أي أطروحة أو حركة إصلاحية حقيقية، أو ثورة، تنطلق من الإيمان والمعرفة ضد الجهل والكفر ومن العدل ضد الجور ومن الحرية ضد الاستبداد، بعد تبلورها ودخولها ورسوخها في التاريخ، تبدأ بالتجرد من ظروف نشأتها لتصبح أكثر عمومية، وإنسانية.
حركة الإمام الحسين (ع) في كربلاء، ليست استثناء من ذلك، خصوصا عندما توضع في موقعها من قضية المسلمين كافة مكوّنة من شعوب متعددة في خصوصيتها ملتئمة على إيمان جامع وتوحيد ضامن وعقيدة حافظة ومشروع حضاري إنساني واسع ومتجدد.
في أحد بياناته الأولى حدد الإمام الحسين (ع) البواعث لحركته فقال: «إني لم أخرج أشرا ولا بطرا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»، وأمة جده كانت منتشرة ولاتزال على مساحات واسعة من المعمورة، تحمل الإيمان نفسه والعقيدة والأحلام والأشواق إلى العدل، وتشكل في همومها واهتماماتها العامة والخاصة الفضاء الحضاري الذي يحتضن حركة الاحتجاج الحسيني متفرعة عن أصلها الإسلامي، فهي فرع من أصل إذن، تجد في هذا الأصل مكوناتها ومحدداتها ومجال استمرار الأفكار والقيم الأساسية التي قامت عليها ومن أجلها، وهي تخص كل من ينتمي وينتسب إلى هذا الأصل ولا يرى في أي فرع من فروعه المعرفية والاجتماعية والوطنية والقومية حالة انفصال، إذ كلها حالات ومظاهر تنوع تقتضيها سنن الحياة والتاريخ والاجتماع وإشكالية المعرفة وتعددها، ويحضنها ويضمنها الإيمان والتوحيد الراسخ الذي يمد النزوع الدائم إلى الوحدة بالنسغ السائغ الذي يحفظ النصاب المتنوع على واقع التنوع المفتوح دائما على الحوار والتكامل والتكافل والتناصح والتناصر.
إن في إمكان أية نخبة أو جماعة أن تأخذ لنفسها مسافة باردة أو محايدة من حركة الحسين (ع) في مشهدها المعاصر، ولن تعوزها الملاحظات التي يمكن أن تبرر ذلك أو لا تبرره، ولكن هذا لا يغير كثيرا في موقع هذه الحركة من وعي عموم المسلمين ووعي علمائهم على وجه الخصوص، وهو وعي يأتي من أصول فكرية وعقيدية ومن فقه توحيدي وحدوي لا تؤثر في عمقه المنهجي الانقسامات السياسية اللاحقة للتأسيس فضلا عن تلك المعاصرة التي يعاد إنتاجها باستمرار طبق معطيات مختلفة جذريا عن الماضي القريب فضلا عن البعيد... فالإمام الحسين (ع) علم من أعلام أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا حسب منطوق القرآن الكريم الذي يؤمن المسلمون جميعا بكل كلمة وردت فيه باعتباره وحيا يوحى، وهو يشكل المشترك الأعظم بينهم، والذي لا يزيده الاختلاف في الفهم والتفسير والاجتهاد إلا سعة وعمقا. والمعروف لدى أهل الاختصاص أن فقهاء المذاهب الإسلامية كافة يحكمون بنجاسة من يكره أهل البيت (ع).
إن هناك تعبيرات ومظاهر حياد أو برود أو استياء أحيانا في حالات إسلامية، من طريقة الإحياء والاستحضار لواقعة كربلاء، وهناك لون من التعامل الحصري (الاحتكاري) معها وخلط لها بمتغيرات تاريخية واجتماعية وسياسية تسويغا لجعلها شأنا حصريا ـ مذهبيا ـ وقد تكون لأحد أو جماعة أسباب إضافية فكرية أو عاطفية، أصلية أو طارئة، تجعل علاقتها مختلفة عن علاقة جماعة أخرى بقضية ما، لأنها أكثر اختصاصا بها، ولكن ذلك لا ينفي عمومية القضية وعلاقة آخرين أو الآخرين بها، ففلسطين مثلا قضية العرب والمسلمين جميعا (وإن كانوا الآن أقرب إلى الاستقالة منها فإن ذلك لا يغير الجوهر) إلى البعد الإنساني في هذه القضية. ولكن ذلك لا ينفي ولا ينتقص من خصوصية علاقة الشعب الفلسطيني بقضيته، ولا يبرر له أن يحصر القضية به... والخصوصيات التي ترافق نشأة أية حركة أكبر لها مدخلية واضحة في تكوينها وتعريفها ولكنها عندما تبلغ درجة عالية من النضج تصبح أكبر من ظروف نشأتها بما يترتب ويتأسس عليها من نتائج وأفكار وقيم ومسالك ومسارات.
ويعلم الجميع أن مسيحيين عربا وأجانب كثيرين وفاعلين وقفوا مطولا عند أهل البيت (ع) وفضائلهم ومميزاتهم، واكتشفوا وكاشفوا أقوامهم وكاشفونا بذلك من خلال آثار فكرية معروفة... وان المسلمين عموما لم يقصروا بل أبدعوا... وقد أبدع فيمن أبدع عبدالله العلايلي والعقاد ومحمد عفيفي وعبدالرحمن الشرقاوي وعبدالفتاح عبدالمقصود والشيخ عبدالحليم محمود والشيخ أحمد حسن الباقوري وأحمد عباس صالح وطه حسين وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) وأمين الخولي... أمثلة لا حصرا... والحمد لله على رسوخ التوحيد في القلب والعقل وعلى بقاء الوحدة من غير تعسف، حلما شريفا ومطلبا نواجه به العدوان ونحقق به الحرية والنهوض، والسلام على أهل البيت... وعلى الحسين... على هذه الواحة الخضراء التي نلتقي في ظلالها نتفيأ الجميل من ذكرياتنا يجمعنا الحزن والفرح في جدل جميل وخلاق... لسنا ملزمين بالاختيار بين ذاكرة مضخمة أو ذاكرة مقطوعة، بل نحن ملتزمون بالاعتدال والتوسط وتلطيف الثنائيات، رائدنا الحق الذي يجب أن نبقى مشغولين بالبحث عنه واتباعه معا... «اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه، اللهم ألمم به شعثنا وارتق به فتقنا واشعب به صدعنا»... آمين
العدد 185 - الأحد 09 مارس 2003م الموافق 05 محرم 1424هـ