العدد 148 - الجمعة 31 يناير 2003م الموافق 28 ذي القعدة 1423هـ

سبع ثورات ثقافية كبرى شهدها التاريخ الإسلامي

التجديد سنة من سنن الحياة وهو حركة حث عليها الاسلام وتحولت زمنيا الى قاعدة فقهية اجمع العلماء على ضرورتها لأنها تعطي زخما للقديم وتدفعه مجددا الى الأمام لاستيعاب تنوع الأمكنة واختلاف الأزمنة.

في عالمنا اليوم الاسلام بحاجة الى حركة تجديد تعيد إحياء السنن وتحديدا تلك التي دعت الى طلب العلم وتحديث الفروع حتى تطلق الحياة في اصول لا تغيب عنها شمس الحرية والحق والعدالة.

الاسلام اليوم بحاجة الى ثورة ثقافية كبرى تعيد انتاج التاريخ وتضيف اليه ما استجد على الانسان من متطلبات تمس معاشه وحياته وحاضره ومستقبله... وهذا لا يتوافر له النجاح من دون قراءة الماضي والاطلاع على مسلسل الثورات الثقافية التي هزت الانسان المسلم وأعطته ثقة بدينه وعلمه وحياته.

أول ثورة ثقافية إسلامية حدثت كانت في عهد الخليفة الأول (أبوبكر الصديق/ توفي في العام 13 هجرية) حين دعا الصحابة الى جمع القرآن في كتاب. فالقرآن آنذاك كان متفرقا وكل صحابي يحتفظ أو يحفظ جزءا منه فجاء قرار الجمع ليحمي الكتاب من التوزع والتلاشي. فكان الجمع ثورة ثقافية كبرى اطلقت المزيد من النور في حركة التنوير الاسلامية.

ثاني ثورة ثقافية كانت في عهد الخليفة الثالث (عثمان بن عفان/ توفي في العام 35 هجرية) حين دعا الى توحيد القراءات وضبطها ضمن اطار مشترك حتى لا تتفرق القراءات وتتوزع بحسب اللهجات المحلية وتدخل عليها «العجمة» فيضيع الأصيل الثابت باللغط واللحن وغير ذلك من ألسنة. وشكل قرار توحيد القراءات نقطة تحول ثقافية إذ نجح في جمع المتفرق بعد أن كاد التفرق يشتت الجمع.

ثالث ثورة ثقافية كبرى حصلت حين عقد الخليفة عمر بن عبدالعزيز (توفي سنة 101 هجرية) العزم على تدوين الحديث فشكل لجنة لجمع السنة وتدوينها بعد أن كادت تضيع من كثرة «العنعنة». وأحدث القرار ثورة في علم الحديث فتأسست المناهج الفقهية التي استندت الى السنة لتوضيح «المجمل» في القرآن وتحديد اسباب النزول وتفسير الغامض من الآيات.

بعد مرور القرن الأول على البعثة النبوية كان الاسلام شق طريقه شرقا وغربا وأسس دولته الكبرى التي كانت محط انظار العالم القديم. وفي تلك الفترة تأسست المدارس الفقهية الثلاث على يد الأئمة الثلاثة الكبار (جعفر الصادق، أبوحنيفة، مالك بن أنس) الأول أخذ بالاجتهاد، والثاني بالرأي والقياس والثالث بالحديث.

بعد انهيار الدولة الأموية، التي تبنت في عهدها الثاني مذهب الامام الأوزاعي (توفي 157 هـ)، تلاشى مع تفككها مذهب الأوزاعي لتنهض مكانه ثلاثة مذاهب في مطلع العصر الأول من الدولة العباسية وهي: الامامية والحنفية والمالكية. وفي عهد مؤسس الدولة العباسية (أبوجعفر المنصور/توفي في العام 158 هجرية) شهد العالم الاسلامي الثورة الثقافية الرابعة حين أمر المنصور بتدوين سيرة الرسول (ص). تدوين السيرة أحدث هزة ثقافية في المقلب الثاني من القرن الثاني للهجرة لأنه ربط الأجيال المسلمة بسيرة حدث كان هو أساس التحولات التي عرفها العالم القديم على مختلف المستويات.

ومنذ ذاك القرار التاريخي اكتملت حلقات العلوم الاسلامية الأولى وترابطت بين جمع الكتاب وتوحيد القراءات وتدوين الحديث وأخيرا تدوين السيرة، وباتت تلك العلوم اساس مختلف فروع الفقه ومراجع مشتركة لتنوع التفاسير والشروح.

أَثْرَتْ تلك الفترة المزدهرة المدارس الفقهية وأعطتها المزيد من القوة والمعرفة فجاء الامام الشافعي (توفي في العام 204 هجرية) وجمع بين منهج الاحناف (الرأي) ومنهج المالكية (الحديث) وتحديدا حين انتقل من بغداد إلى الفسطاط (مصر) للتوفيق بين الخلافات التي نشبت بين انصار الحنفية وأنصار المالكية.

اسهمت خطوة الامام الشافعي في نقل المعرفة الفقهية إلى مستوى أعلى حين شجعت العلماء على تبني منهج علم الكلام الذي اخذ به شيوخ المعتزلة.

وبدخول علم الكلام المدارس الفقهية الكلاسيكية بدأ المتكلمة المسلمون يردون على فلسفة المعتزلة بفلسفة اسلامية نقدية أسست لاحقا ما عرف بفلسفة الفقه ردا على ما عرف عن شيوخ المعتزلة بتأسيس فقه الفلسفة. ونجح المتكلمة في تطوير مناهج فلسفة الفقه لتستقل بنفسها وتتحول إلى علم برأسه. وكانت الثورة الثقافية الكبرى الخامسة على يد الامام الاشعري (ابوالحسن).

كان الأشعري (توفي سنة 324 هجرية) في مطلع شبابه على مذهب المعتزلة واختلف مع شيوخه وانشق عنهم وأسس مدرسة كلامية ردت على مقالات أهل الاعتزال. جمع الأشعري بين الرأي والحديث والكلام وأسس حركة فكرية كبرى في المذهب الشافعي تحولت إلى منهج فلسفي اخذ به الائمة على مختلف مذاهبهم في الجدل ضد التيارات الفلسفية المضادة للإسلام. وبعد رحيل الاشعري تطورت مدرسته وتحولت إلى طريقة في التفكير الفلسفي الخاص بالمسلمين. وبات الشوافع على طريقتين الاولى شافعية والثانية شافعية على الطريقة الاشعرية.

وشقت الأشعرية طريقها وتطورت مدرستها ضمن ضوابط المذاهب الاسلامية، وتحديدا «المذهب الشافعي»، وصولا إلى قمتها وأستاذها الامام الغزالي (ابوحامد). اخذ الغزالي علومه عن استاذه الجويني ومن كتبه اعاد تشكيل فلسفته التي احدثت الثورة الثقافية السادسة.

قاد الامام الغزالي (توفي سنة 505 هجرية) حركة نقدية ضد الفلسفة اليونانية وانتقد مراجعها وأبطالها وخاض ضدها معركة سجالية رفعت الجدل الاسلامي إلى مستوى متقدم من التفكير الفلسفي المستقل بروحه عن روحية الاغريق. النقد واعادة التأسيس فتحا الباب أمام طريقة متقدمة في التفكير الفقهي. وأسهم كتابه «احياء علوم الدين» في احداث ثورة ثقافية كبرى لعبت دورها لاحقا في اعادة انتاج مناهج فلسفية فقهية اسلامية اثمرت في تأسيس روح المقاومة لمواجهة حملات الفرنجة في بلاد الشام ومصر.

انتشرت كتب الاشعري والغزالي في بلاد المغرب والاندلس وأحدثت هناك ثورة فقهية كبرى تتوجت في ظهور المدرسة المقاصدية التي أسس قواعدها الفقيه الامام الشاطبي (ابواسحق).

كان الشاطبي (توفي سنة 790 هجرية) على المذهب المالكي واكتشف ان المالكية بدأت تعاني من الضعف الفقهي والضمور الفكري . ورأى أنه لابد من اعادة احياء جذورها من خلال عقد مصالحة بينها وبين مدرسة الرأي والكلام لتجديد روحها وفتح الابواب امام عودتها للتأثير على جيله.

أسست مدرسة الشاطبي الثورة الثقافية السابعة حين نجح في كتابه (الموافقات) في تأسيس منهج فقهي يعتمد على تحديد مقاصد الشريعة وجمع مختلف الآيات التي تصب في المعنى الواحد والهدف المشترك. لم يعتمد الشاطبي في كتابه شرح كل آية على حدة وتفسيرها بمعزل عن الآية التي سبقتها أو التي جاءت بعدها بل لجأ إلى اختراع منهج توحيدي يربط الآيات ببعضها ويحشدها في سياق مشترك للوصول إلى المقاصد العامة للشريعة. فالمهم في مدرسته هو الهدف (المقصد) وتحديد المقاصد (الاهداف) يساعد على ربط الآيات في سلسلة من الاجوبة عن اسئلة يطرحها الحاضر وقضاياه الراهنة.

واهمية الفكر المقاصدي انه يعتمد المنهج المتحرك في التحليل والتركيب. ومادامت المقاصد ليست ثابتة في فروعها فإن حركة التفكير تتحرك دائما باتجاه اختراع الاجوبة لأسئلة الحاضر الدائم في اختلاف أمكنته وأزمنته. فالمقاصد في القرن الرابع عشر الميلادي (عصر الشاطبي) ليست بالضرورة هي نفسها مقاصد الامة وأهدافها في القرن العشرين. ومقاصدنا في مطلع القرن الماضي ليست بالضرورة متشابهة في مطلع القرن الجاري.

فالفكر المقاصدي يتميز بحيوية لأنه ليس ثابتا في اهدافه، فهو يتحرك منهجيا وفق التراتب النظري الذي تحدده الامة لنفسها (درء المخاطر وحماية المصالح) في ضوء المصالح المرسلة في المكان أو الزمان.

اثمرت المقاصدية حركة تنويرية اسلامية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من دون ان تنتج حركة تجديد ثقافية كبرى تطلق مدرسة تعيد احياء علوم الدين كما فعل الشاطبي والغزالي والاشعري في عهودهم الماضية.

قاد الحركة التنويرية بالتتابع الزمني الخماسي: جمال الدين الافغاني، ومحمد عبدو، ورشيد رضا، وشكيب ارسلان، وحسن البنا. وخاص كل طرف معاركه بشكل مشترك أو مستقل عن الآخر. وكانت المشكلة ان كل طرف نظر إلى الامور والمخاطر التي تهدد الامة بطريقة مختلفة، واتبع الرجال الخمسة اساليب متعددة في قراءة الوسائل الواجب اتباعها لتجديد النهضة واعادة احياء دور الامة لتلعب دورها التاريخي المتمير عن غيرها من الشعوب. إلا ان تلك الحركة التنويرية فشلت في احداث نهضة فكرية - سياسية على رغم كثرة الحديث عن قيام النهضة وفشلها. فالنهضة اصلا لم تقم حتى تفشل.

نحن الآن في منعطف تاريخي خطير في مطلع قرن جديد ولانزال نكرر مقولات الخماسي (الافغاني، عبده، رضا، ارسلان، والبنا) من دون ان نتجاوز اطرها النظرية والسياسية. وهذا بدوره ادى إلى تحجر الفكر السياسي الاسلامي وتحنطه في قوالب جاهزة فشلت في تخطي اقوال اسلافنا وعجزت عن انتاج منهجية فلسفية (فقهية) تعيد احياء علوم الدين في اطار معاصر يرد على التحديات التي اخذت تطول وجودنا ومصيرنا ومستقبلنا.

نحن الآن بحاجة إلى ثورة ثقافية اسلامية كبرى (وهي الثامنة في تاريخنا) تعيد تعريف الهوية الإسلامية بتأكيد الذات الانسانية ومقاصد الشريعة وأهداف الامة في عالمنا المعاصر.

الثورة الثقافية حركة تجديدية وهي ضرورة اسلامية وحاجة حضارية واذا لم نخض غمارها بشجاعة المؤمن بدينه وتاريخه فإن الامم لن تنتظرنا لوعي ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا... فهناك غيرنا من ينتظر دوره لأخذ المبادرة و«الامر بالمعروف والنهي عن المنكر»

العدد 148 - الجمعة 31 يناير 2003م الموافق 28 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً