تحلم المرأة بواقع أجمل وحياة أفضل لها ولعائلتها، الأمر الذي يجعل من العمل خارج المنزل حتمية من حتميات العصر الجديد، وضرورة للحفاظ على مستوى معيشي جيد. لذلك تتجه النساء اليوم إلى العمل على رغم كل ما يكتنفه من متاعب وضغوط نفسية. إلا أن للعمل نواحي إيجابية كما له نواح سلبية أيضا تظهر انعكاساتها على التربية والحياة الاجتماعية والنفسية والصحية أيضا.
هناك دراسات اجتماعية في الجامعة الأردنية قارنت بين طرق التربية المستخدمة لدى الأمهات العاملات وغير العاملات تَبيّن من خلالها أن للأمهات العاملات طرقا أفضل للتربية إذ أن غالبية الأمهات غير العاملات يعشن في أوساط تغلب عليها الطرق البدائية في التربية بينما الوقت الذي تقضيه الأم العاملة مع أطفالها يكون مفعما بالحنان والمعاملة الحسنة لأنها عادة تستفيد من جو ومحيط عملها لتحسين وعيها وإدراكها والذي ينعكس بدوره على طبيعة تعاملها مع أطفالها بطريقة منطقية ومنظمة ومتطورة.
وأكدت الدراسات الحديثة التي أجريت في المعهد الأميركي للتوتر بنيويورك أن مستوى التوتر الذي تعاني منه المرأة العاملة في عصرنا هذا يكون في معظم أوقات حياتها مرتفعا، وان كانت هذه الحالة ليست مقصورة على المرأة فقط ولكنها تشمل كل فئات المجتمع لأن الحياة أصبحت صعبة، وظروف العمل أصبحت لا تسمح بالبقاء والارتقاء في الدرجات سوى للأصلح.
هذا بالإضافة إلى أن الحالة الاقتصادية أصبحت تدفع الجميع الى بذل كل ما في وسعهن من جهد للمحافظة على الدخل الشهري من دون أي نقص، لذلك أصبحت المرأة تبذل مجهودا أكبر في عملها ويكون ذلك على حساب صحتها وأعصابها خصوصا وأن عملها لا يتوقف بعودتها الى البيت، ولكنها تضطر الى مباشرة مهماتها كربة بيت وأم أيضا، فتكون النتيجة الطبيعية لهذه الدوامة التي لا تنتهي هي الإحساس بالتعب والمرض في نهاية الأسبوع، حتى أن المتخصصين في الخارج أطلقوا على هذه الحالة التي أصبحت تشكل شبه ظاهرة «اسم مرض الراحة» لأنها تظهر يوم الإجازة وتكون أعراضها مشابهة لأعراض الأنفلونزا مثل الصداع واحتقان الحلق وآلام في العضلات، وتظهر هذه الأعراض خصوصا عند المرأة التي تنشد الكمال في كل شيء او تحقيق إنجازات يشيد بها الجميع، والتي تشعر بالذنب لأنها تفكر في الراحة في حين أن عملها يحتاج الى وقتها كله، وتتفاقم المشكلة بالوصول الى يوم الإجازة فتقضيه في رعاية شئون بيتها وأولادها ما يجعلها تعمل طوال الساعات التي تقضيها في البيت مثلما تفعل في العمل. وعلقت السيدة أم إبراهيم على هذا الموضوع بقولها: «فعلا لا نشعر بالدوامة التي تطحننا برحاها طوال اليوم إلا عند النوم أو أيام العطلة الأسبوعية. وأغلب الأمهات اللواتي يعملن يحاولن قدر استطاعتهن ألا يؤثر العمل على المنزل والأولاد، ولكن هذا يحتاج إلى طاقة كبيرة من المرأة للتحمل كل هذه الأعباء مرة واحدة. وبالنسبة لي فانا أكثر هدوءا وراحة أيام الاجازات، بل وحتى أصبح أكثر قدرة على التسامح والتقبل والتعامل مع أبنائي بشكل أقل حدة وعصبية، أما أيام الدوام فلا يمكن لأحد أن يكلمني فكلل العفاريت تنطط في وجهي تلك الساعة».
نظام النوبات:
مأساة من نوع خاص
وإن كانت النساء يعانين من الضغط والتوتر نتيجة لعملهن طوال النهار، وصعوبة في إيجاد الوقت الكافي لقضائه مع الأولاد، فإن للنساء اللواتي يعملن في نظام النوبات ألم آخر ومعاناة أخرى.وتقول السيدة منى رمضان (مساعدة ممرضة سابقة/سكرتيرة حاليا): «لعل أكثر ما يمكن أن يشكل إزعاجا للمرأة العاملة كونها غير قادرة على وضع جدول للأعمال المنزلية على خلاف الموظفات اللواتي يعملن بدوام ثابت. فمثلا لا يمكنني أن أخطط لأعمالي المنزلية لأسبوع، فوقت الغسيل غير ثابت، وكذلك الطبخ والتنظيف والترتيب، وحتى الإجازة الأسبوعية لا يمكنني أن أقضيها في برنامج ترفيهي أو سفر لأنه وفي أي لحظة يمكن أن يرد اتصال من العمل يغير النوبة لليوم نفسه أو يؤجلها ليوم غد. الجدول الزمني للعمل غير ثابت خصوصا في عمل الممرضات. وأحمد الله أنني غيرت الوظيفة إلى سكرتيرة انهي دوامي عند الثانية وأستطيع أن أشعر باستقرار أكبر وتنظيم أفضل في حياتي الأسرية». وأضافت الممرضة خاتون سيد سعيد: «تسهم المسئوليات الأسرية الملقاة على عاتق المرأة العاملة في تصاعد التوتر النفسي، وإذا ما تمكنت المرأة من تجاوز هذه المعوقات ووصلت إلى منصب إداري أو قيادي فإنها تظل بحاجة إلى بذل جهد كبير لإثبات جدارتها لمن حولها، فهي مطالبة على الدوام بإثبات كفاءتها وتجنب أيّ تقصير أو خلل في عملها، كي لا يعزى أي خطأ إلى جنسها ولهذا فهي تقع فريسة العصبية والضغط النفسي إذ يكون النجاح في العمل عبئا عليها ويحرمها من إبراز شخصيتها الحقيقية. وعلقت أم عبدالله بهذا الخصوص: «أعمل مشرفة لسكن الطالبات، وتلك مسئولية كبيرة تتطلب حضورا دائما، ونظام النوبات للمشرفات يؤثر بشكل أو بآخر على حياتهن الأسرية. صحيح أن العمل ممتع ويلف أجواءه قدر كبير من الألفة والمحبة، إلا أن العمل يقلل فرص البقاء مع الأطفال، وخصوصا من هم دون سن المدرسة. والجدات والحموات يساهمن مشكورات بتخفيف وطأة الأمر على الأمهات العاملات، لكن بالنسبة للأطفال من هم في سن المدرسة، فإنهم يحتاجون لرعاية ومتابعة على صعيد دراستهم للتأكد من تحصيلهم وعدم تأخرهم، وزوجي يقوم بالمهمة في أحايين كثيرة ولكن يبقى دور الأم محوريا ومهما بسبب قربها النفسي من الأطفال أكثر من الأب».
وجد باحثون في جامعة «ديوك» شمالي كارولاينا بالولايات المتحدة الأميركية أن السيدات العاملات اللواتي لديهن أطفال ينتجن معدلات أعلى من هرمونات التوتر من نظيراتهن اللواتي لا أطفال لديهن لكن الشيء نفسه لا ينطبق على الآباء.
ووجد الأطباء أن معدلات هرمون التوتر عند الأمهات العاملات ترتفع كل صباح وتبقى مرتفعة حتى وقت النوم ما يزيد مخاطر إصابتهن بالمتاعب الصحية ومنها ضغط الدم والسكر والاكتئاب وبعض الأمراض النفسية. أما عدد الأطفال في المنزل فلم يكن له أي تأثير ومعدلات التوتر بقيت مرتفعة وبالارتفاع نفسه مع وجود طفل واحد أو عدد من الأطفال على حد قول الأبحاث التي نشرت في مجلة الطب السيكوسوماتي الأميركية
العدد 126 - الخميس 09 يناير 2003م الموافق 06 ذي القعدة 1423هـ