الشورى والديمقراطية مفهومان دار حولهما جدل كثير، وأثارا نقاشا طويلا متصلا في الوقت الراهن، ويستهلك اليوم جزءا كبيرا من تفكير النخب المثقفة الإسلامية والعلمانية على حد سواء، وعلى رغم كثافة ما كتب ونشر عن هذا الموضوع، إضافة إلى الندوات والمحاضرات الفكرية التي عقدت في أكثر من قطر عربي وأوروبي، فإن الجدل لم يستنفذ أغراضه من هذين المفهومين.
فهناك في كل من المدرستين الإسلامية والعلمانية رأيان: الأول، يؤمن بالتوفيق بين الشورى والديمقراطية، وهذا الرأي له دعاته والمنادون به. والرأي الآخر يرى أن هناك تناقضا، ولا يمكن التوفيق بينهما، ويعلل ذلك إما بسبب أن الحاكمية المطلقة لله عز وجل وليس للشعب، وأن الديمقراطية مشروع غربي لا يحكم بما أمر الله به، وهذا ما يقول به بعض دعاة المدرسة الإسلامية. أما رأي دعاة المدرسة العلمانية المتطرفة، فيرون أن هناك تناقضا حاصلا، ولا يمكن الجمع بين الاثنين، وأن مفهوم الشورى تكتنفه السطحية والجزئية، وينحصر في إطار الاستشارة من دون الأخذ في الاعتبار رأي الآخرين من قبل الحاكم سواء كان فردا أم جماعة، وهذا الرأي له مدلولاته ونماذجه.
أما المدرسة الإسلامية المتنورة فتدعو إلى التصحيح والتجديد في الفكر الإسلامي في مختلف جوانبه ومجالاته التشريعية والقضائية، بما يتطابق وروح العصر. أما بالنسبة إلى المدرسة العلمانية التي تقبل بالحوار والانفتاح، فتؤكد الصيغة التوفيقية بين الشورى والديمقراطية.
وقد ذهب نفر من الذين سموا برواد الإصلاح والنهضة المتقدمين، مذهبا يؤمن بأن «التقدم في المعارف وأسباب العمران، لا يتيسر للعرب والمسلمين من دون إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسيس على دعامتي العدل والحرية اللتين هما أصلا في شريعتنا، ولا يخفى انهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك، على حد قول عزت قرين».
ويقول الأفغاني في «العروة الوثقى»: «إن الأمة التي ليس لها في شئونها حل ولا عقد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، إنما هي خاضعة لحاكم واحد إرادته قانون ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فتلك أمة لا تثبت على حال واحد ولا ينضبط لها سير، فتعتريها السعادة والشقاء ويتناولها العزل والذلة».
أما بالنسبة إلى دعاة التجديد والتنوير الإسلامي المتأخرين، كالشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ راشد الغنوشي، فهم يرون بأنه لا تعارض بين الشورى والديمقراطية، وان استخدام الوسائل الحديثة في التعبير عن الرأي والمشاركة السياسية أمر واجب ومشروع. فالشيخ الغزالي يرى أن «الشورى لا علاقة لها بالعقائد والعبادات، والحلال والحرام، مع أن ذلك معلوم لدارسي أصول الفقه»، ويبني على نتيجة «أن من هواة الكلام في الإسلام جماعة رفضت أن تكون الأمة مصدر السلطات!. لماذا؟. لأن الحاكمية لله لا للشعب. وظاهر أن ذلك لعب بالألفاظ أو جهل بالتشريع، أو خدمة للاستبداد السياسي، وأن الديمقراطيات الغربية إجمالا وضعت ضوابط محترمة للحياة السياسية الصحيحة، وينبغي أن ننقل الكثير من هذه الأفكار لنسد النقص الناشئ عن جمودنا الفقهي قرونا طويلة».
ويقول القرضاوي «مازلنا نجد للأسف، من يرى أن الانتخابات وسيلة غير إسلامية، وأننا نبحث عن أهل الحل والعقد الذين لهم وحدهم التقرير في كل شيء، ولكن كيف نصل إلى أهل الحل والعقد، ومَنْ هم أصلا؟!. إنهم لم يذكروا في كتاب ولا سنة، ولكنهم الذين لهم حق مراقبة الحاكم وعزله، نحن في عصرنا نرى أن الانتخابات هي الوسيلة للمجيء بهؤلاء أو بمن يقوم مقامهم، ولكل عصر وسائله، وإذا أصر الناس على الوقوف عند الصور القديمة، فإن ذلك يعني خللا في التفكير. فنحن نعلم مثلا أن الفقهاء قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، وإذا كان هذا يجري على كل النواحي فإن أولاها بالتغيير هي المسائل السياسية. فنحن محتاجون إلى معرفة عصرنا وما يتطلبه، ومن ذلك الديمقراطية».
ويضيف «أن الديمقراطية، هي التغيير العصري عما نسميه بلغة الفقه والثقافة الإسلامية بالشورى. والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، ونحن بوصفنا مسلمين نرحب بالديمقراطية ونؤيدها، ونرى أن الإسلام يعتبرها جزءا منه، لأنه كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».
وفي ندوة عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة في 1990، عن الديمقراطية، قدم الكاتب والباحث الفلسطيني الدكتور أحمد صدقي الدجاني مداخلة أشار فيها إلى الترابط بين الشورى والديمقراطية، يقول ما نصه: «سألت نفسي ما الذي تعنيه الديمقراطية، فجمعت عندي ألف صفحة من التعريفات التي تغرق الناس، لكنها تعني في النهاية مجموعة من الناس، يتداولون أمرهم فيما بينهم ليحكموا أنفسهم بأنفسهم، وليستخلصوا الأفضل، وكلمة شورى في اللغة العربية تعطي هذا المدلول».
هذه الآراء التي تم ذكرها، تؤكد في محتواها التوافق بين الشورى والديمقراطية، وأنه لا تناقض بينهما، وإمكان العمل بهما في المجتمع العربي المسلم.
التيار الإسلامي المتشدد...
أما دعاة الفصل بين الديمقراطية والشورى في المدرسة الإسلامية فيمثله تيار يعتقد ببطلان الديمقراطية وترجيح كفة الشورى، وعدم وجود وجه تشابه بينهما. ويستند هذا التيار إلى أدلة من خلال مشاهدته للتجربة الديمقراطية في الغرب اذ يبرر بأن التحلل الخلقي والفساد نتيجة الديمقراطية، مستبعدا الجانب الإيجابي الذي تتميز به هذه الدول، لما فيها من الحرية والديمقراطية وحرية التعبير، فالممارسة الديمقراطية التي تجري في أوروبا وأميركا هي في عقيدة أتباع هذا التيار زيف ونفاق، متجاهلا بأن ذلك هو حصيلة تجارب توصل إليها العقل البشري في تلك المناطق.
وينطلق هذا التيار في تبنيه لهذه الفكرة من مبررين: الأول، ضيق الفكر ومحدودية الأفق، إذ ينظر إلى الأمور من خلال منظار واحد ومن الجانب السلبي فقط. والثاني، الجانب النفعي المصلحي، إذ يستفيد هذا التيار من قربه من الطبقة الحاكمة التي يلتف حولها. لذلك فأية دعوة إلى المشاركة السياسية، وإدخال الناس في العملية الديمقراطية، والممارسة الحرة في انتخاب من يمثلها، تتصدى لها هذه الفئة وبقوة مستخدمة سلاح الدين والفتوى في مواجهة دعاة الإصلاح السياسي والديمقراطية.
هذا التيار لايزال يلعب دورا فاعلا، في الجانب السياسي، في تضليل الرأي العام الشعبي، ويقف حجر عثرة في التقدم إلى الأمام في التجربة الديمقراطية في الوطن العربي من محيطه إلى خليجه.
التيار العلماني المتشدد...
أما دعاة الفصل بين الشورى والديمقراطية في المدرسة العلمانية فيرون أنه لا توجد هناك رابطة بين الشورى والديمقراطية ويرفعون شعار المعاداة والمواجهة الحادة مع المدارس الإسلامية بجميع أشكالها واتجاهاتها بما فيها المدرسة القائلة بوجود علاقة بين الشورى والديمقراطية. فهذا التيار يلتقي، في المستوى نفسه، مع التيار الثاني في المدرسة الإسلامية الداعي إلى الفصل بين المفهومين من حيث التشدد والتزمت والانغلاق. لذلك فإن ملاحظات هذا التيار وإشكالياته نابعة من ردة فعل عما يصدر عن التيار الإسلامي المتشدد. وهذا لا يمكن الأخذ به والاعتراف بمشروعيته، إذ يستخدم التيار العلماني المتشدد هذا التبرير من أجل تحقيق طموحه ورقيه السياسي على حساب الآخرين، والإدعاء بأن الإسلاميين لا يؤمنون بالديمقراطية، وأن ما تطرحه بعض الحركات الإسلامية أو النخبة المثقفة الإسلامية، ما هو إلا وسيلة من أجل الوصول إلى تحقيق مطالبها، وهي إقامة الحكم والشريعة الإسلامية، وفي حال وصولها إلى الحكم ستقوم بإلغاء الرأي الآخر بأدوات القمع والعنف!.
ويتناسى هذا التيار، ما عمله عندما وصل إلى سدة الحكم في الستينات، بأن فرض النظام العسكري الحاكم بالحديد والنار وقمع جميع القوى السياسية التي يختلف معها في الرأي كما تناسى الممارسات القمعية لنظام العسكر في الجزائر في التسعينات.
فالديمقراطية والشورى لهما عدو واحد هو «النظام الديكتاتوري والحكم الفردي»، والشيخ يوسف القرضاوي يشرح ذلك بقوله (ولو سألنا أنفسنا ما البديل المعارض والمناقض للديمقراطية؟!، لجاءت الإجابة التي لا يختلف عليها اثنان: إنه النظام الديكتاتوري، والحكم الفردي، ولو وجهنا السؤال نفسه إلى نظام الشورى، لجاءت الإجابة نفسها. فالديكتاتورية هي التي تعارض وتناقض نظام الشورى في الشريعة الإسلامية، وهذه النتيجة تنتهي بنا إلى أن ثمة عناصر مشتركة بين الديمقراطية والشورى، فكلاهما يعارض الفردية والديكتاتورية والاستبداد).
فمن أجل استقرار السلطة السياسية، لا بد أن تسود وتترسخ في المجتمع القواعد والمبادئ الأساسية لانتقال ودوران تلك السلطة داخل المجتمع سواء عبر الشورى أو الديمقراطية... وتجربة البحرين خير مثال أمامنا
العدد 189 - الخميس 13 مارس 2003م الموافق 09 محرم 1424هـ