إن كنت ترغب في معرفة سبب ضآلة المعارضة الليبرالية في أميركا للحرب على العراق ـ ولماذا يقرها البعض في الجناح اليساري في أميركا ـ فما عليك إلا النظر إلى سقوط سلوبودان ميلوسيفيتش في العام 2000. هناك، وبعد كل سني الحرب الباردة وإذلال البوسنة، والعار في رواندا، استطاعت «القوة» ليس فقط أن توقف العدوان الوحشي في كوسوفو، ولكن أيضا أدت إلى سقوط الديكتاتور الصربي وتقديمه إلى المحاكمة.
إن علاقة صربيا بالعراق قريبة أكثر مما يجب أن يقر به كثير من المعارضين أو المؤيدين للحرب ضد صدام حسين، كما يوضح ذلك مسلسل سقوط ميلوسيفيتش الذي يذاع الآن على قناة «BBC2»، وهو مسلسل لا يستطيع صحافي أمامه إلا أن يجلس ويحملق، فخلال عامين قرر المخرجون الحصول على جميع المشاركين الأساسيين في الدراما، وكثير من الشخصيات الثانوية للمساهمة.ويتحدث الجميع هنا ـ كلينتون، شيراك، بلير، وقادة العسكر والشرطة لدى ميلوسيفيتش، وزوجته ـ في التسجيل عما حدث، متى ولماذا؟
وتفكك التحالف بعد الشهور الأولى من قصف صربيا، وتدخل الروس لإقناع ميلوسيفيتش بالتخلي عن كوسوفو، وقرار المعارضة بإلغاء نتيجة الانتخابات بعد الحرب، وتوقفت الحوادث بصورة متوازنة.
وكاد الحلفاء أن يجبروا بسهولة على اللجوء إلى استخدام قوات برية إذا لم يتقدم الروس. وكادت المعارضة أن تفشل بسهولة في إجبار ميلوسيفيتش على الاستقالة إذ لم تلجأ إلى الإضراب بين عمال المناجم.
والاستنتاج الرئيسي الآخر هو القوة العظمى للولايات المتحدة عندما (توضع) في مشكلة ما. ودأبت إدارة بوش على انتقاد سابقاتها بالافتقار إلى الإرادة والحزم. ولكن في هذه الرواية كان الرئيس كلينتون ومستشاروه عازمين على مواجهة صربيا، كاستعدادهم للعمل العسكري خارج إطار الأمم المتحدة، تماما مثل الرغبة في استخدام القوة لدى دونالد رامسفيلد وديك تشيني اليوم.
وبعد إجبار ميلوسيفيتش على التخلي عن كوسوفو، أوضحت وزيرة الخارجية الأميركية وقتها مادلين أولبرايت بجلاء أنها ترغب في تغيير النظام وبسرعة. واتحد رؤساء المعارضة الصربية جميعا، ومُنحوا مبلغ 30 مليون دولار أميركي لتمويل حملتهم، إذ ضغط باحثو السوق لدى كلينتون، وهزم ميلوسيفيتش في الانتخابات.
ولا ينكر أحد شاهد هذا المسلسل أن الضغوط الخارجية تستطيع أن تؤثر على النتيجة حتى في دول قومية مثل صربيا، أو حتى أكبر ديكتاتور متحصن يصبح عرضة لاختراق تلك الضغوط.
إن صعوبة الاستنتاج من التجربة الكوسوفية إلى الوضع العراقي اليوم تتمثل فقط في تحديد مدى التوازن في التدخل الخارجي وبُنى القوى الداخلية. مبدئيا على الأقل، وحَّد قصف صربيا الشعب خلف ميلوسيفيتش، وأجبر زعماء المعارضة من ذوي الميول نحو الغرب على الغوص لحماية أنفسهم، ومع مرور الزمن، ربما أضعف قصف الجسور، ومحطات الوقود وإمدادات المياه إرادة صربيا. ولكن كان الأمر الحاسم الأكبر في الرأي المحلي هو أن الشعب الصربي لا يشاطر ببساطة تمسك ميلوسيفيتش بكوسوفو.
وعندما تأزم الوضع أكثر لم يكن الشعب مستعدا ليرى أبناءه يموتون من أجل الحاكم.
في ذلك الشعور، كان كلينتون، بلير وشيراك محقين جميعهم بطريقتهم التي يرونها أثناء المناقشات التي تطورت في الفشل الأولي للقصف. وكان بلير صائبا حين قال إن الغرب يجب أن يجعل تهديداته حقيقية وملموسة. ولكن كان احتجاج كلينتون مبررا بأن اللجوء المباشر إلى القوات البرية سيشق صف التحالف ويسبب مشكلات يصعب تذليلها في الكونغرس، بينما أثبت جاك شيراك صحة تقييمه بأنه لا يمكن التوصل إلى اتفاق من دون الروس.
عندما سقط الزعيم الصربي، أصبحت قراءة الدروس صعبة. فمن جانب سقط ميلوسيفيتش لأنه خسر رهانه في كوسوفو، وبذلك يكون قد أذل مؤيديه. ولكن من ناحية أخرى، خسر ميلوسيفيتش لسبب أكثر دناءة، إذ أن الفساد والاستئساد اللذين أبقاهما في السلطة حرّضا ضده أخيرا غالبية الشعب وبعض مؤيديه الرئيسيين. وعندما مالت مواكب المعارضة إلى الالتقاء في بلغراد في المكاشفة النهائية، فإن الذي أهلك ميلوسيفيتش ليس حراسه الذين يدعمونه ولكن أولئك الذين لا يؤيدونه.
إذا كان ثمة درس واضح للعراق فإنه: من أجل النجاح، فإنه على العالم الخارجي أن يوحد كلمته. فمجرد أن اتضح أن الناتو كان منسجما بشأن نظرية «مهما كلف الأمر»، شعر الرئيس يلتسين أن عليه التدخل ليوقف الحرب (مع خدعة بسيطة لمحاولة الحصول على منطقة نفوذ في كوسوفو). ومجرد أن وضع الروس «الطوق» على ميلوسيفيتش، كان عليه أن يستسلم.
ربما يكون الدعم الذي يتلقاه صدام حسين أجوف تماما كما هو الدعم لميلوسيفيتش، على رغم أن المعارضة لم تكن منتظمة أو مهيئة لتسلم السلطة. يمكنك ملاحظة الوضع عندما يتصاعد الضغط على صدام، فإن الوفود العربية تتردد عليه بالطريقة ذاتها التي ذهب بها فيكتور شيرنوميردن إلى بلغراد نيابة عن الرئيس يلتسين. ولكن يكون الضغط فعالا فقط إذا لم يكن هناك أثر ضئيل من الانشقاق، أو حتى زلة قدم في مجلس الأمن.
خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط
العدد 137 - الإثنين 20 يناير 2003م الموافق 17 ذي القعدة 1423هـ