يفاجأ زوار العراق عندما يجدون وقع الحياة طبيعيا في بغداد والمدن العراقية الاخرى... وتتحول المفاجأة الى نوع من الدهشة عندما يربطون بين ما تشيعه وسائل الاعلام العالمية من نذر الحرب التي تستهدف العراق، وما يشاهدون من مظاهر عدم اكتراث لدى العراقيين تتجلى في انصرافهم الى اعمالهم بطريقتها المعتادة من دون التفات الى ما يتهددهم. يقول رئيس قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في كلية الحقوق في جامعة وهران «بن حمادي عبدالقادر»، الذي جاء الى بغداد في منتصف سبتمبر/ ايلول الماضي للمساهمة في مؤتمر اقامه بيت الحكمة العراقي بهدف مناقشة فكرة تأسيس مجلس امة عربي: «كنت اتوقع ان يتم تأجيل هذا المؤتمر الفكري الى موعد آخر على خلفية التهديدات التي يتعرض لها العراق، الا ان القائمين على المؤتمر ابلغوني دعوتهم بالموعد مؤكدين انعقاده». ويضيف الاكاديمي الجزائري «وهكذا جئت الى بغداد، وانعقد المؤتمر... وعندما التقيت بزملائي الاكاديميين العراقيين وجدت ان الادراك السائد لديهم ان اميركا مصرّة على العدوان على العراق مهما حاولت بغداد من ابطال ذرائع تلك الحرب، والسبب كما سمعه ان الطبقة المتحكمة في صناعة القرار في اميركا بهذا الشأن خاضعة للمدركات الاسرائيلية، ولذلك فان اميركا باعتقادهم ستشن الحرب على العراق حتى لو كانت ضد مصالحها، لسبب ان هذه الحرب تخدم مصالح اسرائيل التي هي في النهاية ليست على ذات الخط المستقيم مع المصالح الاميركية». ويشرح عبدالقادر (الجزائري) ان ما لمسه من رجل الشارع العراقي البسيط هو ذات الادراك الذي عبر عنه الاكاديميون العراقيون، وان اختلفت مفردات التعبير عنه، ومع ذلك وكما يضيف «لم ألحظ شيئا يدل على ان اقتراب شبح الحرب قد اثر على الوتيرة اليومية للحياة في العراق، وكأن ما يتوقعونه سيدور في عالم آخر وليس على ارضهم ووطنهم».
والمتابعون للشأن العراقي بتفاصيله الجزئية يعرفون ان الوزارات العراقية ومؤسسات الدولة المختلفة منشغلة منذ اشهر باعداد خطط عشرية لايقاع عملها وفي سباق مع الزمن للمباشرة في تنفيذ هذه الخطط العشرية... فوزارة المواصلات وشركة السكك الحديد فيها باشرت العمل للبدء في تنفيذ عملية ربط بين المدن العراقية المختلفة بشبكة من السكك الحديد مرتبطة بشبكة اخرى يفترض ان تستمر وتتطور لربط العراق مع جميع دول جواره الاقليمي. والموانئ العراقية بدورها باشرت بتنفيذ ما مقدر لهذه السنة تنفيذه من خطتها العشرية، وهكذا بقية الوزارات الاخرى فوزارة الصناعة على سبيل المثال باشرت في اقامة اكبر مجمع للصناعات الالكترونية والدوائية في البلد بكل مستلزماته... وهيئة السياحة تكاد تنتهي من تنفيذ بعض المجمعات الفندقية في محافظة النجف بانتظار البدء بمشروعات اخرى في اطار خطة العام الجاري ارتباطا بما هو مخطط للسنوات العشر المقبلة... وهكذا بقية مؤسسات الدولة.
ويكاد حال المواطن العراقي لا يختلف كثيرا عن حال حكومته... فحركة بناء المواطنين لدور سكنية على قدم وساق بعد ان اطلقت اجازات البناء التي ظلت متوقفة لسنوات، ووزعت الحكومة نحو اكثر من اربعة ملايين قطعة سكنية على العراقيين خلال الاعوام 2000 - 2002، ووفرت وزارة التجارة المواد الانشائية بموجب مذكرة التفاهم (أي برنامج النفط مقابل الغذاء) وهكذا اصبح سعر طن حديد التسليح حاليا نحو 110 آلاف دينار عراقي أي ما يعادل 55 دولارا بعد ان بلغ سعره قبل اربع او خمس سنوات اكثر من مليون دينار أي ما يوازي نحو 600 دولار، وباشر المصرف العقاري باعطاء قروض ميسرة... وحركة بيع وشراء السيارات الحديثة ازدهرت هذا العام بعد ان قامت وزارة التجارة باستيراد سيارات حديثة متنوعة ومن موديلات العامين 2001 و2002 لتوزعها على المواطنين المسجلين عليها منذ الاعوام الاولى في ثمانينات القرن الماضي وبأسعار تتراوح ما بين ستة ونصف مليون واثني عشر ونصف مليون دينار عراقي حسب الحجم والنوع، كما منحت الحكومة تسهيلات كبيرة للمواطنين لاستيراد السيارات الانتاجية والصالون الحديثة وبرسوم جمركية بسيطة للسيارات الصالون وباعفاء جمركي كامل للسيارات الانتاجية.
وأمام مفارقة الشعور بقرب موعد دنو الحرب وأهوالها واقدام العراقيين حكومة ومواطنين على الاستمرار في وتيرة التخطيط للمستقبل بل وعدم تأجيل تنفيذ مشروعات المستقبل بانتظار ما ستجليه الشهور المقبلة يجد المراقب لوقع الحياة في العراق نفسه بحاجة لتفسير لهذه المفارقة، وحاولت «الوسط» ان تبحث عن هذا التفسير فسألت اهل الاختصاص والرأي وبدت الاجابات متوافقة. فقال امين عام بيت الحكمة العراقي قيس محمد نوري: «ان من بين اهم اهداف الحرب الاميركية على العراق عرقلة عملية البناء والنهوض فيه، وبما يحول دون تأثير العراق في بيئته العربية والاقليمية... ولذا فان العراقيين في سعيهم الحثيث في الاستمرار بوتائر متصاعدة في العمل نحو المستقبل، انما في ذلك يعدون انفسهم لافشال اهم الاهداف العدوانية الاميركية، وبما يمكن العراق من البقاء عنصرا فاعلا في محيطه العربي والاقليمي، وهذا ما جعل بيت الحكمة يعقد خلال الاسابيع الماضية ندوتين اولهما بحثت امكان اقامة مجلس امة عربي. «وثانيهما عن الفكر القومي العربي، مراجعة لمسيرته في القرن الماضي وضرورة تفعيل قدرته لمواجهة تحديات القرن الجاري، وقد انطلقنا كمؤسسة بحثية كما مؤسسات العراق في تأدية ادوارنا والاستمرار فيها حتى لا نكون ضحية الخدعة الاميركية التي تريد وضع العراق كما العرب في اطارها بايقاف الحياة والهائنا عن الولوج الى المستقبل».
ويكاد لا يختلف استاذ اللسانيات في جامعة بغداد محمد الدعمي عن امين عام بيت الحكمة عندما يشير الى ان العراق وبحكم امتلاكه خبرة طويلة للتحدي الخارجي صار يتمتع بأفق واسع يجعله لا يمكّن التحدي الامبراطوري من لي ذراع العراق وثنيه عن خططه التنموية البعيدة المدى، ويضيف الدعمي «ان ما يبدو للآخرين لا مبالاة من جانب العراقي من حيث ممارسة حياته اليومية وبنوع من الازدراء للتهديدات الاميركية انما يقوم في جوهره على عدم الانسياق نحو الهياج الهستيري، في الوقت مواجهة التحديات بحذر وحيطة وتحسب عاليين... وما يعتبر لا مبالاة لا يمثل سوى الغطاء للاستعداد الحقيقي للمواجهة... فالعراقي يستمر في حياته اليومية متواصلا بروحه مع المستقبل ويهتم بحياة السلام والاستقرار ويعد لها في الوقت ذاته يتحسب لكل احتمالات الحرب ويواصل تدريباته العسكرية لكي يعد نفسه لمقارعة الغزاة اذا ما دنوا من ارضه ومدينته وشارعه».
اما حميد عبدالله من كلية العلوم السياسية في جامعة صدام فيرى ان الحروب السابقة التي عرفها العراقيون خلقت لديهم سيكولوجية خاصة تتسم باستعداد عال لمواجهة الظروف الصعبة، ويقول «العراقيون يتحسبون للحرب ولكنهم لا يستسلمون لتبعاتها» و يضيف «وهو سلوك افرزته الحروب لشعب ألف حياة الحروب وظروفها الاستثنائية». ويضيف عبدالله «وبخلاف ما يرى الكثيرون، المواطن العراقي يفكر بالحرب بصوت عال وهو قلق منها، ولكنه حاليا غير متيقن تماما منها، خصوصا انه عايش ظروفا شبية بما يراه اليوم من حيث حجم التهديدات وجديتها، ومع ذلك كان يصعد العراقيون الى سطوح المنازل العام 1998 ليروا اين تقصف الطائرة الاميركية وعلى أي هدف يسقط الصاروخ».
ويعبر دبلوماسي خليجي - يمضي سنته الخامسة في عمله في العاصمة العراقية - عن اعتقاده بقوله «ان العراقيين سئموا التهديدات الاميركية وبالتالي باتوا لايبالون كثيرا بها... فالانسان، ومن الطبيعي أن يقل عنده الاحساس بالخوف وهو يسمع كل يوم التهديدات، ويبدأ لايبالي بها»
العدد 37 - السبت 12 أكتوبر 2002م الموافق 05 شعبان 1423هـ