يمثل الشيخ أحمد بن خلف آل عصفور واحدا من أقطاب المنبر الحسيني في البحرين، ارتقى المنبر منذ ما يزيد على 50 عاما. درس في العراق، ومات عنه أبوه وهو في الثانية عشرة، وعاد إلى البحرين ليخطّ طريقه نحو الخطابة المنبرية، وليعمل في القضاء. «الوسط» التقته ليتحدّث عن بداياته وطفولته وتجربته مع المنبر، وأصدقاء المهنة، وملاحظاته على «عاشوراء» الأمس واليوم، وأخيرا... نصائحه للجيل الجديد من الخطباء.
لنبدأ بتاريخ أسرة آل عصفور...
- أسرة آل عصفور كتب عنها الكثير من أهل التراجم، واتخذت التوجه الديني وأخذت على عاتقها المسئولية الدينية في البحرين وإيران والعراق. ففي مدينة كربلاء المقدسة محلتهم مشهورة بعد أن انتقلوا من الجزيرة العربية. كما سكن منهم جماعة في البحرين وكان مقرهم بالدراز، ومنها انتقلوا إلى الشاخورة القريبة من الدراز ليتسنى للعلماء من آل عصفور أن يقوموا بدورهم في نشر العلوم الدينية وليكونوا قريبين من البلاد القديم العاصمة السابقة للبحرين.
* ماذا عن تاريخ الدولة العصفورية؟
- الدولة العصفورية مؤرخة في كتا ب يعرف بـ «سبائك الذهب في أنساب العرب»، وهو كتاب مشهور ينقل عنه أهل التراجم منذ زمن بعيد. وآخر كتاب نقل عن أسرة آل عصفور هو كتاب «نقباء البشر في القرن الرابع عشر» لمؤلفه الحجّة الكبير آغا بزرك الطهراني صاحب «الذريعة في تصانيف الشيعة»، (651 هـ).
الدولة العصفورية نقل عنها صاحب «سبائك الذهب» كما نقل عنها «قبائل العرب»، وأخذت ذلك عن العلامة الشيخ إبراهيم في كتابه المعروف «ماضي البحرين وحاضرها» الذي طبع في الآونة الأخيرة، وكانت عاصمة القبيلة العصفورية بالاحساء والمعروفة بهَجَر، وكانت في حدود سنة الست مئة الهجرية كما هو مذكور عندما التقى الحجاج في مكّة المكرمة سأل بعضهم بعضا عن الذين يتولون الحكم في هذه المناطق المعروفة بالبحرين آنذاك، وهي إجمالا منطقة تمتد من عمان حتى البصرة. وذكروا أن حكمهم امتد إلى الموصل شمال العراق كما في بعض التراجم.
من كرسي الحكم إلى الحوزة
* وكم استمرت دولة آل عصفور؟
- استمرت قرابة المئتي عام... بعدهم جاء العيونيون وهذا هو المشهور من تاريخ حكمهم، وكان يدرس سابقا في مدارس البحرين الاعدادية كما نقلته صحيفة «المجلة»، وانتقالهم من الحكم لخلافٍ جرى بينهم وبين القبائل في المنطقة أدى إلى الابتعاد عن ساحة الحكم إلى ساحة العلم، وانقسموا بعد ذلك إلى اتجاهين: تجارة اللؤلؤ التي تُعرف بها البحرين، والدراسة الدينية بطريقة الحوزات العلمية، وانتشروا في ثلاث مناطق بالبحرين، فدرس بعضهم على يد العلامة الكبير الشيخ سليمان الماحوزي، المشهور آنذاك بالعلوم الروحانية وعلم الكتاب واستاذ مشايخ البحرين وكان مشهورا لدى الأوساط العلمية في العراق وإيران. وانتقل بعضهم من الماحوز ودرسوا على يد جدهم سليمان الماحوزي (جد العلامة الشيخ حسين العصفور لأمه)، وبعد ذلك عاد منهم جماعة إلى الدراز وانتقل العلامة الشيخ حسين بمدرسته إلى الشاخورة موضع مرقده الآن، كما هو مذكور في كتاب «أنوار البدرين» المشتمل على علماء القطيف والاحساء والبحرين.
* كيف كانت بدايتك مع المنبر؟
- بدايتي مع المنبر الحسيني كانت للقيام بمهمة التبليغ وخدمة أهل البيت (ع) عن طريق نشر العلوم الدينية وخدمة الإمام الحسين (ع). في بداية صعودي المنبر كنت أحضر مجالس التعازي، فبدأت بطريق الحديث المعروف عندهم آنذاك بـ «قراءة الفخري»، وهي النسخة التي تعتبر مقدمة للتجمع. وكنت أحضر من أجل هذه المقدمة فأشار علي أحد العلماء وهو استاذي الأول العلامة الشيخ إبراهيم آل مبارك بتحمل هذه الخدمة الجليلة، وقال لي إن صوتي يصلح للخطابة إلى جانب الدراسة عنده، وكان يمتهن الخطابة آنذاك فقرأت معه أول مجلس في عالي في بيت آل عباس المعروفين بالجبيلية. وابتدأت القراءة من ذلك الوقت، ثم انتقلت إلى المنامة ورافقت عمي الثاني بعد الشيخ إبراهيم وهو الشيخ محمد علي آل حميدان وكان آنذاك يتولى القضاء في البحرين بالإضافة إلى مجالسه العامرة، واشتهر الشيخ محمد علي في العاصمة وأصبح يشار إليه بالمجالس الكبيرة والتلاميذ الذين حضروا مجالسه وهم عدد كبير من داخل البحرين وخارجها كالاحساء والقطيف، وأخذوا مهنة الخطابة إلى بلادهم... وبدأت بالطريقة المعروفة عندنا بـ «التصنع» مع الشيخ آل حميدان وكان عمري 18 سنة.
* جاء في كتاب عن سيرة حياتك أن والدك توفي وأنت في العاشرة، فكيف أثّرت وفاة والدك على مسار حياتك؟
- توفي الوالد وأنا في الثانية عشرة من عمري قبل أن امتهن الخطابة وكنت لدى «الكتاتيب» الذين يتولون التعليم في العراق في محال تعرف بـ «التكية»، التي يُتعلّم فيها القرآن بالطريقة التقليدية، وكان الوالد يسكن آنذاك الكاظمية ولديه بيت يملكه في «محلة التل» قرب بيوت العلماء والمراجع في العراق ومنهم آل الخالصي وآل الصدر وآل السيدحيدر (الحيدريون) وآل ياسين، وهؤلاء اشتهروا بالزعامة الدينية في العراق. خلال إقامته هناك
سافر المرحوم والدي إلى كربلاء في شهر رمضان، وتوفي في آخره (29 رمضان) ودفن بالقرب من التل الزينبي عند قبر والدته أم الخير عند الباب المؤدي إلى مرقد حبيب بن مظاهر الأسدي، فأرسلتْ دائرة القاصرين في البحرين التي أسست في ذلك العام إلى الاستيلاء على كل ممتلكات المرحوم الشيخ خلف آل عصفور.
* الإستيلاء على أموال الوالد؟
- لقد أرسل مجلس القاصرين الذي كان يترأسه صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة... وكيلا لإرجاع عائلة الشيخ خلف بعد تصفية الحسابات الموجودة في الكاظمية عن طريق السفارة البريطانية التي تتولى مصالح البحرين آنذاك. فنقلني المرحوم الحاج إبراهيم الحاج كاظم العالي، وهو مختار قرية عالي وشخصية مرموقة فيها، وبصفته عضوا في دائرة أموال القاصرين، نقلني مع العائلة إلى البحرين بعد أن أعطي الصلاحية للتصرف في أملاك الشيخ خلف في العراق ومتروكاته، وبصفته أيضا نظيرا من قبل المرحوم والدي الشيخ خلف على وصيته التي سجلها علماء العراق آنذاك وفي طليعتهم آية الله السيد أبوالحسن الاصفهاني في النجف الأشرف.
* وهل أثرت وفاة الوالد على مسيرة حياتك ودراستك؟
- في ذلك الدور لم أكن أعبأ بالدرس، وانما الوالد تولى وضعي لدى الكتاتيب أولا ثم التزمت تلميذه العلامة الشيخ إبراهيم عند عودتي للبحرين. ومنها التزمت تلميذه البارز الشيخ إبراهيم آل مبارك التزام الظل للشاخص.
* من هم الخطباء الذين أثّروا في حياتك؟
- من الخطباء الذين تأثرت بهم العلامة الشيخ إبراهيم والعلامة آل حميدان... ثم أخذت طريق الاستقلال، وبدأت مجالس محرم مستقلا بحسينية الحياك بالمحرق ومنها إلى المجالس الأخرى داخل البحرين وخارجها.
* المتوقع أنك قرأت في كل مدن وقرى البحرين... أليس كذلك؟
- نعم، أحييت عاشوراء في عالي والمحرق والمنامة وجدحفص والبلاد القديم والدراز وبقية القرى ككرانة والشاخورة وباربار وبني جمرة وغيرها...
* وماذا عن خارج البحرين؟
- ركبت المنبر في البصرة والفاو المطلة على شط العرب والقصبة مما يلي دولة إيران وعبادان والمحمرة (خرمشهر)... وفي الإمارات بعض المجالس، وفي قطر مجتازا كما في مناسبة افتتاح الحسينيات، والاحساء والقطيف.
أصدقاء المنبر
* حدثنا عن أصدقاء المنبر...؟
- أيام دراستي بالنجف الأشرف التقيت مجموعة كبيرة من الخطباء البارزين وقرأت بعض المجالس هناك، وأصبحت الصلة صلة مهنة... وكان لهم مجلس يتداولون فيه ما يتعلق بشئون المنبر، ويعقد المجلس في صحن الحرم الشريف... فحصل بيني وبينهم اتصالٌ في فترة دراستي بالحوزة، وبعدها انتقلت إلى كربلاء ومكثت فيها ستة أشهر للتعرف على علماء وخطباء المدينة...
* ماذا يعني لك الشيخ الوائلي؟
- علاقتي بالوائلي بسبب أن المرحوم الحاج أحمد سلوم كلّفني أن أتكلّم معه ليقرأ في البحرين كواسطة بينه وبين مأتم مدن الذي يتولاه إبراهيم المنصور...
* ماذا عن الملا عطية الجمري؟
- المرحوم الملا عطية اتصالي به اتصال وثيق كاتصالي بالشيخ حميدان لأنهما العَلَمان البارزان في مجال الخطابة.
* عبدالوهاب الكاشي...؟
- التزمت عنده الدراسة في المقدمات كـ «الألفية» لابن مالك و»الشرائع» للمحقّق... فهو استاذي في هذين العِلْمين، وكان معي زميلان يدرسان عنده الشيخ عبدالمجيد العوّامي والسيد جابر الآغائي، من خطباء النجف البارزين...
* أحمد بن رمل...؟
- كان عدد كبير من الخطباء خارج البحرين يأتون مع اقتراب شهر محرم، والبارزون منهم كنت أحضر مجالسهم آنذاك كوني صغير السن، كالخطيب الحاج أحمد بن رمل والشيخ الملا إبراهيم البصري والشيخ خضير الذي كان يقرأ في مأتم القصاب والشيخ داوود الشهير في مأتم مدن، وهم المشاهير الذي يردون من البصرة والنجف وسوق الشيوخ وغيرها، وتستوعبهم البحرين لقلة من يقوم بالخطابة فيها.
* ما المواقف التي تؤثر فيك أكثر وأنت على المنبر؟
- اعتمد على الله قبل كل شيء في ارتقاء منبر أهل البيت (ع)، واعتمد على أقوال أئمة أهل البيت بعد اعتمادي على كتاب الله سبحانه، ثم أحاول أن انقل المنبر إلى جهتين: جهة التثقيف الديني بحسب المستطاع، والتصرف العلمي الذي اعتبره من وحي المنبر، فعند صعودي المنبر ليس لدي ما لدى الآخرين من الخطباء من مقدمة أقدمها، بل أعتبر ذلك من وحي المنبر الحسيني لما له من وحي خاص ينبع من أقوال أهل البيت (ع) ومن هنا يحصل التأثير.
* وهل هناك جوانب معينة من المصية تؤثّر فيك أكثر؟
- المصيبة التي أتأثر بها هي ما آخذه من القصائد في غالب الأوقات والتي قيلت في رثاء أهل البيت على اختلاف القائلين من أول أيام عاشوراء حتى نهايته ممن دخلوا على الأئمة (ع) لتعازي عاشوراء وطلب منهم الأئمة كالباقرين والسجاد الإنشاد. وكانوا إذا أطل عليهم المحرم يطلبون من الشعراء الذين يفدون إليهم آنذاك قائلين مثلا لبعضهم: «رحم الله أباك فلقد كان شاعرنا أهل البيت»... من هنا إذا نسبوا الشاعر إليهم فقد حاز الثواب والأجر الكبير، بالإضافة الى أن الفروع التي تفرّعت من هذا البيت تجري على ما سارت عليه الأوائل. فإذا أحس الشاعر أو الخطيب آنذاك بأن آباءه يحملون الولاء لأهل البيت ويتأثرون بهذه المؤثرات إلى مجالس العاشوراء خشية أن يخرج هذا الشخص عن الخط الذي وضعه الأئمة للتعازي، فإذا انحرف عمّا يطلبه الائمة فقد خالف المسنون عنهم والمأثور منهم، ولذلك قال السجاد (ع) عندما أدخلوه مع عماته في مجلس يزيد: «ائذن لي يا يزيد أن أصعد هذه الأعواد لأقول قولا لله فيه رضا وللأمة فيه خير وصلاح...»، وهذان الخطان هما مطلب أهل البيت (ع) لخطباء المنبر الحسيني أينما كانوا.
عاشوراء الأمس واليوم
كيف كانت أجواء عاشوراء خلال 50 عاما؟
- التطوير لمجالس عاشوراء أخذ يتغير بتغير الظروف والأفراد. المجالس السابقة كأيام أهل البيت ليست كمجالس هذه الأيام، عاشوراء قديما كانت تقتصر على ذكر ما جرى على أهل البيت من مصائب، أما عاشوراء اليوم فقد أصبحت مدرسة سيارة تعطي أكلها كل حين بإذن ربها، بسبب ما بذله الباذلون من العلماء في تطوير المنابر الحسينية، فتنوعت الثمار بتنوع المستمعين إذ إن المستمع اليوم يحمل علما يفوق ما كان عليه في العصور الماضية من توجهات وغيرها من النظريات التي يحملها ابن اليوم.
رابطة الخطباء
* ماذا عن تشكيل رابطة للخطباء أو لتعليم الخطابة... ألا تعتبرون مقصرين في تشكيلها كجيل من الرواد الاوائل؟
- في الآونة الأخيرة وبمبادرة المرحوم الشيخ أحمد مال الله فكّرنا في مجلس الخطباء كمؤسسة تتولى احتياجات الخطيب الدينية والدنيوية، ولكن لم أستطع الالتزام معهم لأسباب، وعندما علمت أنهم لم يأخذوا إجازة تحفّظت على ذلك، ولكن لم أقطع صلتي بهم... فأنا على استعداد للإفادة والاستفادة.
* كلمة أخيرة للجيل الجديد من الخطباء...
يتميز منبر الشيخ أحمد العصفور بالتركيز على ناحية الرثاء والعَبْرة، في تناوله للسيرة الحسينية، وهي مدرسة تقليدية متوارثة، أسهمت في رسوخ تقاليد هذه المدرسة. ولأن المنبر الحسيني جزء من المجتمع، يؤثر ويتأثر بمحيطه، ولأن المجتمع الإسلامي الشيعي يتطلع نحو التجديد كغيره من المجتمعات الإسلامية الأخرى، فقد دخلت رياح التجديد على هذا المنبر خلال العقود الأخيرة وتنوعت مدارسه ومشاربه الفكرية، بين ميلٍ للطرح العلمي أو الفقهي أو السياسي أو التربوي والاجتماعي ... وحتى الروحي.
ويشتهر الشيخ العصفور بتأثيره في جمهور المستمعين، خصوصا في يوم الثامن من المحرم الذي يخصص لاسترجاع ذكرى القاسم بن الحسن، الطفل الذي لم يتجاوز الحلم، والذي شارك في معركة كربلاء، ولكن السيرة الشعبية نقلت للأجيال صورة العريس الذي يدخل على عروسته في يوم عاشوراء، وبعد ساعات يتوجه إلى المعركة ويستشهد بين يدي عمه الحسين (ع). والقصة مثار جدل كبير على المستوى التاريخي، لكنها استطاعت أن تفرض نفسها على المنبر في مثل هذا اليوم من كل عام، ويجري احتفال تمثيلي بإحياء العرس في مجلس يوم الثامن، وهو ما يستدر الكثير الك ثير من الدموع، عندما ينتقل الخيال مع القاسم بين مشهدي العرس والشهادة، في مفارقة مفجعة تبلغ قمة التراجيديا. وفي مثل هذا اليوم، ظلّ الشيخ أحمد العصفور فارسا لا يشق له غبار في وصف هذا العرس المخضب بالدماء
العدد 1605 - السبت 27 يناير 2007م الموافق 08 محرم 1428هـ