مثّل العام الستون من الهجرة النبوية المباركة منعطفا تاريخيا في حياة الأمة الإسلامية باقتران أكبر جريمة عرفها التاريخ بمقتل سيد شباب أهل الجنة وسبط النبي (ص) الأصغر، الإمام الحسين بن علي (رض) على يد السلطة الأموية، وسبي أهل بيته من النساء والأطفال مصطحبين برؤوس أحبتهم إلى مركز البلاط الأموي في دمشق. وأصبح العاشر من محرم منذ ذلك اليوم - الدامي والأليم والكئيب - يوما محفورا في ذاكرة الأجيال المتعاقبة ويوما ختمه الحسين (رض) باسمه وملحمته الاستشهادية والتضحوية الخالدة. يدأب المسلمون الشيعة خصوصا وسائر المسلمين عموما على الاحتفال بهذه النهضة المباركة في مطلع كل عام هجري ليحيوا ذكرى الدماء الزكية الطاهرة للحسين (رض) وأصحابه وأهل بيته التي سالت على رمضاء كربلاء وليجددوا بذلك العهد مع هذه النهضة المباركة.
إن خلود النهضة وديمومتها عبر الزمن ومقاومتها لعوامل التعرية والتهميش لدليل معبر ومهم على أهمية القيم والمثل الاحيائية و التنويرية التي تحتضنها للأجيال المتعاقبة، ولدورها التنويري في الأحداث الجسام التي شهدها القرن العشرون، ولعل أبرزها كان توظيف الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني في مطلع الثمانينات بشعار «هيهات منا الذلة» الذي رفعه الحسين بن علي (رض) في نهضته.
إن الحماس الذي تبديه الشيعة لإحياء هذه النهضة المباركة وما تمارسه من طقوس ووسائل في التعبير عن عمق ارتباطها وصلتها مع أيام عاشوراء في مطلع كل عام هجري وأصبح مادة وهدفا للذين خافوا هذه النهضة وقيمها التنويرية الاحيائية وصمها بالطائفية وما زاد الطين بلة، وعمق خطاب التهميش لهذه النهضة غفلة المتبنين الرئيسين لها (الشيعة) عن جدية إعادة النظر في الوسائل و الأدوات التي توظفها بعض الطبقات الشعبية في الاحتفال بعاشوراء، مثل: ضرب الرؤوس بالسيوف وجلد الظهور بالسلاسل وغير ذلك من بعض المظاهر التي سادت عفويا وغير عفوي منذ عهد الدولة الصفوية.
لا يمكن أن يتصور حجم الخسارة التي أصابت الأجيال ومازال النزيف مستمرا وقد يستمر من جراء تهميش هذه النهضة المباركة ولفها بغيمة من الضبابية و العتمة الطائفية ووصم المتعامل معها بعنوانين التزمت و الإفراط والتهميش الرائجة اليوم في الخطاب الأصولي الإسلامي والعالمي.
إن الجانب الإنساني المشرق لهذه النهضة و المتجلي في كلمات الإمام السبط الحسين بن علي (رض) وما يقرأه المتفحص في أحداثها الجـسام عطاء يثري الإنسانية المقفرة المجدبة في هذا العصر و يمونها باليافع من ثمار الفكر التنويري التربوي الاصلاحي، ويحصنها مما يحيك لها أئمة العولمة التي تصوب سهامها لجوهر الإنسانية.
إن النهضة التي ترفع شعار «ما خرجت أشرا ولا بطرا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد ان أأمر بالمعروف وان انهى عن المنكر» وكأن مطالبها الإصلاحية غضة طرية في إلحامها وحيويتها في زماننا هذا مما يشد ويعضد الحاجة الملحة الإلحاح المستفيض لإعادة النظر في موقفنا من هذه النهضة المباركة والدعوة تتسع لكل المفكرين والعلماء الإسلاميين الشيعة منهم والسنة في أن يتخذ كل دوره الثقافي في إعادة دراسة هذه النهضة.
فالشيعة يعملون بمعاولهم لقشع غيوم الطائفية التي عملوها بغفلتهم،والمغرضون طوال السنوات الماضية على تغليف هذه النهضة بهذه الغيوم التي حرمت الأوساط الإسلامية العريضة من النظر إليها نظرة موضوعية.
ولا يتسنى ذلك إلا من خلال منهج بحثي جريء متسلح بأدوات العصر من المناهج العلمية في تنقية وتنقيح ما علق بالنهضة من المفاهيم غير الأصيلة والدخيلة التي عملت الأجيال الماضية غير الواعية لتداعياتها على إدخالها وتوطينها في فهم النهضة والطقوس المصحوبة في الاحتفال بها والمفاهيم الأخلاقية الاجتماعية الشعبية الرائجة في أوساطها.
ولا مندوحة للمفكر الشيعي الحر من التسلح والتحصن بالجرأة والشجاعة في اقتحامه لهذا الحقل الشائك الملغم وما سيواجهه من الاتهامات والافتراءات من بني جلدته التقليديين المتزمتين من التشكيك والتضعيف والتهويل.
والدور الثقافي للمفكر السني في تصحيح النظرة للنهضة الحسينية جسيم وخطير، لأن الدور الذي يلعبه المفكر الشيعي في تصحيح مفاهيم النهضة وإعادة عرضها هو دور داخلي وأما الدور الخارجي فللمفكر السني في تقليص جدر الظلمة والعتمة التي تلت النهضة الحسينية،ولا يضر المفكر السني أن يتهم بالتشيع فذلك ضريبة الإصلاح والتنوير.
إن العامل المشترك لكلا الفريقين من المثقفين والمفكرين حيوي ومفصلي جدا في هذه البرهة التاريخية الحرجة لعرض الوجه الإنساني الخالد لهذه النهضة للمجتمع الإنساني الواسع في شتى أصقاع المعمورة والمستضعفين منهم على وجه الخصوص.
تتمتع النهضة الحسينية بتراث ذي مناهج ومشارب متنوعة وغنية
تراث النهضة الحسينية بحاجة إلى إعادة تأصيل ومراجعة في ضوء المتاح من المناهج العلمية والوسائل البحثية والمدارس الفكرية المعاصرة، ويمكن استعراض هذه المناهج واستعراض ما تحتاجه من التصحيح والتصويب.
1- المنهج التاريخي:رصدت المطولات والموسوعات التاريخية أحداث هذه النهضة بالدقة والتفصيل كما جاء في تاريخ الطبري وابن الاثير ومروج الذهب للمسعودي، وقد أفرد المؤرخون مؤلفات مفصلة أطلقوا عليها (المقتل) مثل: مقتل أبومخنف الشهير ومقتل ابن أثير، وغيرهم من المؤرخين.. وعلى رغم الدور الحيوي لرصد هذه الكتب لحادثة كربلاء عانى هذا الرصد الكثير من الخلل وشابه العفوية في التدقيق والتنقيح للرواية التاريخية غير الدقيقة لاسيما تلك التي تتحدث عن الأحداث الدقيقة والتفصيلية، تحليل النهضة تحليلا دقيقا وأعاق إظهار جوانبها الإنسانية.
المنهج التاريخي بحاجة إلى المزيد من التنقيح والتحقيق باعتباره مادة تاريخية حية ومهمة في معرفة هذه النهضة خصوصا من قبل الأجيال المتأخرة التي يغلب على توجهها المنحى العلمي التحقيقي. وإعادة النظر في الرواية التاريخية ضروري في تنضيب وتجفيف منابع الخطباء الشعبيين الذين يوظفون الرمزيه في هذه الأحداث في البكائية والرثائية المجردة من دون تحليل علمي متوازن لها.
إن تبني المناهج العلمية في تأسيس منهج تاريخي أصيل ومتجدد غاية في الأهمية في تأصيل هذه النهضة لاسيما وجهها الإنساني لتعريفه لكل المجتمعات البشرية المتعطشة للموقف الإنساني الأصيل الذي يعكسه السبط الشهيد في نهضته.
2- المنهج السياسي: يعد المنهج السياسي في دراسة النهضة الحسينية من المناهج الحديثة، إذ توظف أدوات المفاهيم السياسية في تحليل النهضة الحسينية لإظهار بُعدها السياسي في زمنها والأزمان المتعاقبة. والدروس والعبر والخطط المنهجية التي ابدعتها هذه النهضة في هذا المضمار.
ويعد كتاب المفكر الإسلامي الكبير الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين (ثورة الحسين) من أهم الكتب التي درست النهضة من هذه الزاوية كما لا يخلو كتاب المفكر الإسلامي الراحل الشيخ مرتضى مطهري (الملحمة الحسينية) من دراسة النهضة الحسينية بهذا المنظار.
ويعد هذا المنهج مهما جدا في دراسة العوامل والأسباب السياسية التي تأسست عليها النهضة وتحليل الآثار والنتائج التي حققتها هذه النهضة في هذا الحقل.
يعد هذا المنهج من أهم المناهج التي هي بحاجة إلى المزيد من التطويع والتطبيع في دراسة النهضة الحسينية خصوصا في ضوء النظريات السياسية الغربية المهيمنة على الساحة العالمية وما يحكم هذه النظريات من أصول عقيدة فلسفة ميكافيلية وصليبية، ولكن يعاني هذا المنهج من خلل في بعض جوانبه خصوصا تركيز بعض الدارسين على الجانب السياسي الثوري في محاولة إقصار تحليل النهضة على هذا النظرة السياسية الضيقة.
إن أهم جوانب القصور التي تعاني منه هذه النظرة في المنهج السياسي هو محاولة تحجيم النهضة في بعد واحد من أبعادها وصورها المتعددة. ليس المنهج الثوري الذي امتهنته النهضة إلا أداة ووسيلة في تحقيق غايتها الإصلاحية للأمة لطبيعة الظروف والأجواء الاجتماعية السياسية التي عاشتها وليست غايتها تأسيس نظام ثوري انقلابي كما شهدته الخريطة السياسية للعالم في القرن العشرين، والمهمة التي تنتظر الدارسين للنهضة بالمنهج السياسي هي دراسة وتحقيق مدى اهتمام الحسين (رض) بتأسيس نظام سياسي على أنقاض النظام الأموي إذا ما كتب لنهضته النجاح.
3- المنهج العقائدي: كان لعلماء الفلسفة والكلام دور بارز وحاضر وما زال في تحليل النهضة الحسينية. لعل أهم القضايا التي إثارها هؤلاء الفقهاء والفلاسفة هي خروج الحسين (رض) على حاكم عصره ومدى شرعية ذلك، مثلما ذهب إليه ابن عربي من تخطئة الإمام الحسين (رض) في خروجه.
ومن القضايا المهمة التي عالجها جمله من الكلاميين والفلاسفة قضية تنبؤ السبط الشهيد بالقدر المحتوم الذي ينتظره وأصحابه وأهل بيته في كربلاء،ويعد هذا الجانب من النهضة من أهم البحوث الكلامية في ضوء ما تثيره العمليات الاستشهادية في فلسطين من جدل في المحافل العلمية والسياسية.
هذا الجانب بحاجة إلى المزيد من التأصيل بالبحث والتقصي في جذور هذا التوجه الاستشهادي في المصادر المتفق عليها في التشريع الإسلامي.
4- المنهج التربوي: نظر الكثير من الباحثين في حقل الأخلاق والتربية وسائر العلوم الإنسانية إلى النهضة الحسينية باعتبارها مصدرا مهما في دراسة التحولات الاجتماعية التي عاشتها الأمة الإسلامية في العهد الأول من الدولة الأموية وما صاحب ذلك من تحولات حرجة وحساسة على الفرد والأسرة والمجتمع وما انعكس من علاقة الحاكم بالمحكوم.
تعتبر الأهداف التربوية والأخلاقية للنهضة أهدافا استراتيجية وحيوية هيمنت على أحداث النهضة وحكمت الكثير من القرارات المصيرية التي اتخذها السبط الشهيد في تعامله مع الفريق المناوئ لإظهار حجم الانحسار الضخم والخسارة الكبيرة للقيم الأخلاقية في تلك الحقبة التاريخية.
إن التأصيل الذي يتطلبه هذا المنهج يمكن في دفع أهل الاختصاص لبلورة أطروحات تطبيقية تستند إلى ما جاءت به النهضة من قيم تربوية وما استندت إليه في دعوتها لإصلاح كيان الأ
العدد 186 - الإثنين 10 مارس 2003م الموافق 06 محرم 1424هـ