غدت ثيمة الرحلة هي الثيمة الأساسية التي تشترك فيها الموجة الجديدة من الأفلام الإيرانية التي باتت تشد انتباه العالم في السنوات الأخيرة. ومن ثيمة الرحلة، باتت هذه الأفلام تشترك في سمات فنية أخرى مثل الاعتناء بالصورة على حساب الحوار الذي يتم تقليله إلى ابعد حد إضافة إلى الاعتماد على ممثلين غير محترفين إمعانا في إضفاء الطابع الواقعي على هذه الأفلام وكسر خاصية الإيهام في السرد السينمائي. إن هذه الخصائص، قلة الحوار والاعتناء بالصورة والاعتماد على ممثلين غير محترفين، جعلت معظم الأفلام الإيرانية المتميزة في السنوات الأخيرة مزيجا فريدا ما بين الطابع التسجيلي والدرامي وهو ما يمكن أن نلمسه بوضوح في فيلم «سفر قندهار» لمحسن مخملباف.
سفر قندهار الذي أنتج العام 2001، مبنيّ على ثيمة الرحلة أيضا، إذ تدور حوادثه حول فتاة أفغانية تعيش في كندا (تلعب الدور نيلوفر بزيرة) تحاول أن تصل إلى أختها التي بقيت في أفغانستان التي يحكمها الطالبان وإخراجها من هناك بعد أن تسلمت رسالة منها تفيض باليأس والقنوط والتهديد بالانتحار.
الفيلم بأكمله عبارة عن رحلة الأخت (نفس جل) داخل أفغانستان التي نتعرف عليها من خلال عيون ومشاهدات «نفس جل».
مصاعب الدخول إلى البلد أصلا، الأهوال والبؤس الذي يعيش فيه الأفغان بعد أكثر من 20 عاما من الحروب المتواصلة والتردي الهائل في حياتهم الذي جسده الحكم المتشدد والمتزمت لجماعة الطالبان. إن هذه المدلولات لا تأتي على لسان أبطال الفيلم أو في حواراتهم، بل من خلال ما تسجله الكاميرا وصدمة الاكتشاف لدى نفس جل وهي تقطع المسافات وتتحايل على الصعاب والوضع القاسي للوصول إلى أختها في مدينة «قندهار».
تتلاحق الصدمات منذ البداية عندما تتفق نفس جل أو رائحة الورد، مع لاجيء أفغاني في مخيم للاجئين بالقرب من الحدود الإيرانية - الأفغانية، على مرافقتها مع عائلته إلى داخل أفغانستان باعتبارها زوجته الثانية، لكن قطاع الطرق وسائق السيارة المتواطيء معهم يقضون على الأمل في الوصول عندما تتعرض العائلة للسلب تحت تهديد السلاح. تواصل نفس جل رحلتها مع صبي صغير تعهد بأن يوصلها إلى مبتغاها. لكن الرحلة تبقى رحلة اكتشاف للحقائق تصدم نفس جل وهو ما جسّده مشهد الصبي وهو يستخرج خاتما من جثة متحللة في التراب. أما لقاؤها مع طبيب القرية الأميركي المسلم الذي تطوع في صفوف الطالبان، فتمثل صدمة أخرى لواقع التزمت الذي حكمت به طالبان مجتمع أفغانستان وهي صدمة يختزلها ببراعة مشهد تقديم الطبيب لرغيف خبز لامرأة جاءت تطلب الدواء، إذ يعلل الطبيب مرضها بأنه ناتج عن الجوع أساسا.
أما المشاهد الأخيرة في معسكر للمعونة الطبية الدولية، إذ يحتشد عشرات الأفغان للحصول على أطراف صناعية بعد أن فقدوا أرجلهم من جراء الألغام، فهي مشاهد تختزل معاناة البلد بأسره. تمر طائرة تتأهب لإلقاء المساعدات من الجو، وفيما يخيل للمشاهد أن طعاما وأدوية ستهبط بالمظلات، نفاجأ بالأطراف الصناعية تهبط بالمظلات بدلا من الأطعمة في مشهد سريالي، يقدم مجازا بليغا للآمال المحبطة لشعب عانى الويلات والموت والجوع.
تنتهي رحلة نفس جل في محطة أخيرة، إذ تتفق مع جماعة من الرجال على اصطحابها إلى قندهار ضمن قافلة عرس يتنكر خلالها الرجال في زي النساء الأفغاني الذي يغطي كامل جسم المرأة ووجهها. لا توحي لنا المشاهد هنا ما إذا كانت قافلة العرس قد اجتازت حاجز تفتيش شرطة طالبان، لكن اللقطة الأخيرة التي يختم بها الفيلم تقدم المدلول الأهم في معاناة النساء: ترفع نفس جل برقعها لترى المشهد أمامها وتسدله من جديد على وجهها فيما تركز الكاميرا عدستها على احد ثقوب البرقع مستعيرة عين نفس جل لتنقل لنا المشهد من داخل البرقع في مجاز عن الإلغاء الكامل للنساء وإطلالتهن على العالم من هذا الثقب الصغير.
إن لكل شخصيات الفيلم الرئيسية عالمها الصغير الذي تعيش فيه أو تنتمي إليه، نفس جل الأفغانية الأصل التي هاجرت مع عائلتها إلى كندا تأتي الآن من عالم آخر وثقافة مختلفة لا تمت إلى عالمها الأصلي بصلة. الطبيب الأميركي المسلم الذي تطوع في صفوف الطالبان، يطل علينا كمن يبحث عن الحقيقة والخلاص لكن طموحه يصطدم بمرارة الواقع وهو ما يعبر عنه بتعاطفه مع نفس جل ومساعدتها. الصبي الصغير خاك الآتي من عالم الطفولة الضائعة في أفغانستان وهو ما تختزله مشاهده قبل لقاء نفس جل في كتّاب القرية الذي حل محل المدارس والتوبيخ الذي يتلقاه من الملا القائم على التعليم في الكتاب. إن لا مبالاة خاك تعبير عن الضياع، وانعدام إحساسه باحترام الموت والموتى يصدم نفس جل ويصدم المشاهدين أيضا عندما يهرع إلى انتزاع الخاتم من الجثة المتحللة في التراب. هذه العوالم الصغيرة بكل ما فيها من هموم وآمال محبطة، هو الخيط الدرامي لرحلة الاكتشاف التي يدعونا إليها مخملباف في هذا الفيلم.
وباعتماده على الصورة بأقل قدر من الحوارات، جاء قندهار متقن الصنع إذ اقتربت مشاهده من اللوحات الفنية الموحية والمعبرة. تصميم المناظر بدا لافتا في الفيلم إذ التوظيف البارع للألوان والظلال في لعبة الإيحاء، وكانت معظم مشاهد الفيلم مرسومة ببراعة. كانت الألوان الزاهية في الفيلم وخصوصا براقع النساء رمزا للفرح والتنوع في الحياة، تصطدم على الدوام بالرمال الصفراء والأرض القفر في الكثير من مشاهد الفيلم. ولأنه كان يرمي إلى رسم لوحات بصرية، اعتمد التصوير في الكثير من هذه المشاهد على اللقطات الطويلة، أما اللقطات القريبة فقد كانت كعادة مخملباف وبقية المخرجين الإيرانيين تستقرئ الملامح وتعبيرات الشخصيات وانفعالاتها.
سفر قندهار
بطاقة إنتاج: إيران/ فرنسا 2001 / مدة العرض 85 دقيقة.
سيناريو وحوار: محسن مخملباف - إخراج: محسن مخملباف - مدير التصوير: إبراهيم غفوري - مصمم المناظر: أكبر مشكيني - موسيقى: محمد رضا درويشي - تمثيل: نيلوفر بزيرة (نفس جل)، حسن تانتاي (الطبيب ساهد)، سادو تيموري (خاك)، حورية حكيمي (حياة) 860 كلمة
العدد 156 - السبت 08 فبراير 2003م الموافق 06 ذي الحجة 1423هـ