العدد 185 - الأحد 09 مارس 2003م الموافق 05 محرم 1424هـ

«الخالة أم صالح» حملت رسالة «حب الحسين» من المحمّرة إلى البحرين

عندما تُستقى الدروس من حفيدة الملا أحمد الرمل

«الخالة أم سيد صالح»، هكذا يسمونها... حملت معها حلما لم تجاهر به لأحد وهي صغيرة عندما تربت في أحياء مدينة المُحَمَّرَة الواقعة بين البصرة وإيران، تلك المنطقة التي أبادتها الحرب العراقية الإيرانية، لكنها عادت تتنفس الصعداء لتعلو بها أوجه العمارة الناشئة حديثا... كبرت، وكبر معها الحلم، حلم إحياء ذكرى الامام الحسين (ع) ونصب مأتم عزاء فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (ع).

يخرج صوتها عذبا دافئا شجيا، ليجسد ملحمة عاشوراء في كل عام، لم تكن لتتخيل أن بيتها الصغير في مدينة عيسى الذي حولته إلى مجلس عزاء سنوي بين العام 1979و1987 سيتسع بفضل بركات الحسين ويتحول إلى مأتم تروح فيه الخيل في قرية سند. انه «مأتم الرضوية»، قالت عند التأسيس قبل عشر سنوات: «من سيملأ كل هذا الاتساع، من أين سيأتي المعزون لملء المجلس» وهي لم تكن تعلم أن عشاق الحسين سيعتنون لصوتها الذي ورثته من جدها الملا أحمد الرمل من كل صوب ومكان، ليجعلوا المأتم الواسع مكتظا، كأنه غرفة صغيرة.

في مجلسها الأول تعلم جيل بأكمله الدروس الأولى في حب الحسين، كنا صغارا نهم بالذهاب باكرا للحصول على مكان يصل إليه الصوت بوضوح، نرتدي الحجاب والعباءة لنبدو أكبر سنا، نستمع، ونتلذذ بالسماع، ومنها عرفنا تفاصيل فاجعة الطف... كبرنا، وصوتها جعل الانتماء إلى شهداء كربلاء يكبر معنا، فمجلسها ليس مجلسا اعتياديا وكذلك صوتها. تبدأ بسرد الحديث كما يجري في مأتم الرجال، وهنا تدرك كيف ورثت جينات جدها الذي كان يحيي الذكرى في أحياء المحرق القديمة، ورويدا رويدا يجر السرد إلى تفصيل وقعة كربلاء.

من السهولة بمكان أن تتجسد أمام عينيك الواقعة من جديد... مسرى الحسين إلى أرض نينوى، أنصاره القلة، كفوف أبي الفضل العباس (قمر بني هاشم)، شيبة حبيب بن مظاهر الأسدي المخضبة بدماء الشهادة، أولاد مسلم بن عقيل، شبيه النبي الأعظم (ص) علي الأكبر بن الحسين، القاسم، ونحر عبدالله الرضيع... العقيلة زينب وبقربها الامام علي السجاد، وفاطمة الكبرى التي تركوها وحيدة في المدينة... جميعهم تحاك أطيافهم في مخيلتك لتلمح ذلك النور المنبعث من وجوههم، ويتجدد المصاب.

على امتداد الأيام العشرة الأولى تتوقف «الخالة أم صالح» عند حكاية استشهاد أحدهم، تشعرك بحرارة ما جرى بمرارة وحلاوة الاستشهاد معا، وتصول إليك من دون تصريح فلسفة استشهاد الحسين والرسالة التي خرج من أجلها، لذلك يبدو مجلسها مختلفا.

تهم في الوقوف عند التفاصيل الكبيرة والصغيرة... كيف أنزل العباس العقيلة زينب من على ظهر الجواد في أرض الطف، ليهمس لها: «أنا كفيلك»، وكيف خرج إلى نهر الفرات لسقي بنات الحسين، تأبى نفسه شرب الماء قبلهم، يهاجمه جيش يزيد وتقطع كفاه كي لا يوصل الماء إلى مخيم النساء، كيف يسقط الأنصار واحدا تلو الآخر، ليبقى الحسين وحيدا لا ناصر له ولا معين. يستشهد الامام، وتبدأ مصيبة زينب، النار التي آضرمت في الخيام، ومشهد سَوْق السبايا إلى مجلس يزيد في الشام.

يدخل صوت ابنتيها «أم حسين» و«أم محمد» بأبيات القصيد ليزيد الأداء العذب من هول الفاجعة المتجددة، أبيات باللغة الفارسية على لسان حال الرباب (زوجة الحسين) وهي تهز مهد الرضيع خاليا، لا تحتاج إلى قاموس لتفهم ماذا يمكن أن تقول أم خضبت نحر ولدها الدماء، وهنا تطلب كل زوجة تأخر حملها أن تملأ حجرها ببركات الرضيع لتؤدي النذر في العام المقبل.

ومن بركات القاسم (العريس) تطلب الفتيات الصغيرات ابن الحلال الصالح وينذرن للعام المقبل ما استطعن، ويستمر الدعاء للمرضى والأسرى والمعتقلين من بركات أهل البيت.

وفي ليلة العاشر يظل مجلس العزاء منصوبا حتى الصباح، وقصائد البكائيات «النوحيات» تلهج بها الألسن، يدخل صف جديد من الصغيرات يتدربن أمام مستمعات أقل، انهن حفيدات «الخالة أم صالح»، وفي القريب العاجل سيساعدنها في نصب العزاء، وما ان يصل اليوم العاشر حتى تجد قوى «الخالة أم صالح» قد أنهكت تماما، وعلى رغم ذلك تظل تقرأ قصة المقتل بأداء يدنو كثيرا من قراءة الشيخ عبدالزهراء الكعبي، ترفض الجهر بالإرهاق، ففاطمة الزهراء تستحق أكثر.

وفي ليلة الوحشة، ليلة الحادي عشر ينصب العزاء على ضوء الشموع الخافت الحزين، وللشموع حكاية أخرى، فبعد عشرة أيام من السرد للواقعة التي مجدها التاريخ الإسلامي، وبعد مشاهد سقوط شهداء كربلاء في تسلسل تراجيدي فريد، تبقى العقيلة زينب وحيدة بين النيران التي أضرمت في المخيم وفي رقبتها تتعلق بنات الحسين وبقربها يبكي «ذو الجناح» جواد الحسين، فلم يعد هناك العباس ولا الأكبر ولا القاسم ولا الرضيع ولا الحسين، فقد قضوا جميعا.

سرعان ما يمضي صخب هذه الأيام الدافئة، ليبقى نورها يضيء باقي أيام السنة، وتبقى «الخالة أم صالح» مدرسة نتعلم منها الدروس الحسينية كل عام، تظل النساء تتقرب إلى الله وإلى أهل البيت في هذه الأيام المباركة، وقبل موعد المغادرة تدعو قلوبهن أن يطيل الله عمر الخالة «أم صالح» لتبقى مدرسة تعلم أبناءنا كما علمتنا حب الحسين

العدد 185 - الأحد 09 مارس 2003م الموافق 05 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً