تذهبين، لم أكن أرغب في التضييق عليها، حتى دينها لم أشرحه لها، لأنني أراها طفلتي التي لا تكبر، لكنها الآن كبيرة وجريمتي تكبر معها، لقد كبرت لدرجة أنني لا أستطيع التفاهم معها، كيف سأغفر لنفسي هذا الجرم الكبير وكيف سيغفر الله ما فعلته بنفسي وابنتي؟

أنشأتني مستهترة، لا احترم الآخرين وهمّي في هذه الحياة أن أنهل من الملذات الدنيوية، أفعل ما يحلو لي ولو تعدّيتُ على الآخرين، وكل من يقدم لي النصيحة هو عدوّي المبين.

وصلتُ باب المدرسة وإذا بصديقاتي اللاتي يشبهنني كثيرا في تصرفاتي وأفكاري يلوّحن لي من بعيد، ركضتُ نحوهن وتبادلنا التحية والضحكات وباشرنا نتحدث عن مغامراتنا في العطلة الصيفية، إلا أن رنين الجرس قد قطع علينا الحديث، فانصرفنا نحو الفصول بعد أن تواعدنا على اللقاء لنستكمل أحاديثنا في فترة الاستراحة.

بحثتُ عن اسمي في الأوراق المعلقة على الفصول حتى وجدته... نعم... إنه هو: سعاد أحمد علي/ الثالث الإعدادي فرقة(2)...

دخلتُ الفصل وكأن ماردا قد دخل... أمشي وتبتعد الفتيات عن طريقي بصمت، لقد كن يبتعدن عني درءا لأية مشكلة قد أختلقها معهن!

جلتُ بنظري داخل الفصل، وقع نظري على مقعد في إحدى الزوايا، اخترته ليكون لي وحدي لا يشاركني فيه أحد، ومن يجرؤ على ذلك؟ توافدت الطالبات على الفصل وجلس الجميع كلٌ في مكانه، ولم تمر سوى بضع دقائق حتى دخلت مربية الفصل (الأستاذة نوال)، وقفت الطالبات احتراما لها، أما أنا فوقفتُ متململة ومتثاقلة، حيّتنا الأستاذة فرددنا عليها التحية ثم أومأت لنا بالجلوس.

شرعت مربية الفصل تتأكد من أسماء الطالبات وتحاول ترتيب الفصل، إلا أن طرقات خفيفة على الباب لفتت أنظار الجميع، إنها المشرفة الاجتماعية، خرجت الأستاذة (نوال) وانبرت الفتيات يتهامسن ويتمتمن ويتساءلن عن سبب حضور المشرفة، لكن لم تدم حيرتهن طويلا؛ لأن الأستاذة دخلت الفصل وناشدتنا الهدوء لأنها ستعلمنا بالخبر...

- عزيزاتي... تعلمن أنه اليوم الأول في المدرسة وكثيرا ما تحدث تغييرات في الفصول، لقد طُلب مني قبول إحدى الطالبات المنقولات من المدارس الأخرى في فصلنا... هيا رحبن معي بصديقتكن الجديدة (إيمان).

دخلت (إيمان) تمشي على استحياء وقد احمرّت وجنتاها من الخجل، سلّمت علينا ورددنا عليها السلام. سارت برزانة بالغة تلاحقها نظرات الجميع، فبادرتها الأستاذة (نوال) هناك يا (إيمان) يوجد مقعد خال بالقرب من (سعاد). فتحت الطالبات أعينهن والكل يحدث نفسه، ستجلس بالقرب من (سعاد)، يا للمسكينة!... ليكن الله في عونها... نظرت (إيمان) إليّ نظرة حانية وكأنها تستأذنني بالجلوس قربي، إلا أنني رمقتها بنظرة حانقة وأشحتُ بوجهي عنها للجهة الأخرى.

- من أين جاءت (إيمان) هذه لتجلس بالقرب مني مع هذه النظرات البائسة؟ يبدو عليها المسكنة المصطنعة، لابد أنها تخطط من اللحظة الأولى لأن تقنعني بتفاهاتها، لابد من الحذر؛ كي لا ترميني بسهامها هذه الماكرة.

في الوقت نفسه كانت (إيمان) تصغي إلى حديث نفسها هي الأخرى ولكن شتان بين الحديثين!

- من هذه (سعاد) التي أجلس بالقرب منها؟! لماذا ترمقني بهذه النظرات؟ لعلها منزعجة من جلوسي قربها.

دق جرس الحصة الأولى، دخلت معلمة الرياضيات الفصل وبدأنا الدرس الأول، أبدت (إيمان) اهتماما ملحوظا بالدرس منذ اللحظة الأولى وأثارت إعجاب الجميع بمشاركتها الفعّالة وبالمعلومات التي كانت تعرضها.

انتهى الدرس أخيرا وخرجت المعلمة فانبرت (مريم) مسرعة نحو (إيمان)...

- أنا (مريم)، يبدو أنكِ لستِ من هذه المنطقة. أليس كذلك؟

- نعم، لقد اشترى والدي منزلا جديدا واضطررنا إلى الانتقال إلى هنا، وتركتُ مدرستي التي أحبها كثيرا، لكن يبدو أن الله سيعوضني بكن.

- طبعا... طبعا... يسعدنا انضمامكِ إلينا.

ضحكت بعدها (مريم) ضحكة عفوية تصدر من الإنسان أحيانا حينما يكون مرتبكا أو يحادث أحدهم للمرة الأولى.

هكذا كانت كل واحدة في الفصل تعبّر عن ترحيبها بـ (إيمان) بطريقتها الخاصة، فواحدة تبتسم لها وأخرى تلوّح لها بيدها وهكذا... و(إيمان) فرحة جدا لأنها لم تتوقع هذه الألفة السريعة التي بدأ يغزل نسيجها شيئا فشيئا، إلا أن فرحتها لم تكتمل، لأنه مازال هناك من لا يرغب فيها ولا التحدث معها، إنها (أنا)، لقد فضلتُ العبث بأغراض حقيبتي أخرجها وأدخلها بطريقة عشوائية، لا أدري ما حقيقة مشاعري... إنني لا أنكر شخصيتها القوية وحضورها الفعّال.

أخيرا انتهى اليوم الأول. كنتُ أراقبها وهي تعدّل من هيئتها وتمشي بوقار نحو باب المدرسة الكبير، وهناك وقفت تنتظر والدها كي يقلها إلى المنزل، وبينما هي كذلك، كانت تلحظ عيناي تراقبانها أينما ذهبت، وكلما باغتتني بنظرة أدرت بوجهي صوب مكان آخر...

قررت (إيمان) مبادرتي بالحديث فربتت على كتفي من الخلف، استدرتُ لها...

- قالوا لي إن اسمكِ (سعاد) أليس كذلك؟

نظرتُ إليها مقضبة ما بين حاجبي وكأن الفرصة التي أنتظرها قد واتتني للانقضاض عليها، فأجبتها:

- والذي عرّفكِ باسمي، ألم يقل لكِ بأنني لا أرحم كل من يتدخل في شئوني...

أجابتني (إيمان) بكل ثقة وهدوء...

- كلا... لم يخبرني أحد بذلك وإن أخبروني فلن أصدقهم، لأن عينيك لا تقولان ذلك.

ابتسمت ثم غادرت المكان لأن والدها كان يلوّح لها من سيارته. غادرت وتركتني في ذهولٍ تام، لقد خسرتُ المعركة من الجولة الأولى. لقد كان طريق عودتي إلى المنزل مختلفا تماما عن طريق خروجي منه في الصباح. ما كنتُ ألتفتُ لأحد ولا يهمّني إن كان هناك من ينظر إليّ. وصلت إلى المنزل، فتحتُ الباب بقوة، وفورا نحو غرفتي، وهناك ألقيت بجسدي المتعب على السرير، ثم انتصبتُ قائمة، ألصقت وجهي في المرآة، أطلتُ النظر في عيني، ما الذي رأته في عينيّ هذه المخادعة؟! إنها تزعم فهمها لغة العيون، هل تريد استمالتي إليها ثم تغويني بخرافاتها.

مرّ شهرٌ على قدوم (إيمان) وفي كل مرّة أحاول الإيقاع بها والسخرية منها تنتصر عليّ بسرعة بديهتها وأخلاقها الرفيعة. في الحقيقة أعجبتُ بهذه الفتاة وبطريقتها في الكلام ومعالجتها للأمور. ولعل ذلك ما يزيدني رغبة في تحديها، لأنني لا أمتلك ما عندها فيمتلئ قلبي غيرة منها، حتى جاء ذلك اليوم وخطرت لي فكرة شيطانية، أريد أن أجرح (إيمان) في أعز ما لديها، أخذت أروّج الشائعات عنها وعن والديها واخترعتُ قصصا وهمية عن سبب انتقالهم من قريتهم، وادعيتُ معرفتي بتاريخ أسرتها وكم كانوا منبوذين لأفعالهم المشينة، وطردوا من القرية من أجل ذلك. عرفت (إيمان) أنني مصدر الشائعات، لكنها لم تتعرض لي بكلمة واحدة، نظراتها المعاتبة كانت كافية جدا لأعرف مدى ألمها وحزنها!

عدتُ إلى المنزل في المساء، استلقيت على السرير، كلما أغمضتُُ عينيّ كانت صورتها تمثل أمامي، وكان ذلك حتى الصباح. حاولت النهوض لكنني لم استطع، يا إلهي إنها الحمى. لقد وقعتُ طريحة الفراش وتغيبتُ عن المدرسة ثلاثة أيام متواصلة. لم يفكر أحد في عيادتي ولم أكن أتوقع ذلك، فأنا لستُ محبوبة من أحد.

لقد اكتشفتُ متأخرة أنني وحيدة في هذا العالم، لقد كانت تصرفاتي العبثية تنفر الناس مني. لو كانت (إيمان) ملقاة على هذا السرير لكانت الغرفة تعجّ بالزائرين. والآن ما نهاية هذه الحمى؟ درجة حرارتي مستمرة في الارتفاع. هل قاربتُ على النهاية؟ كيف سأقابل ربي بهذا الوجه القبيح؟ سيسألني عن صلاتي، صيامي، أمي، أهلي، الناس، (إيمان). أحسستُ بأن شرخا في كياني بدأ في الانفتاح ليدخل في خلجاتي بصيص من نور لا أدري أين مصدره!

دخلت عليّ والدتي تتأكد من درجة حرارتي وتعدّ الضمادات وتجهزها، وأنا أمعن النظر في قسمات وجهها الذي بدا عليه التعب والإنهاك، وتذكرتُ كل ما فعلته بها من حماقات، خجلتُ من نفسي كثيرا وهي تسقيني الدواء. خرجت أمي واستسلمتُ لمفعول الدواء وغفوت قليلا لأستيقظ على صوت طرقات خفيفة على الباب. أجبتُ بصوت ضعيف:

- ادخلي أمي.

انفتح الباب، لكنني لم أرَ أمي، إنها (إيمان) بابتسامتها المعهودة ووجها النقي، تحمل في يديها باقة من الورود الجميلة.

لم أتمالك نفسي، أجهشتُ بالبكاء، أمسكتُ يديها بقوة، رجوتها أن تسامحني على كل ما كنتُ أفعله بها، لقد تسمّرتُ عاجزة أمام نبلها وعظيم أخلاقها، لقد تركت كل شيء جانبا وكانت الوحيدة التي تذكرتني، كم وجدت نفسي صغيرة أمامها. لقد كانت تلك جولتي الأخيرة معها وانتصرت عليّ فيها انتصارا ساحقا، وأعترف بالهزيمة أمامها ولكن هزيمتي هذه المرة لها طعم آخر، لقد كانت انتصارا على نفسي الأمارة بالسوء، وانتصارا على الشيطان الذي كان يغويني، وعادت إلى جسمي عافيته، لكنني أشعر بأن شفائي كان في داخلي، في أعماق روحي التي مازالت تتماثل للشفاء.

لقد أصبح وجودي مع (إيمان) وملازمتي لها في كل مكان أمرا عاديا. لقد تعلمتُ على يديها الصلاة، ومعها سمعت أذناي تلاوات عذبة جميلة من كلام الله العزيز تفتّح لها قلبي وعقلي وروحي، معها اكتسبتُ ود الآخرين وصار الجميع يحترمونني لأنهم يحبونني لا لأنهم يخافونني. لقد صرتُ أرى أمي تضحك من أعماق قلبها للمرة الأولى.

إنني أشعر بشعور غريب وكأنني أرى الحياة للمرة الأولى، ينتابني إحساس مختلف، وكأنه إحساس المولود الخارج من رحم أمه المظلم إلى نور الخالق في الكون... نعم لقد ولدتُ من جديد...

وانتهت (سعاد) من قراءة أهم صفحة من صفحات مذكراتها لتضعها بين يدي ابنتها (هدى) التي نظرت إليها بذهول...

- إنها لكِ يا بنتي... أردتها أن تكون لكِ منذ أمسكت القلم أخطها به وأنا في مثل عمركِ... فحافظي عليها.

ابتسام علي مكي

العدد 2164 - الجمعة 08 أغسطس 2008م الموافق 05 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً