العدد 189 - الخميس 13 مارس 2003م الموافق 09 محرم 1424هـ

الدين والعلم

بناء على ما تم البناء عليه من التعارض بين الدين والعلم، يصبح من المنطقي توقع نهاية الدين في القرن الجاري أو الألفية الثالثة، أي عندما يصل العلم إلى نهاياته القصوى، إن لم يكن وصل... وماذا بعد الثورة الجينية؟ والله أعلم! غير أن ما تم البناء عليه، قد لا يكون قائما على أساس بحيث أصبح من المنطقي فعلا، وبمقتضى العلم، أن ينتهي العلم بالعلم، لأن ذا الغاية إذا ما تخطى غايته بلغ نهايته، لتبقى الغاية على غائيتها، وأهل الأديان متفقون على أن غايتها هي الإنسان، فعلى أية غاية يتفق العلماء؟ وإذا ما تخطى العلم الإنسان فإنه يعبده خالصا إلى إطار الديني بشكل حصري ونهائي... إذن يمكن أن نتوقع أو نحتمل بداية أخرى للدين في آخر العلم، وبحيث يصبح متوقعا أن تتراجع العلمانية، في الجانب المادي المحض من أطروحتها، أي اللاديني، أو الناقض للدين، باعتبارها قائمة على العلم أو مشتقة منه، وعلى العالم الذي كانت نازعة إلى اختراق حدوده، وقد اخترقتها، ولكن الدين بقي في انتظارها وراء الحدود المخترقة، لأن الأبرز في بنيانه، أو في وعيه المطابق، هو نزوعه إلى العالمية، بينما الثمامية هي نزعة فرضية أو إضافية فيه، ترجحها ـ الثمامية ـ

أو تبرزها أو تغلِّبها في لحظة ما، المستوى المتحقق من المعرفة بالدين والحياة والإنسان والكون، وعندما يكون هذا المستوى مفارقا نسبيا لجوهر الدين ومقاصده... إذن فالعولمة ليست تهديدا للدين، بل تحذير لحامليه والداعين إليه، من الاستمرار في استسهال أمره واختزاله معرفيا وتنميطه في معارفهم عنه، أي قراءاته قراءة مطلقة بأدوات نسبية مطلقا.

وتبقى إشكالية الدين والعلم قائمة بينهما باعتبارهما حقلين معروفين مختلفين، مسكونين بجدل التغاير والتكامل، كما تبقى إشكالية الدولة قائمة بينهما، باعتبارهما أنظومتين أو إطارين جامعين، تتسع مساحة التعارض أو التوافق بينهما وتضيق تبعا للتطور في أنظمة المعرفة وما تستند إليه مستجدات الاجتماع البشري من نظم، وتبعا لوعي الدولة لدورها الرعائي الحاضن للتعدد واختياراته المتعددة لا باعتبارها، أي الدولة، النصاب الحصري أو المصدر الجبري لأنظمة الأفكار والقيم.

وعندما يصل الدين إلى اعتبار المعرفة، العلم، شرطا للتكليف ولا يتغاضى عن وجوب تحصيلها باعتبارها شرطا ملزما، وإلى حصر معذرية الجهل في القصور لا التقصير، وفي الموضوعات من دون الأحكام، ليسيِّج منظومته السلوكية والاعتقادية بالعلم، وعندما يقدم نفسه مسألة جوانية (التفريق بين الإسلام والإيمان مثلا) كما في النص القرآني، ويقرر أنه لولا احتمال الخطأ النوعي، لو بقيت الفطرة على حالها الأولى، أي خارج جدل الحياة والمعرفة، لما كانت هناك حاجة إلى رسالة أو رسول، وتفريعا على ذلك يقرر «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» (الاسراء:15). أي أن العلم المتاح هو مبدأ الحساب، وما هو غير معلوم لأنه غير متاح مرفوع حكما... و«إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ» (ناطر: 28). وحصرية الآية وتوكيدها الواضح، مماهاة في الغاية والمآل بين العلم والدين.

ولو لم يكن الدين تكوينا، لكنا شهدنا على مدى عمر الإنسان والأديان، تقويضا ناجزا للدين، في حين أن المشهد العلماني الغربي، الذي ماهى نظريا بين الكنيسة والمسيحية، وحاول أن يهدم الأولى على رأس الثانية، قد عاد إلى المعنى في الدين، إلى الغيب، وتخطاه إلى الخرافة، تخطيا يعوض عن الهجر المستحيل! أما التجربة الشيوعية، التي قامت في بعدها الفلسفي على مادية (فيورباخ) الحاسمة، فما كان من نتائجها، إلا أنها أشعلت الشوق الداخلي في الفرد والجماعة، إلى الدين باعتباره المجال الأمثل لتحقيق الذات التي استلبت بدعوى تحريرها.

هذا كلام نظري يحاول توسل التاريخ دليلا على صوابيته، وهناك أدلة أشد دلالة وطوعا، يلتقي فهيا النظري والعملي، هي أدلة على أن الدين ليس مرشحا للانكفاء تحت وطأة العلم أو العلمنة أو العولمة، وهي أدلة السلوك الذي لا يأتي من فراغ نظري، بل يأتي باستمرار تظهيرا لمستوى نظري مفترض ومتراكم على أمداء طويلة من عمر الوجود. إن استواء الفرد على حال قارة أو جدالية أو حوارية، أي توحده على حال أو نصاب من التعدد، ضمانا لحيويته وبقائه، لا يتسق بالاقتصار على المرجعية النظرية، على الفكرة، التي لا يمكن أن تكون بانية لأية أمثولة أو مثال أو فرضية إلا إذا كانت مستنبطة من واقع ماثل أو وقائع مشهودة (النظري تجديد للمعطى)... فإذا ما نقلنا الكلام إلى الجماعة، بلحاظ بنيانها الجماعي ومستلزماتها وشروطها، وبلحاظ كونها حافظا لنصاد الفرد في نصابها، فإن التجربة البشرية برمتها تؤكد أن السلب، الفراغ، العماء، لا يكفي استقطابا لوعي الفرد أو وعي الجماعة، بل إن هذا الوعي يقوم على التفاصيل والجزئيات والمباشر والملموس والمتغير والحادث، ينحدر إليه من المستوى النظري، من المصدر، ويرقى منه إلى هذا المصدر، في حركة دائبة بين العلم والعمل، بين المعتقد وتجلياته وتعبيراته اليومية «سبحانك ما خلقت هذا باطلا فقنا عذاب النار».

وهكذا تمسي العبادة مثلا، أكثر من شكل، وأكثر من تقرب بالطاعة والامتثال، تصبح ناظما، تنظم بقدر أكبر وأكثر، وبقدر ما تعدد تفاصيلها وتتكاثر حيثياتها وتفريعاتها، وبقدر ما يوغل الفقه العبادي تفصيلا في مجملاتها (الوضوء من الرفق إلى رؤوس الأصابع أو العكس، والمساحة الواجبة لغسل الوجه، والمسح من الرأس، ومسح أو غسل القدمين، وطهارة الماء وإباحته ودور اليمين والشمال والنية والموالاة والترتيب في الوضوء وفي بديله التيمم أو الغسل، وشروطهما وتفاصيل الصلاة والصوم والحج والزكاة وعموم الطهارة إلخ...)، كل هذه الأمور وأمثالها تتحول إلى جوامع ونواظم حيوية، وإلى أنظومات للأفكار والقيم والعلائق والمصالح واللغة، وهي قبل أن تتحول بفعل مؤثرات خارجية، إلى حدود فاصلة ومواقع نبذ وإلغاء وإدانة وتغييب للآخرة من وعي الذات، هي شرفات أو مطلات على الآخر، ترفعه إلى مستوى الشرط للذات وجودا ووعيا، كما في أدبيات الصوم والصلاة وصلاة الجماعة خصوصا، وفي الحج ومقاصد الزكاة ومصارفها... هي محددات إيجابية إذا... ومن هنا تأتي الممانعة الدينية والمعاندة والطموح الدائم إلى الغلبة، ومن هنا كان التفاف المسلمين والمسيحيين على الشيوعية، بالإيجاب على السلب، في بناء الأسرة والأفكار المتداولة داخلها والسلوكيات الدينية المتحايلة على القوانين الشيوعية طلبا للأمان والاستمرار في تحقيق الذات والحرية بالالتزام بالحكم الشرعي.

ولم تستطع الشيوعية أن تجمع الشيوعيين، لأن المجرد إذا لم يتنزل، وهو لا يتنزل بالسياسة أو الاقتصاد، يُغلق الأفق على حامله، فلا يصل، ومادية الشيوعية والعلمانية، قامت على مجانبة المطلق واستبعاده فوقعت في مطلقها، أي في تناقضها، والسلب، اللادين، مفتوح على فضاءات لا حصر لها ولا تعريف ولا حد، تتعدد بتعدد الأفراد، حتى تنقلب حرية الفرد قيدا... بينما الأطروحة الموجبة تتيح اجتماعا وتقتضيه، وتفجر داخله جدلا دائما يهدف إلى منع هذا الاجتماع من أن يتحول إلى انتقاص للحرية، والوقف بموجبات الاجتماع على مقدار الضرورة، ضرورة النظم والنظام.

يقول (جان غيتون): «لئن كان القديس توما الأكويني يمارس تأثيرا كبيرا في الفكر المعاصر، فربما يكون مرد ذلك إلى كونه أول من شرع في إقامة تناغم بين ما هو معتقد (cnu) وما هو معلول (su) بين فعل الإيمان وفعل العالم... بكلمة: بين الله والعلم»

العدد 189 - الخميس 13 مارس 2003م الموافق 09 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً