بات من الواضح جيدا ما تود السياسات الأميركية الوصول إليه، بعد أن تعرت من كل الحجب التي كانت تتستر خلفها فيما مضى، فما يحدث في المنطقة يكشف عن الجانب الإمبريالي البغيض لهذه الحضارة، التي تطلق على نفسها (العالم الحر)، وهي كذلك فعلا! فهي حرة في أن تعمل ما تشاء، وكيفما تشاء، وأينما تشاء، ومتى تشاء، من دون أن يقف في وجهها من لا تريد، فهل هناك حرية فوق كل هذا؟!! هكذا أضحى العالم اليوم، يسير نحو هاوية لا يعلم مستقرها إلا الله، إذ يتبجح القطب الأوحد على رؤوس العباد والبلاد.
وفي ضوء التطورات الحالية التي تمر بها منطقتنا، إذ تتسكع القوات الأميركية هنا وهناك، وكأن الأرض كلها بستان مفتوح وبلا أي رقيب، كل ذلك تحت غطاء رقيق جدا، تحاول أن تخفي من خلاله وجهها الكالح البغيض، هذا الغطاء المتمثل في القضاء على الإرهاب تارة، وفي أخذ الحرية للشعوب المظلومة من أنظمتها المستبدة تارة أخرى، وكأن (أميركا ذات القلب الرؤوم) استيقظت فجأة تحت صرخات المظلومين المعدومين المسحوقين، فلم تتحمل ما يجري عليهم من ظلم وقهر واستبداد، فما أرقّها، وما أعظم طيبتها!! وفي الحقيقة يفترض بنا أن نقول: ما أغربها وما أتعسها... فأن يكون الجلاد الأكبر، والفرعون المتسلط على رقاب الشعوب قبل الأنظمة، هو الذي يبشر الشعوب بخلاصها من حال التسلط، في الحين الذي تسحق فيه رؤوس الملايين في طول العالم وعرضه، وفي الحين الذي لا تكف فيه عن نقض المواثيق التي تبرمها مع من تعدهم حلفاء لها، يدعمونها ويؤيدونها، ويقدمون إليها العون والمساعدة من دون أي حياء، حتى إذا ما وصلت إلى ما تروم، ضربت بهم عرض الجدار، وكأن شيئا لم يكن، وذلك لأن المصلحة هي كل ما تريد، وكل ما تحب، وكل ما ترجو، وكل ما تتمنى، وليس غير (المصلحة) وفقط، وما يجري ما هو إلا صراع مصالح، وليس أكثر، ومن أجل هذه المصالح تذل الشعوب، وتسحق حقوقها، بل ويقتل الآلاف منها، من دون أدنى مبرر.
ولنا أن نتأمل ما يجري على الساحة اليوم، هذا الصراع الوحشي من أجل السيطرة على المنابع الحيوية للنفط في العالم عموما وفي المنطقة العربية والإسلامية خصوصا، لنعلم إلى أي مدى تسير الأمور، لنتنبأ بالنتائج قبل حدوثها، وبالتالي نعد لها عدتها، ونحن مدعوون إلى قراءة الواقع ببصيرة نافذة ووعي كبير؛ حتى يتاح لنا التأثير فيما يجري بصورة فعالة، وحتى لا نكون مجرد مراقبين أو محللين أو متفرجين، إذ لا جدوى من كل ذلك، وهذه الدعوة ليست إلى الشعوب من دون الأنظمة أو العكس، بل هي إلى الجميع، لأن تأثير ما يجري غير مقتصر على فئة دون فئة، فالجميع واقع تحت طائلة التأثر.
فالسياسات الأميركية ترمي ببصرها بعيدا، من خلال ما تنسجه من مخططات استعمارية للعالم ككل، ولمنطقتنا بالذات، وخصوصا ونحن نعلم بأن هذه السياسات لم تتولد عن فراغ، ونحن طالما سمعنا بمفكري الغرب، وأدمغته التي ترسم سياساته، تتقيأ بين الفينة والأخرى شيئا من نظرياته الشيطانية، التي لا تمت إلى الحقائق التاريخية والعلمية بصلة، لا من قريب، ولا من بعيد، فمقولة (صراع الحضارات) على سبيل المثال - وهي من المقولات التي ذاع صيتها في السنوات الأخيرة - هي - بلا ريب - أحد المحركات لما نجده من سياسات في واقعنا الراهن، فما لنا ننشغل بالمطارحات الثقافية والفكرية الصرفة، من دون أن نعمل لصنع الواقع والمستقبل شيئا، فالأفكار والنظريات والمناظرات إذا لم يستفد منها أصحاب القرار، في اتخاذ القرارات والقيام بالإجراءات اللازمة، تكون عديمة الجدوى، بل تكون حينها عبثا ومضيعة للوقت والجهد.
أقول، إنه يجب أن نجري مراجعة سريعة وواعية لما يجري، لا بهدف المراجعة وحسب، وإنما من أجل التخطيط والإعداد لمواجهة الاحتمالات كافة، ومن أجل أن نصنع الواقع الذي نريد، ولأننا لا ننتظر حلولا تأتينا من عوالم الرؤيا، ولأن الواقع يصنعه العالمون العاملون، لا المهرطقون المتبجحون. فيجب أن نعي هذه الحقائق جيدا...
أما أميركا، هذا الغول المتغطرس في عالم اليوم، فإنها وإن أحرزت في لحظة من اللحظات بعض الانتصارات، فيجب أن تعلم بأن التاريخ لا يرحم، وسيأتي ذلك اليوم الذي يمرغ فيه أنفها بالتراب، كما يمرغ الآن أنف طاغية العراق...
أما نحن، فيجب أن يكون لنا رأينا الذي يعبر عن حقيقة موقفنا إزاء ما يجري، فإن كان البعض يفرح لما يجري لنظام صدام البعثي الدكتاتوري، فهذا لا يعني أنهم يبتهجون بقدوم القوات الغازية، فلكل حسابه، ويجب على الأميركيين أن يعوا المعادلة جيدا، وأن يضعوا أنفسهم في كفة الميزان ليتعرفوا على وزنهم الحقيقي في ميزان الحضارة؛ لأن الديمقراطية على الطريقة الأميركية لم تثبت صحتها فيما مضى، ولن تكون كذلك فيما سيأتي، لأنها ديمقراطية عوراء وجوفاء، لا ترى إلا بعين واحدة... تتستر بأغطية مهترئة من الخداع المكشوف، والود الكاذب، الذي يخفي وراءه أطنانا من الحقد والكراهية والموت.
من هنا لا يمكن أن نعول عليها مطلقا، ومن يمني نفسه بمثل هكذا ديمقراطية، فإنما يمني نفسه بسراب.
باسم البحراني
القطيف - المملكة العربية السعودية
العدد 220 - الأحد 13 أبريل 2003م الموافق 10 صفر 1424هـ