أشرنا في الحلقة السابقة إلى ما بين ردينة وسمهر والخط من تلازم، وإلى ما بينها أو بينهم جميعا وبين استيراد الرماح وتقويمها من علاقات كثر ذكرها في الشعر الجاهلي، وقلنا - ابتداء - إن ما قاله الرواة والشارحون زاد كثيرا على ما نطق به ظاهر الشعر، واقترحنا منهجا يقوم على استنطاق الشعر مباشرة، لعلّ فيه ما يخرج قارئ الشعر الجاهلي من حيرته بين أن ردينة بلدٌ تصنع فيه الرماح أو تقوَّم وتباع وبين أنها امرأة أو رجل، وحيرته المماثلة بين أن سمهر مثل ردينة هذه: بلد أو امرأة أو رجل. ولقد رأينا - من حيث التبويب المنهجي - أن نقدم البحث في الخط، توطئة للبحث في ردينة وسمهر، وذلك لأسباب:
أولها: أن الشعر الجاهلي ينسب الرماح كثيرا إلى الخط، فهي رماح خطية، بما يعني أمرين: أنها رماح نقلت إليه باعتباره مرفأ سفن الرماح ثم نقلت منه إلى أماكن قُوِّمت فيها، وأنها رماح تقلت إليه وقُوّمت فيه.
وثانيها: ما ذهب إليه أكثر رواة الشعر الجاهلي وشارحوه من أن ردينة وسمهر كانا يقيمان في الخط من البحرين، باعتبارهما حرفيين لا بلدين.
وثالثهما: أن الخط كان مرفأ سفن الرماح، أيّا تكن وجهة هذه الرماح بعد ذلك، أكانت بلدين يحملان اسمي ردينة وسمهر، أم كانا حرفيين يقيمان خارجه.
الخط في المراجع
غير الشعرية
نفترض أن الباحثين من أبناء البحرين قد سبقونا إلى الحديث عن تاريخ الخط وجغرافيته. ومع ذلك فنحن لا نرى ما يمنع أن نمهد لحديث الشعر عن الخط بشيء مما جاء عنها في المراجع غير الشعرية، من دون أن ندّعي قدرة على نقد هذه المراجع، ومن ذلك أننا لا نملك قدرة على تمحيص قول ابن جرير الطبري في تاريخه إن الملك الفارسي أردشير هو الذي بنى الخط، قال الطبري إن أردشير هذا بنى «بالبحرين فسا أردشير وهي مدينة الخط» (تاريخ الطبري، طبعة مكتبة خياط: 1: 820).
ومما قاله الطبري أيضا أن الملك الفارسي سابور ذا الأكتاف «قطع البحر في أصحابه فورد الخط، واستقر في بلاد البحرين يقتل أهلها ولا يقبل فداء ولا يعرج على غنيمة ثم مضى على وجهه فورد هجر...». و«أنه أسكن من بني تغلب من البحرين دارين واسمهما هيج والخط...» (نفسه: 1: 838 - 839).
إلا أننا نطمئن إلى ما جاء في مراجع أخرى، فابن دريد يقرر في «جمهرة اللغة» أن «الخطّ: سيف البحرين وعمان، وإليه ينسب القنا الخطي. وقال بعض أهل اللغة: بل كل سيف خط» (جمهرة اللغة: 1: 106)، ونلاحظ أنه جعل الخط مرفأ لعمان أيضا لا للبحرين وحدها.
ويتضح من شرح أكثر إسهابا لابن منظور أن الشك في حقيقة الرماح الخطية، أهي تصنع في الخط أم تنبت فيه، شك قديم، ينقل ابن منظور عن الليث أن الخط «أرض ينسب إليها الرماح الخطية ...] وهو خط عمان. قال أبو منصور: وذلك السيف كله يسمى الخط، ومن قرى الخط القطيف والعُقَيْر وقطر. قال ابن سيده: والخط سيف البحرين وعمان، وقيل: بل كل سيف خط، وقيل: الخط مرفأ السفن بالبحرين تنسب إليه الرماح. يقال: رمح خطّي، ورماح خَطية وخِطية، على القياس وعلى غير القياس» (لسان العرب: خطط).
ولكن الملاحظ في شرح ابن منظور ونقوله أن الخط يتردد بين أن يكون مرفأ في البحرين أو عمان أو فيهما معا، وبين أنه منطقة كبيرة تعمّ قرى كالقطيف والعقير وقطر! غير أنه يذكر نسبة الرماح الخطية إلى الخط. ولعله يفترض حيرة الحائرين بين أن الرماح ترفأ إلى الخط وبين أنها تنبت فيه، فيضيف: «وليست الخط بمنبتٍ للرماح، ولكنها مرفأ السفن التي تحمل القنا من الهند كما قالوا مسك دارين وليس هنالك مسك، ولكنها مرفأ السفن التي تحمل المِسْكُ من الهند. وقال أبو حنيفة: الخطيّ الرماح، وهو نسبة قد جرى مجرى الاسم العلم، ونسبته إلى الخطّ خط البحرين وإليه ترفأ السفن إذا جاءت من أرض الهند، وليس الخطي الذي هو الرماح من نبات أرض العرب» (لسان العرب: خطط). أفرأيتم كيف أن أبا حنيفة ينفي عن أرض العرب كلها أن الرماح من بناتها؟. في «تاج العروس» ما هو أدق إذ ينفي ذلك عن الخط وحده، قال: «كنسبة الرماح إلى (الخط)، فإنه لا ينبت به، وإنما تجلب من الهند» (تاج العروس: ظفر).
وأغرب من ذلك قول الجوهري في صحاحه إن «الخط موضع باليمامة، وهو خط هجر تنسب إليه الرماح الخطية لأنها تحمل من بلاد الهند فتقوَّم به» (لسان العرب: خطط). فأين حدود البحرين آنذاك؟ وهل كانت تعني البحرين الحالية وقطر وهجر إذا صح أيضا أن الخط هو «خط هجر وإليه تحمل الرماح من بالد الهند» كما نقل الدكتور جواد علي في «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (5: 425) عن «العمدة». (2:233)؟ أيّا ما تكن حقائق التاريخ والجغرافيا، فإن ثمة إجماعا في المصادر غير الشعرية على أن الرماح الخطية التي أكثر الشعر من ذكرها إنما تنسب إلى مرفأ في البحرين، ضاقت حدودها القديمة أو اتسعت، وأنها تنقلها السفن من الهند، ولا تنبت في أرض الخط وحدها، أو لا تنبت في أرض العرب كلها على رأي من رأى ذلك.
الخط في الشعر الجاهلي:
والأدقّ أن نقول: «الخط في الشعر الجاهلي وفي شروحه»، إذ قد يصمت الشعر عن تعيين موضع الخط، فيتزيد الشارحون، فيصيبون أو يخطئون.
ويستوقفنا ابتداء ذكر الخط غير منسوب إليه الرماح، في بيت لسلامة بن جندل، نفهم منه أن الخط أرض خصبة تجاور أرضا ذات حجارة سود، قال سلامة في مفضليات الضبِّي (ص 124):
حتى تُرِكْنا وما تُثْنَى ظَعَائِنُنا
يَأخُذْنَ بينَ سَوَادِ الخَطِّ فاللُّوبِ
وفي شرحه أن «الخط موضع بالبحرين مشرف على البحر. اللوب: جمع لابة أو لوبة، وهي الحَرَّة: الأرض ذات الحجارة السود. يريد أن المرعى اتسع لهن فلا يردهنَّ أحد عن مكان».
والحديث عن خصب الخط وكثرة نخيلها يتكرر في بيت للأعشى، من قصيدة يعاتب فيها بني مرشد وبني جحدر، يقول الأعشى (ص 227 من ديوانه):
فإن تَمْنَعُوا مِنَّا المُشَقَّر والصَّفَا
فإنَّا وَجَدْنَا الخَطَّ جَمّا نخيلُها
وفي شرحه أن «المشقر والصفا مدينتان في البحرين قرب هجر (المشهورة بالتمر) وفيها حصنان قديمان.. الخط جزيرة بالبحرين وهي التي تنسب إليها الرماح»... وهذا شرح يقوِّل البيت ما لم يقله، ويصمت عن بعض ما قاله. وحبذا لو أشار الشارح إلى كثرة النخيل في الخط كما ذكر الأعشى، وصمت عن ذكر الرماح التي لم يذكرها الأعشى في هذا البيت، وما كانت بالشارح حاجة إلى ذلك مادام الأعشى يذكر رماح الخط في مواضع أخرى، يقول (ص111):
أصَابَهُ هِنْدُوانيٌّ فَأَقْصَدَهُ
أو ذابِلٌ من رماحِ الخَطِّ مُعْتَدِلُ
فهذا قول يلائمه أن الشارح: «الخط بلد في البحرين تجلب منها الرماح»، وهذه إشارة منه إلى حركة تصدير الرماح من الخط إلى خارجه، فيما يشير الشارح نفسه إلى حركة استيراد الرماح إلى الخط في شرحه قول الأعشى (ص353)، وإن قال محقق الديوان الدكتور محمد محمد حسين إن القصيدة لم تثبت للأعشى:
تَخَالُ ذوابِلَ الخَطِّيِّ
في حَافَاتِها أَجَمَا
فـ «الخط» عند شارح الديوان: «مرفأ كانت ترسو عليه السفن التي تجلبها». وحسنا فعل هذا الشارح نفسه إذ أشار في موضع آخر إلى أن الرماح كانت تباع في الخط ولا تنبت فيه، وهو شرحه بيت الأعشى (ص255):
وَلَدْنٌ من الخَطِّيِّ فيه أَسِنَّةٌ
ذَخَائِرُ مما سَنَّ أبزى وشَرْعَبُ
فالخطيُّ: «الرمح ينسب إلى الخط، وهو مرفأ للسفن بالبحر كانت تباع به، وليس هو منبتها كما قد يتوهم». ونحن لا نستغرب أن يباع الرمح حيث ترسو به السفن، ولا نستغرب أن تكون صناعة الأسنة في محترفات قريبة من محترفات تقويم الرماح، بدليل قول الأعشى إن الأسنة «ذخائر مما سنّ أبزى وشرعب»، وإن هذه الأسنة أسنة رماح الخط تحديدا.
ولا يعدم الباحث بيت شعر يذكر أن الرماح تحمل في السفن، فهذا النابعة الذبياني لا يفوته ذكر ذلك، وإن لم يعيِّن المرفأ الذي تنتهي إليه السفينة، يقول في حديثه عن ثور وحشيّ (ص216 من ديوانه):
وظَلَّ كَأَنَّهُ بِجَمَادِ وافٍ
بَشِيرُ سفينةٍ يُهْدِي رِمَاحَا
وعند شارح الديوان: «وبشير، يبشرهم بسفينة فيها رماح، وإن عنى قرنه».
ويكثر بعد ذلك ذكر الرماح الخطية، ولكن لا يبرأ شعر الجاهليين من ارتباك الشارحين المتأخرين.
ارتباك الشارحين في «الخط»
لا يتفق شارحو الشعر يذكر الجاهلي على تعيين طبيعة الخط، أهو مرفأ أم جزيرة أم غير ذلك، كما أنهم لا يتفقون على ما إذا كانت الرماح تنبت فيها أم تُرفَاُ إليها. فهذا شارح ديوان عامر بن الطفيل يعتبر الخط جزيرة تنبت الرماح، في قول عامر (ص27 من الديوان):
وأسمَرَّ خَطَّيٍّ وأبيضَ بَاثِرٍ
وزَعْفٍ دِلاَصٍ كَالْغَديرِ المُثَوِّبِ.
ونحن نعذر حين يتوهم الشارح أن الخطيَّ «رمح منسوب إلى الخط وهي جزيرة بالبحرين يقال إنها تنبت عصيّ الرماح»، ولكننا لا نعذر تحريفه شرح الأصمعي الذي اقتبسناه سابقا، فشارح ديوان عامر بن الطفيل يقرأ كلام الأصمعي هكذا: «وقال الأصمعي: ليست بها رماح ولكن سفينة وقعت إليها فيها رماح وأرفئت بها في بعض السنين المتقدمة، فقيل لتلك الرماح الخطية، ثمَّ عَمَّ كُلَّ رمحٍ هذا النسب إلى اليوم»!.
بضربة تحريف ينفي الشارح، مزورا كلام الأصمعي، حقيقتين: حركة الملاحة بالرماح بين مرفأ الخط والهند وغيرها، وعلم العرب بالرماح فكأنهم تعرفوا إليها بمحض الصدفة التي جنحت بالسفينة المزعومة مرة إلى مرفأ الخط.
ويكتفي شارحون آخرون بالقول إن الخط «موضع بالبحرين»، ومنهم شارح قول زهير بن أبي سلمى (ص43 من ديوانه):
لَهُنَّ عليهم عادةُ قد عَرَفْنَها
إذا عُرِّضَ الخَطِّيُّ فوقَ الكَوَاثُبِ
وشارح قول ربيعة بن مقروم (المفضليات، ص376):
وأسْمَرَ خَطِّيٍّ كأنَّ سِنَانَهُ
شِهَابُ غَضا شَيَّعتْهُ فتلَهَّبَا
فيما يعود شارح ديوان زهير إلى اعتبار الخط «جزيرة بالبحرين ترفأ إليها سفن الرماح»، في شرحه بيت زهير (ص115):
وهل يُنْبِتُ الخَطِّيَّ إلاَّ وَشِيجُهُ
وتُغرَسُ إلا في مَنَابِتِها النَّخْلُ
أما شارح الأصمعيات فيذهب إلى أن الخطّ «بلدة»، وهو شرحه بيت العباس بن مرداس (ص104):
فَأُبْنَا وأبْقَى طَعْنُنَا مِنْ رِمَاحِنَا
مَطَارِدَ خَطِّيٍّ وحُمْرا مَدَاعِسَا
ويذهب شارح ديوان الحطيئة إلى أن «الخطية: الرماح، منسوبة إلى الخط، وهو فُرْضَةٌ بالبحر ترفأ إليه السفن»، تعليقا على قول الحطيئة (ص303 و304)
على كُلِّ مَحْبُوكِ المرَاكِلِ سابحٍ
إذا أُشْرِعَتْ للمَوتِ خَطِّيَّةٌ سُمْرُ
ويبلغ الاختلاف منتهاه بين شارحي معلقة عمرو بن كلثوم، ومنها قوله:
نُطَاعِنُ ما تَرَاخى الناسُ عَنَّا
ونَضْرِبُ بالسُّيُوفِ إذَا غُشينا
بسُمرٍ من قَنَا الخَطِّيِّ لُدْنٍ
ذَوَابِلَ أو ببيضٍ يَخْتلينَا
فالزوزني (شرح المعلقات، ص124 - 125) وشارح ديوان عمرو بن كلثوم يتفقان على أن الرماح السمر رماحٌ «لينة من رماح الرجل الخطِّيِّ، يريد سمهرا»، (وهذه أول إشارة تصادفنا إلى أن سمهرا هذا كان يقيم في الخط)، فيما يذهب أبوزيد القرشي في «جمهرة أشعار العرب» (ص77 - 78) إلى أن «الخطيَّ منسوب إلى الخط، وهي قرية على ساحل البحر». وأما الأنباري فيصرح في شرحه المعلقات بأن النسبة إلى الخط، «والخطُّ مرفأ البحرين»
العدد 196 - الخميس 20 مارس 2003م الموافق 16 محرم 1424هـ
موقع الخطية حاليا
تقع الخطية في قطر ولا زالت تسمى بهذا الاسم الى اليوم