عندما تجاوز بعضهم «الشعرة» التي يغيب بعدها العقل، ألفى نفسه وراء القضبان في لحظة يتمنى ألا يرجع لها لو قدر له الزمن أن يرجع، ولكنها النفس البشرية منذ الخليقة إلى اليوم، النفس التي لا تنفك ترى ما حل بمن سبقوا، ولكنها في الوقت ذاته لا تتعظ.
الأسباب التي على أساسها تم سجنهم متعددة، ربما تتشابه هذه الأسباب، ولكن التفاصيل تختلف، والدوافع تتعدد.
في سجن جو المركزي - الذي كان قبل عملية «تبييض السجون» والتي قادها في الخامس من فبراير/شباط من العام 2001 صاحب العظمة الملك - كان ذا سمعة سيئة بالنسبة للمعتقلين السياسيين أو الذين وجهت إليهم تهم المشاركة في أعمال التخريب في السنوات العشرين الأخيرة، لأنه حل محل سجن «جِدا» بعدما أغلق ذلك السجن الجزيري.
في هذا السجن، وتحديدا في الورش التأهيلية للنجارة، والخياطة التقينا بهم، هؤلاء الذين قامروا بحياتهم في لحظة اعتقدوا فيها انهم وجدوا الحل، وغامروا بكل ما عاشوا فيه للحظة لم يميزوا فيها الطيب من الخبيث، وجدناهم لم يحصدوا إلا الندم، ولكن بعد فوات الأوان.
اعتاد النزلاء في السجن أن يتجاهل كل منهم جريمة الآخر، ففي السجن لا احد يتحدث عن الجريمة، وخصوصا بعد مرور السنوات، كل منهم يريد أن ينسى، ومن يمكن أن ينسى ما جعله يضيّع عمره سدى؟
قتل السكرتيرة
في ورشة النجارة، ووسط الأخشاب، والآلات، وقف يؤدي عمله، ملامحه تعكس عمره الذي تجاوز الستين، وعيونه تعكس انكسارا داخليا يفوق هذا العمر بكثير، هو (ح.م)، متهم بقتل سكرتيرته يتحدث: «أنا ما قتلت أحدا، ما عندي علم بالموضوع «خير شر»، اتهموني بقتل سكرتيرتي، كنت تاجرا، وها أنا خسرت كل شيء، وحكم عليّ بعشر سنوات قضيت منها ثماني، وانتظر الخروج».
وعن عمله في الورشة يقول: «نحن نعمل في الورشة وفقا للمواصفات الإدارية، أكثر النزلاء يقبلون على العمل في الورشة، يعامل السجين في السجن وفقا لسلوكه (اللي يمشي سيده، يصير سيده)».
يزوّر الشيكات ويصدر مجلة
(أ. أ)، هو ليس لصا عاديا فهو فنان، يعرف كيف يصطاد فريسته، تزوير شيكات، بيع أراض، ليس المهم من يملك هذه الأرض، المهم انه يستطيع أن يوهم الناس - حتى الأذكياء - انه يملكها، أو يمتلك على الأقل توكيلا عنها، وإذا كان المثل يقول: «غلطة الشاطر بألف»، فقد «غلط» هذا الشاطر وحكم عليه بالسجن 18 عاما مع النفاذ، مر منها الآن عشر سنوات، ولأنه من ذلك النوع الذي يعشق الحياة، أراد أن يبتكر شيئا جديدا، فاقترح على المسئولين في السجن إصدار مجلة خاصة بالنزلاء، وكان له ذلك، وأصبح مسئولا عن مجلة «النزيل»، وتتناول المجلة، شعرا، وطرائف، وموضوعات خفيفة تشمل نصائح للنزلاء، معلومات، خواطر، ومن أجمل الأبواب التي تتناولها المجلة، باب «اعتراف نزيل مجهول»، وهو باب يتحدث فيه نزيل كل شهر عن قضيته، وكيف ارتكب جريمته وكيف وقع في يد العدالة، والقصص فيها عبرة، ودروس في الحياة.
وجهه مبتسم، حتى انك تخاله سعيدا بالسجن، فهو لا يحمل للدنيا هما، وكأنه كان متوقعا هذا المصير، وهذا هو حال المغامرين الذين يرون أن هناك منفذا ليستمتعوا فيه بحياتهم، وإن كانت داخل السجن.
«كم ربحت من عمليات النصب؟» سألناه، فيقول وهو يضحك: «موب وايد، زوين»، (أ. أ) لا يعرف متى يمكن أن يخرج من السجن، والغريب إن كل النزلاء حين نسألهم عن يوم خروجهم، يقولون: «لا نعرف»، وقد فسر لنا مدير المؤسسات العقابية العقيد عبدالرحمن المريخي سبب عدم معرفتهم بموعد خروجهم من السجن، بقوله: «إن النزلاء يتوقعون مكرمات ملكية بين وقت وآخر، لذلك فهم لا يعرفون موعد خروجهم من السجن ومتى تأتيهم هذه المكرمة».
يقول (أ. أ): «هذه المجلة هي فكرة النقيب عبدالله، وقد حاولت أن أترجم فكرته إلى واقع، يساعدني في تحرير المجلة بعض النزلاء كل واحد وفقا لموهبته، نحاول أن نقوم بعمل مفيد للنزلاء، يمكن أن يتطور فيما بعد».
اختلاس
(م.أ) آسيوي، تهمته اختلاس 2000 دينار، يقول: «أنا ما يعرف ليش سويت بوق، تسع سنوات ماشي استريت»، ولكن الشيطان لعب برأسه، وجعله يسرق الأموال التي في عهدته، حكموا عليه بسنتين، مرت منهما سنة ونصف السنة، ويقول: «أول ما اطلع من السجن ما بسوي شي، خلاص بروح بلدي، أعيش مع الباتشا، والله يسامحني».
هذا النزيل يعمل في ورشة الخياطة، يقوم بخياطة بعض ملابس النزلاء، أو الأغطية التي يستخدمها النزلاء، اليوم ينظر إلى الحياة بعيون أخرى، كل ما يريده أن يتعلم حرفة، ويخرج من السجن ليعيش مع أسرته.
حشيش
في مكتبة السجن، وقف أحد النزلاء ينظم الكتب، يعمل أمينا للمكتبة، حين تراه تظنه ولد في هذا المكان، وأن عمل أمانة المكتبة عمله الذي لم يعرف غيره، هدوء يلفت الأنظار، وحديثه يدل على ثقافته، وإنه في المكان المناسب، يشير إلى المكتبة التي هو أمينها قائلا: «لدينا 6442 كتابا من مختلف الأنواع، ولدينا ثلاث فترات تشمل ثماني ساعات يوميا، النزلاء يقبلون على القصص، الكتب الدينية، والإنجليزية، البعض يعشق كتب الشعر، أو الكتب الأدبية بشكل عام، والنزيل يستطيع أن يستعير الكتب، ويقرأها في الزنزانة».
«وكيف جئت إلى هنا؟»
تتقلص ملامحه، وكأنه لا يريد أن يتذكر ثم يقول: «أنا في السجن منذ أربع سنوات، حكم عليّ بسبع سنوات في قضية حشيش، كنت أعمل مهندسا ميكانيكا بحريا، وأخطأت وكان لابد أن أدفع الثمن، وها أنا اليوم أقضي عقوبتي، ولكنني قررت أن اختار مجالا قريبا لنفسي في السجن حتى أستطيع أن أقضي السنوات الطويلة، ولذلك اخترت المكتبة، فأنا أحب القراءة، وأجد فيها نفسي، والإنسان لابد أن يدرك ان الندم لا ينفع بعد فوات الأوان».
بالصدفة
اخترق صف النزلاء الذين كانوا يتحدثون لنا، وتقدم ليقول: «اسمي (ع. ف)، من النزلاء القدامى، أناشد صاحب العظمة أن يصدر بشأننا مكرمة، كما أصدر لغيرنا، حكم عليّ بالسجن سبع سنوات في قضية سرقة، وأناشد الصحافة أن ترحمنا من المقالات التي تنشرها الخاصة بالجنائيين لأن معظم قضايانا سببها الصدفة، من السكر، أو من تعاطي المخدرات، بمعنى اننا لم نتعمدها، فنحن لسنا لصوصا بالمعنى المتعارف عليه، نحن بحاجة لفرصة تمنح لنا كما حصل عليها غيرنا».
آخر يقول: «أنا من ضحايا الضابط الذي قُتل في حادث مشهور في البحرين، هذا الضابط عذبني، وقد قتله آخر، وحكم عليّ عشر سنوات في قضية سرقة بالإكراه، لقد ساعد صاحب العظمة الكثير من شعب البحرين، ونتمنى أن يساعدنا، أمي فقيرة وهي بحاجة إليّ، إذا لم تساعدوني، ساعدوا أمي فهي بحاجة إلى المساعدة».
هدية للشيطان
يروي حكايته قائلا: «جئت إلى البحرين من أجل الرزق الحلال، عملت في أحد المحلات التجارية المعروفة، كنت مخلصا لصاحب المحل، وكانت أمانتي سببا في اكتساب ثقة صاحب المحل فأعطاني كل الثقة، كنت دائما أتحاشى الخطأ خوفا من الله عز وجل... وفجأة، ومن دون مقدمات، وجدت نفسي في أحضان الرذيلة بكل أنواعها، وأخذت أتردد على الملاهي الليلية وأنفق بلا حساب، كما لو كنت في سباق مع الشيطان، ووجدت نفسي يوما مكبلا بالحديد، وفوجئت عندما اكتشفت انني أنفقت من مال صاحب المحل 75 ألف دينار، وتعجبت كيف منحت هذا المبلغ الهائل بكل سهولة هدية للشيطان؟ وها أنا اليوم أسدد للمجتمع ثمن خيانة الأمانة».
حكايات النزلاء تبدو قصصا طبيعية، نصادفها ونسمع عنها كثيرا، وكثيرون يستخفّون بالخطأ وهم غارقون فيه، ومنغمسون في ممارسته، ولكنها لحظة واحدة تفرّق ما بين هذا الانغماس ومواجهة الواقع والقانون... ربما يطول على البعض وقت هذه المواجهة فيعتقد أنه سيكون في مأمن من العقاب، والبعض الآخر ربما يقع منذ أول «تجربة» فيتعجب من الذين قضوا سنوات وهم في مخالفة القانون ولا يقعون، ولكنها الأقدار التي إن أسعفت المخطئ مرة لكي يتوب إلى رشده، لن تسعفه كل مرة
العدد 37 - السبت 12 أكتوبر 2002م الموافق 05 شعبان 1423هـ