العدد 237 - الأربعاء 30 أبريل 2003م الموافق 27 صفر 1424هـ

متى ينتهي خطابنا النهضوي من مرافعاته النكبوية؟

يمكن القول، إن الخطاب العربي المعاصر، وعلى مدى خمسين عاما أو أكثر بقليل، أعني ما بين نكبة 1948 التي شهدت اغتصاب فلسطين، والنكبة الحالية التي تشهد احتلال العراق، لم يمل من دفع مرافعاته النكبوية إن جاز التعبير، إلى الواجهة باستمرار، التي تنشد النكبة والكارثة باعتبارها طريقا إلى النهضة، فعسى أن نستفيد - نحن العرب - من دروس النكبة لنعرف قوانينها وشروط تجاوزها.

الأكثر مأسوية من هذا كله، والذي يمكن اعتباره شاهدا مأسويا على خطاب عربي يمارس مزيدا من الهروب إلى الأمام، ان الخطاب العربي المعاصر جعل من النكبة شرطا للنهضة؟ فلكي ينهض العرب حضاريا لابد من النكبة، وهنا تكمن المفارقة والمأساة في خطاب لا ينفع معه سوى التحليل النفسي، الذي من شأنه أن يكشف لنا عن سر هذه الرؤية السوداوية/ السادية التي تتحكم في خطاب النخبة المثقفة ومرافعاته النكبوية المشدودة بدورها إلى التحليل النفسي في أكثر أشكاله بساطة. هذا ما نلمسه في خطابات نديم البيطار الذي حطّ به الترحال في كندا مستقيلا من التنظير القومي إلى تركي الحمد مرورا ببرهان غليون وجورج طرابيشي وهاشم صالح وآخرين.

كانت نكبة 1948 بمثابة نعمة كما كتب صاحب «الايديولوجيا الانقلابية» وأقصد نديم البيطار، فلكل نكبة طابعها الانقلابي وطبيعتها الثورية ومعناها العميق بالنسبة إلى المجتمع التقليدي كحالة المجتمع العربي، الذي أصبح فجأة مصدرا لكل الشرور والآثام كما حاول أن يقنعنا الخطاب التقدمي العربي، فالنكبة القومية الكبرى ذات مضمون ثوري فعال كما يكتب البيطار، وانها «تخضع من ناحية عامة، لقانون عام يجعلها ذات آثار وتحولات ثورية، فالنكبة التي أصابتنا في فلسطين، بينت أن ردة العرب عليها ستكون ردة ثورية فعالة متكاملة» وتبلغ ذروة المأساة في خطاب البيطار في قوله «علينا أن نركع شاكرين القدر التاريخي الذي أتاح لنا أن نعيش في أدق وأهم مرحلة يمر بها العربي، وأن نشارك في عمل من أكبر الأعمال الانقلابية في التاريخ».

لم تكن ردة فعل العرب على النكبة ردة ثورية فعالة ومتكاملة كما يشتهي البيطار، ولم يتم اكتشاف القوانين الثورية للنكبة، كذلك لم تنتج عن سحر الخطاب المحكوم بمفاهيم الثوروية والانقلابية أية نتيجة. وجاءت النكبة الجديدة، نكبة/ نكسة يونيو/ حزيران 1967 ولم تكن نعمة بل أنها فاقت جميع النعم التي يمكن استخلاصها على حد تعبير عبدالله العروي الذي راح يسخر من تهافت الخطاب الثوروي الانقلابي. وزاد الطين بلة أن النكبة/ الكارثة الجديدة لم تدفع بدورها إلى اكتشاف ما أراده البيطار وغيره، وتوالت الكوارث والنكبات وازدادت حيرة الخطاب العربي المعاصر في تفسير هذه الظاهرة، وتوالت ردود الفعل في ملفوظات هذا الخطاب التي تزامنت مع مزيد من الهزائم والنكبات، التي ابتدأت من جديد مع هزيمة 1982 اجتاحت قوات العدو الصهيوني عاصمة العرب الثقافية وأقصد بيروت، ولم تنته فصولها الدرامية بعد، كما تشهد على ذلك الحرب التي تدور رحاها هذه الأيام والتي يتطلع إليها بعض المثقفين العرب الذين يأتينا صوتهم من أعالي البحار بأنها ستكتب لنا خاتمة الأمس وترسم لنا مستقبل العرب؟

في بحث مطوّل تحت عنوان «نحو تحرير الروح العربية الإسلامية من عقالها» كتبه هاشم صالح ونشرته مجلة «نزوى»، عبّر هاشم صالح عن أمنيته في حدوث كارثة، ولكن كارثة حقيقية هذه المرة، إذ يبدو أن مجموع الكوارث السابقة كانت هامشية، يقول «ينبغي أن تحدث كارثة حقيقة لكي يولد الفكر، لكي يثبت الفكر في الأرض البوار» كارثة من شأنها أن تدفع إلى انهيار - وكأن حرب الخليج الثانية لم تكن كارثة - وهو يشدد على ذلك بقوله: «ينبغي أن يحصل انهيار وأن يتفجر في وجهنا الزلزال» وهو لا يتمنى للكارثة أن تكون على مستوى الأمة فحسب، بل على صعيد المفكرين العرب أيضا، وهو هنا يقيس على التاريخ الأوروبي وعلى تاريخ المثقفين الأوروبيين، وعلى سبيل المثال فلو لم يكن نيتشه مصابا بعاهة العمى والمرض لما فجّر المكبوت من الأسئلة (مساكين هم المثقفون العرب الذين يدعو لهم هاشم صالح بالعمى والعاهات)؟

بعد خمسين عاما على نكبة فلسطين وتوالي النكبات والكوارث، لم نستفد من الدروس ولم نهتدِ إلى القوانين الثورية للنكبة، وها نحن على أبواب اغتصاب جديد لفلسطين وعلى أبواب كوارث حربية لا حدود لها، ومع ذلك لم نستفد من الدروس. يكتب برهان غليون في كتابه «العرب ومعركة السلام»، وبمناسبة مرور خمسين عاما على اغتصاب فلسطين ما يلي: «انتابني شعور بالغم والثورة في الوقت نفسه. شعور بالغم، لأنني وأنا أتأمل الوضع الراهن أجد أننا نحن العرب لم نستفد ولو ذرة واحدة من الدرس الذي كان علينا أن نأخذه من نكبتنا في فلسطين العام 1948. فنحن في الوقت الذي نبكي فيه فلسطين ما قبل 1948 التي ذابت في أيدينا كما يذوب الرمل، نعيش من دون أن يغير هذا في نمط حياتنا ولا في سلوكنا زمن اغتصاب فلسطين ثانية ونشاهدها تضيع أمام أعيننا وتصادر من بين أيدينا، أعني أراضي الضفة الغربية التي قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تحت مظلة التسوية ومفاوضات السلام، تحويلها إلى أرض مفتوحة وتكريسها للاستيطان اليهودي».

مع توالي النكبات والاغتصابات التي تحدث عنها غليون، لم نستطع الخروج من زمن التيه، فمازلنا نتوه في دروب النكبة ولا نستفيد من دروسها كما يرى الكثير من المفكرين، والأمر يحتاج إلى صدمة/ نكبة جديدة. يكتب تركي الحمد في إطار تعليقه على الحرب الحالية التي تدور رحاها الآن: لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر، مثل صدمة كهربائية قوية، أعادت الوعي إلى مجتمعات كانت غائبة عن الدنيا وما جرى فيها خلال قرون من الاستكانة والسكون. وبالمنطق ذاته يمكن القول إن شعارات الحملة الأميركية على العراق قد لا تكون معبرة عن الهدف الحقيقي لمتخذي القرار وراسمي السياسة الخارجية الأميركية في واشنطن وقد تكون من ضمن الأهداف فعلا، ولكن لأنها تخدم مصلحة معينة. وفي النهاية ستبقى المبادئ ومضامينها، وليس من الضروري أن يستمر الوجود الأميركي. ففي أحيان كثيرة، يكون الوضع في هذا البلد أو ذاك، في هذا المجتمع أو ذاك من السكون والجمود وثبات الحال إلى درجة فقدان الحيوية والحياة، بحيث لابد من صدمة كهربائية قوية من خارجه، أي خارج المجتمع العربي، كي تعيد إليه الحياة والفاعلية الذاتية. وما يقودنا إليه الحمد أنه «لابد من صدمات وصدمات» وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.

في تحليله للعصاب الجماعي للمثقفين العرب، راح جورج طرابيشي يميز بين صدمة اللقاء بالغرب التي أحدثتها الحملة الفرنسية والتي أيقظت الوعي، وبين «الرضة» الحزيرانية (1967) التي أيقظت اللاوعي فدفعت بالتالي إلى مزيد من الهزائم وإلى نشدان الكارثة. وعلى رغم أن طرابيشي لم يقنعنا بتحليلاته النفسية التي يبدو أنه في طريق التخلي عنها كما صرّح في أحد مقابلاته، فإن السؤال الذي يطرح في هذا السياق يظل مضاعفا: لماذا لم نستفد من دروس النكبة؟ ومتى كانت النكبة شرطا للنهضة والذي يدفع بالمثقفين العرب إلى تمني المزيد من النكبات؟!

من وجهة نظر غليون فإنه على مدى خمسين عاما لم تكن النخبة مشغولة بالاستفادة من دروس النكبة، بل كان همها هو الحفاظ على امتيازاتها السلطوية وعلى أسبقية الحرب الداخلية على المواجهة الخارجية، وهذا ما يفسر سلوك العرب على مدى خمسين عاما، الذين يظهرون مزيدا من البأس في الداخل لحماية النظام والاستقرار، ومزيدا من الخنوع والانصياع في الخارج. وهنا تكمن المأساة التي لم يهتد إليها ممن يدعون علينا بمزيد من الصدمات والنكبات

العدد 237 - الأربعاء 30 أبريل 2003م الموافق 27 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً