في الكثير من حكايات «ألف ليلة وليلة»، حين يجري الحديث على ذلك السلطان الذي اعتاد أن يتنكر ليلا مصطحبا واحدا من معاونيه، هو في معظم الأحيان وزيره الأول، وذلك بقصد «تفقد أحوال الرعية» وربما أيضا بقصد القيام ببعض المغامرات الخاصة والخاطفة، سرعان ما تعلن الحكاية أن السلطان المذكور هو هارون الرشيد. غير أن تدقيقا في الزمن الحقيقي الذي يفترض أن الرواية تدور فيه، وفي شخصية السلطان والأحوال في زمنه، سيكفي ليفيدنا بأن المقصود كان سلطانا آخر غير هارون الرشيد، وأن الرشيد لم يكن في الأمر كله سوى كناية ورمز. فمن كان المقصود؟ ومن هو السلطان الذي كان يمكن أن يكون هو صاحب تلك المغامرات؟
إن باحثين كثرا انكبوا على هذا الأمر ودرسوه. وكان من بينهم من قرر، قاطعا، أن المقصود كان الظاهر بيبرس، أحد كبار السلاطين المماليك والذي تشير الدراسات التاريخية الحديثة، إضافة إلى أجواء ألف ليلة وليلة على رغم خصوصية سيرة «الظاهر بيبرس» نفسها، فإنه كان أول سلطان في المنطقة نظم أجهزة المخابرات... بل كان وحده، وحسب الكثير من الأساطير، جهاز مخابرات كامل وفاعل أيضا. ذلك أنه لم يكن مجرد جامع للأخبار، بل كان أيضا منفذا للعمليات، وأحيانا بيديه. أو هذا على الأقل ما أكدته قبل زمن دراسة فرنسية كتبتها باحثة معروفة في تاريخ منطقة الشرق الأدنى هي جاكلين سوبليه، التي اهتمت لسنوات خلفت بتاريخ الحقبة المملوكية، مستندة خصوصا إلى كتابات المقريزي، لتطلع ـ بين ما طلعت به ـ بصورة للظاهر بيبرس، قد تبدو لنا هنا محملة بالمفاجآت. صورة تضعه في مكان الريادة في عالم الاستخبارات.
فما هي هذه الصورة التي «ترسمها» جاكلين سوبليه بقلمها، وعززتها رسمة فعلية نشرت يومها في صحيفة «لوموند» الفرنسية التي نشرت لسوبليه نصا عن بيبرس مليئا بالافتتان؟
صورة شديدة الغموض لرجل شديد الذكاء. وبالتحديد لرجل كان مصيره أن يقع فيما يشبه الحفرة التي كان يحفرها للآخرين... إذا شئنا أن نختصر.
مؤامرة عليا
تقول جاكلين سوبليه في المقام الأول إنه لا أحد، في مصر وفي سورية ـ البلدين المعنيين في ذلك الحين بحكم المماليك وبحكم بيبرس ـ كان يعرف حقا ما الذي كان السلطان يفعله في هذه اللحظة أو تلك. ولم يكن أحدا، ليدري، في لحظة ما، ما إذا كان بيبرس موجودا في سورية، في مصر أو في الحجاز. بل بالكاد كان البعض يجرؤ على طرح السؤال. ثم على من يتعين طرحه؟ من كان في وسعه أن يجيب؟ إن مزيجا من الاحترام والخوف، حسب ما يقول المقريزي، كان يردع أيا كان عن محاولة حشر أنفه في مثل هذه الأمور التي هي من شئون الدولة العليا.
كان ذلك خلال ازدهار الدولة المملوكية في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). وكانت هذه الدولة في ذلك الحين تضم مصر وشرقي ليبيا والشرق الأوسط حتى نهر الفرات. كما كانت تسيطر على النوبة، وعلى مملكة مقورية التي كانت تضم السودان وشمالي أثيوبيا، ناهيك بسيطرتها على الحجاز والديار المقدسة.
لكن تلك الدولة كانت تعيش في ظل خطر دائم. ففي الداخل كان هناك الفرنجة الذين جاءوا في ظل الحملات الصليبية وتمركزوا في قلاع وحصون في سورية وفلسطين. وعند الحدود، فيما وراء الفرات، كان هناك المغول الذين يقودهم خلفاء جنكيز خان ويمثلون خطرا شديدا. كانوا قد توغلوا مرات ومرات إلى داخل العراق وسورية مدمرين ناهبين. أما البلد الذي كان في ذلك الحين يحمل شعاع أمل للعرب والمسلمين أجمعين فكان مصر التي «لم تدنسها أقدام المغول».
وفي مصر كان بيبرس، العبد السابق الذي جيء به من ضفاف البحر الأسود بعد أن اشتراه أمير من أمراء السلالة الأيوبية، قد تحول من عبد إلى سلطان. كان واحدا من أولئك الجنود الأشداء الذين عرفوا، إذ يدنون من السلاطين، الانقلاب على هؤلاء والسيطرة على السلطة. وغالبا بفضل الاغتيالات، ولقد تميز بيبرس، قبل أن يصبح سلطانا، وحين كان على رأس قوات سلفه السلطان قطز، في معركة عين جالوت. وكانت المعركة التي شكلت أول هزيمة للمغول في المنطقة. كما تميزت بأنها أطلقت بيبرس. إذ أنه بعد الانتصار فيها، وجد أن من حقه الآن أن يتجول من قائد إلى سلطان. وهكذا رتب عملية اغتيال قطز، تلك العملية التي من الصعب التصور أنها كانت «عمليته» الأولى.
القبلة القاتلة
لقد تولى بيبرس بنفسه ترتيب العملية، أو بالأحرى كان هو من أعطى إشارة الانطلاق فيها. والحكاية، كما ترويها الباحثة الفرنسية نقلا عن المقريزي، هي أن بيبرس كان طلب من سلطانه قطز أن يهبه امرأة أسيرة. وحين وافق قطز على ذلك، في مجلس عام، انحنى بيبرس على يده لكي يقبلها شاكرا. وكانت تلك هي الإشارة المتفق عليها بين بيبرس ورجاله. إذ على الفور هجمت جماعة من المماليك على السلطان تضربه بالسيوف والرماح وتسحقه تحت حوافر الجياد، حتى مات. وهنا وقف بيبرس وطالب بأن يكون هو خليفة قطز. وبالطبع كان له ما أراد وأُعلن سلطانا ليحمل اسم «الملك الظاهر» لكنه احتفظ باسم المملوكي الذي راح يوقع به الأوراق الرسمية.
إذا، صار بيبرس سلطانا وصار محاطا بحرسه الخاص المؤلف من مماليك آخرين. وبات يعلم علم اليقين أنه سيكون من الآن فصاعدا مجبرا على اليقظة لكي يُفشل المؤامرات المتتالية لكي يتمكن من المحافظة على سلطانه.
وهكذا ولد فيه ومن حوله أهم جهاز استخبارات في تلك الأزمان المبكرة.
المهم أنه، في الفترة التي استولى فيها بيبرس وصحبه على السلطة، كانوا قد عادوا لتوهم من حملة عسكرية مظفرة، وأقاموا معسكرهم على الأراضي المصرية غير بعيد عن الرحلة. ثم بعد مقتل قطز، جلس بيبرس على عرش أقيم تحت خيمة وجعل أصحابه يقسمون له يمين الولاء. ثم أقام في قلعة الظاهرة التي كانت مقر إقامة السلاطين المماليك. وأهل القاهرة، ما إن علموا أنه قد صار لهم سلطان جديد، وأن هذا الأخير قد أعلن إلغاء بعض الضرائب، حتى راحوا يضاعفون كثافة الزينة التي كانوا في الأصل قد أقاموها احتفالا بعودة جيش سلطانهم السابق من معركته المظفرة. غير أن بيبرس ظل قابعا في قلعته من دون أن يظهر علنا. وذلك لأنه كان يرغب، أولا، في توطيد سلطته وتنظيم سياساته، والتعرف بشكل أفضل على أولئك الأشخاص الذين سيحكم بواسطتهم. وهكذا ظل في القلعة شهرين كاملين، ظهر بعدها أخيرا أمام شعب القاهرة الذي أقام ـ للمناسبة ـ عيدا جديدا. وارتدى السلطان لمناسبة ظهوره ثيابا سوداء، وامتطى صهوة حصان، وأقيمت له خيمة صفراء وذهبية.
نشاطات خفية
اعتبارا من اليوم الذي جرى فيه ذلك الاحتفال الرسمي، صار بيبرس غالبا ما يشاهد وهو يغادر مقره في القلعة منصرفا إلى بعض ملذاته المفضلة كرياضة كرة المضرب ولعبة السهم والقوس. وفي مرات كثيرة كان يمتطي صهوة حصانه ليخوض غمار حملات عسكرية عبر مصر وفي سورية. وهو واصل مطاردته للأعداء حتى حدود تركيا، وفي قلب الأناضول. وهو في بعض الأحيان كان يصحب أحصنة البريد الذي نظمه فتوصله إلى دمشق في أربعة أيام. وكذلك كان يحج إلى مكة المكرمة لكي يستكمل أركان الدين وفي طريقه يجدد سلطته على الديار المقدسة.
هذا من الناحية العلنية المعروفة والمدونة تاريخيا.
لكن هناك الناحية الأخرى: الخفية،. فبيبرس كان يخرج خفية بفضل بعض الحيل التي يبدو أنه برع فيها وكانت تسره وتبعث فيه الانشراح. فهو، من بعد ما ظهر أمام الشعب في جهاز سلطته، ها هو الآن يريد أن يلم بوضع رعيته عن كثب ومن الداخل. لذلك راح يتنكر ويترك القلعة ليلا مختلطا بالجماهير. فإذا ما حدث له أن شهد بأم عينه ضروب الظلم والفوضى، لم يكن ليتوانى عن معاقبة الظالمين أو مثيري الفوضى. ويروي لنا المقريزي أنه بأمر من السلطان «كانت تصادر الحانات التي تجري فيها، عادة، أفعال السوء، التي كانت تصادر أملاك العاهرات ويوضعن في السجن حتى ييسر الله لإحداهن سبيل الزواج فيطلق سراحها. أما الرجال الأشرار فإن الغالبية العظمى منهم كانت تنفى إلى خارج المدينة».
وبيبرس، لكي يتمكن من القيام بأكبر وأوسع عدد ممكن من الجولات، كان يصطحب معه عددا من أصحاب المماليك. وهكذا مثلا حدث له في العام 1268 أنْ كان في دمشق إذ التقى بسفير مغولي. وهناك أقام معسكره جنوب سورية وأعلن أنه شديد المرض، وعزل نفسه تحت خيمته. لكنه في الوقت نفسه تنكر وعاد إلى مصر بمعية عدد من معاونيه. وهناك أسند شئون الحكومة، للمرة الأولى، إلى ابنه. وهو في الحقيقة كان يريد أن يعرف شيئا عن أموال البلاد وتفكير العباد خفية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الغموض الذي كان يحيط نفسه به قد أشعره بعدم جدوى الحكم والسلطة. وهكذا ما إن وصل يومها إلى مركز استراحة للبريد، حتى وافته الأفكار الآتية: «في العادة يجتمع الناس كلهم عند بابي. واليوم هاأنذا عند عتبة هذا البيت وما من أحد متنبه إلى وجودي أو يلتفت إليّ. تلكم هي، والله، شجون هذا العالم».
يومها حين وصل إلى القلعة، بقي يومين من دون أن يكشف حقيقة شخصيته. لكن ابنه، المسمى الملك السعيد، سرعان ما تعرف عليه. ويروي لنا المقريزي ظروف لقاء التعرف بينهما فيقول ما معناه: إن «ابن السلطان أدركه احترام أبيه فخرَّ على ركبتيه لكي يقبّل الأرض في حضرته. ومضت هنا لحظة غامضة وعسيرة، إذ أن الأمراء الذين لم يتعرفوا على السلطان وفاجأهم ذلك التصرف من ولي العهد، أمسكوا بسيوفهم واقتربوا لكي يشاهدوا وجه سلطانهم عن كثب».
في القاهرة راح بيبرس يمارس هواياته الرياضية. وحضر حفلات إنزال المراكب في نهر النيل، هذا في الوقت نفسه الذي كان فيه أصحابه في معسكر سورية يعتقدونه مريضا داخل خيمته، وخصوصا أن أميرا متواطئا معه من خاصته أذاع كلاما يفيد أن السلطان شديد الإعياء لا يريد أن يرى أحدا. زاعما أنه هو ـ أي الأمير ـ الوحيد المسموح له بأن يوصل إليه الدواء.
الكل خُدع به
وسواء أكان الأمر انتهى بالتعرف على بيبرس، أم كان الأمراء انخدعوا بحيلته حقا وهنأوه صدقا بالشفاء حين عاد إلى الظهور، فإن الأمر الحقيقي هو أن الأمراء كانوا قد اعتادوا أن يغضوا النظر عن تنقلات السلطان السرية وجولاته ويصمتون من حولها متواطئين. بل إن واحدا من الأمراء قد قطع لسانه حين تجرأ ذات يوم وكتب إلى السلطان يقول: «إنني أرغب في مواكبتكم في رحلة الحج إلى الحجاز» ذلك أن الرسالة أتت في وقت كان فيه بيبرس احتفظ بخبر الرحلة سرا، زاعما أنه معتكف تحضيرا للمشاركة في دورة للعبة الشطرنج.
إذن هل كان من قبيل الصدفة البحتة أنْ اجتمع أمراء حلب في العام 1269 في موكب صاخب كبير في اللحظة التي وصل فيها بيبرس متنكرا إلى تلك المدينة؟
وهل حقا أن السلطان قد فاجأ جيشه في العام 1273 حين وصل فجأة متنكرا بزي رجل تركماني، وغايته أن يتفقد أحوال الجيش سرا؟
إن ثمة أسبابا كثيرة، كما تقول الباحثة الفرنسية، تدفعنا إلى الارتياب في هذا كله.
ذلك أن قراءة مدققة لكتابات المقريزي، كما تقول جاكلين سوبليه، ستفيدنا بأن السلطان إنما كان يرغب في إعطاء الانطباع عنه بأنه موجود في كل مكان. وهو أمر توافق عليه معاصرو بيبرس ممن اعترفوا له بموهبته الخارقة في مجال التنكر، إلى درجة تتغير معها شخصيته تغيرا تاما: وعلى هذا النحو كان في إمكانه أن يحضر هنا وهناك وهنالك، حسب رأي معاصريه. فهو ما إن يتجه إلى دمشق، على سبيل المثال، حتى يتملك الخوف أفئدة المغول الذين يكونون قد توغلوا مقتربين من حلب. ويقول المقريزي إن بيبرس علم مرة أن المغول قد سارعوا إلى الهرب ما إن سمعوا صدى خطواته وذلك «لأن العناية الإلهية كانت توحي للناس بأن حضور السلطان في مكان ما، كان يعني حضور جيوش جرارة. لذلك كان حضور بيبرس يكفي لقهر أعدائه. وكان اسمه يكفي لطرد وإخافة كل الكافرين». بل إن القريزي يقول إن حضور بيبرس كان مؤثرا حتى خلال اللعب وذلك لأن السلطان «كان كلّي الحضور في أعين الجميع الذين يرتابون في نهاية الأمر فيما إذا كانوا رأوه أم لا...».
... وهكذا قتل
إن هذا كله قد ساهم على مدى الأزمان في جعل شخصية بيبرس، شخصية البطل الشعبي. وهي الشخصية التي نراها ماثلة في «رواية بيبرس» تلك الملحمة التي تروي لنا مآثر السلطان، ممزوجة بموضوعات الحكايات الشعبية العربية والموروث الآسيوي. أما ما لا ترويه الملحمة فهو ابتكار بيبرس لفنون الاستخبارات وتدخله الشخصي في تلك الفنون كما أسلفنا.
غير أن بيبرس الذي كان «يعرف» كل شيء ويعيش شتى الشخصيات، عجز عن تصور كيف ستكون نهايته. فما هي حكاية هذه النهاية؟ وكيف عجز بيبرس عن توقعها؟
تقول الحكاية إنه حدث في العام الميلادي 1277 (الهجري 676) أنْ تنبأ منجم أمام بيبرس بأن هناك ملكا كبيرا سيموت عما قريب مسموما. وما إن سمع بيبرس تلك النبوءة حتى شاء أن يعاند القدر. فهو، لما كان اسمه المعروف به «الملك الظاهر»، لجأ إلى حيلة رغب من خلالها في إبعاد شبح الموت عنه، أقام مأدبة دعى إليها الأمير الذي كان يسمى بـ «الملك الظاهر»، وكان هذا اللقب يزعج بيبرس، لذلك أراد التخلص منه ومن قهره «باكرا»، قبل أن ينتفض هذا «الظاهر» ضده. وخلال المأدبة صب بيبرس بيده شيئا من السم القاتل في الكأس التي كان الظاهر يتناول فيها شرابه، أي شراب القميز الذي كان بيبرس نفسه مولعا به. ويكمل المقريزي الحكاية: «ذات لحظة شعر الظاهر بأثر السم فنهض وخرج. فما كان من النادل، على سبيل الخطأ، إلا أن اعتقد أن كأس الظاهر هي نفسها كأس بيبرس فصب له فيها الشراب وناوله إياه. وما إن شرب بيبرس ما في الكأس حتى شعر بالتهاب يحرق أمعاءه. وعلى الأثر ظل طريح الفراش أياما عدة من دون أن يتمكن الأطباء من معرفة سبب مرضه. وفي النهاية تغلب السم القاتل على إرادة الملك، متجاوزا كل العقبات وتمكن من القضاء عليه»
العدد 120 - الجمعة 03 يناير 2003م الموافق 29 شوال 1423هـ