لما كان الشعر الشعبي بشقيه "المعتدل" و"البدوي" متحدثا رسميا بضمير الأمة على حد تعبير أحدهم، فإن الضرورة تبدو ملحة لأن يكون للنقد حضوره بما يتناسب
وتغلغل هذا النوع من الشعر في منطقة الخليج. ولن يكون بحثنا ليذهب أكثر عن رقعة الخليج، ذلك أن التجربة الأخرى (الشامية و المصرية) تبدو أكثر عمقا ونضجا وهذا ما سنحاول تبيانه للقارئ الكريم لاحقا.
بيد أنه وجب التفريق ووفقا لمقتضى الاختلاف الإثني والعرقي داخل الدول الست بين الطبقة الشعرية المعتدلة التي أكثر ما تكون حاضرة في البحرين في شقها القروي والمنطقة الشرقية بالمملكة السعودية وتلك البدوية (الفحلة) وهي المسيطرة بطبيعة الحال على تلك الدول عدا المناطق المذكورة آنفا.
إلأ أن التجربة الأخيرة (البدوية) فرضت نفسها و بقوة وهيمنت على الواقع الأدبي المعاش في المنطقة، من هنا يتجلى دور الناقد في تسليط الضوء على هكذا نوع من التجارب لمعالجتها ومحاولة السبر في أغوارها، وهذا ليس تهميشا أو تقليلا من التجربة الأخرى (المعتدلة)، بل إن كلتيهما سيكون لهما شأن أكبر لو انصهرتا في تبني التجربة الإنسانية بحق.
تصدير البداوة من هنا
لا يمكننا إغفال دور الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية كونها أرضا خصبة في تفريخ شعراء فحولة استطاعوا إلى حد بعيد أن يترجموا واقع الحياة الصحراوية بكل اقتدار وبغض النظر عن مساوئ وعيوب التجربة بعيون الناقد إلى واقع أدبي .
نجحت جماعة هذه الطبقة وبفضل موروثاتها الجغرافية و الطبقية أن تلقي بظلالها الرحيم على منطقة الخليج ككل. فلم يكن ليتأتى لمنطقة الخليج أن تبرز بدويا في الشعر لولا ذلك الدور البارز الذي لعبته السعودية في تصدير كل ما هو صحراوي من عادات و أعراف ومن ثم تلقيمه لبقية الأشقاء الخليجيين. هذا التصدير السعودي لاق استحسانا كبيرا لدى فئة كبيرة من دول الخليج، ممن يحسبون على البدو أو هم كذلك، لاسيما و أن هذا التوارث المشترك من شأنه الحفاظ على الهوية القبلية.
من هنا برزت الحاجة إلى تبني أدب دستوري بدوي ثابت يكون شفيعا لهؤلاء الشعراء للتحرك في نطاقه، ومن ثم تصبح أية محاولة للخروج على هذا النهج ضربا من التمرد والمقامرة اللامحسوبة.
محاولة الشعر البدوي الفحل الأول بدت و كأنها معارضة للشاعر الجاهلي الذي كانت موضوعاته محصورة في الأغراض الشعرية (الغزل، المدح، الفخر، الهجاء، الخمرة... الخ) لكن سرعان ما اتخذت تلك المعارضة شكلين رئيسيين، بدأت معالمهما تطفوان على السطح بسبب أو بآخر، ألا وهما: الغزل والمدح.
مستر فحل والدونجوانية
لا تكاد تخلو تجربة الشاعر البدوي من التفتن في هدب الهيفا مرة و"عذروب" العنود في المرة الأخرى. في كل مرة تقع عينيك على صورة الشاعر الفحل بشواربه الغليظة وسحنته الجبلية حتى تتيقن درجة التكثيف النسائي وقد بلغت أقصى درجاتها الفهرينهايتية.
تجد الشاعر البدوي مضطربا و متورطا في علاقاته النسائية، فتارة تدركه عاشقا قد أذله هجران الحبيب وعنته وصده، فلا مناص من الذل حيال ذلك، فيشعرك من حيث لا يدري بتملصه من كبريائه البدوي مكرها:
يا عذولي ... وش تفيد به النصيحه لا تعذل القلب... وجروحه طريه
من يداوي علة الروح الجريحه ومن يسلي دمعة الروح الشقيه
ان شكيت من الهوى قالوا فضيحه وان سكت استنقضوا جرحي عليه
وان نويت البعد ضاقت بي الفسيحه وان بغيت القرب خان القرب فيه
من عذلني في الهوى الله يبيحه ومن عذرني ما حصل مني خطيه
إلا أنه سرعان ما يستفيق من غشاوته ويسترد ماء وجهه المتبقي ليضرم حربا ضروسا لا هوادة فيها:
أنا بدوي... ثوبي على المتن مشقوق ومثل الجبال السمر صبري ثباتي
ومثل النخيل خلقت أنا وهامتي فوق ما عتدت أنا احني قامتي إلا فصلاتي
وإلى إفتخر بأفعال يمناه مخلوق يا بنت انا فعلي شهوده اعداتي
الله خلقني وكلمة الحق بوفوق وملكت الأرض... (وراس مالي... عاصاتي)
ما يستوقف الباحث عند قراءته للتراث الشعري النبطي المعاصر يرى ذلك الحس الدنجواني في حس الشاعر، حتى يخيل إليك أنك بإزاء السيرة الذاتية للزير سالم أو أنك بصدد قراءة الجزء الثالث من مغامرات شهريار النسائية، ذلك الحس النسائي في شعر البدوي له ما يبرره، ونعزوه إلى حاجة البدوي في تضمين ما تقتضيه الحياة البدوية التي عرفت سعيها الدؤوب في التنقل بحثا عن الماء و الكلأ، حتى بدت عدوى هذا التنقل الحركي إلى فسيولوجية الشاعر وتنقله الحثيث نحو النساء. أوقد نذهب إلى تبرير ذلك في حاجة الشاعر إلى أن ينفض غبار البداوة من بشته ليرتدي عباءة التمدن وما يقتضيه ذلك من انفتاح على الجنس الآخر ومعاشرة الخليلات.
"الفحل" والسلطة
تبدو علاقة الشاعر البدوي بالسلطة علاقة المؤمن بخالقه، فلم يحدث ابدا في الشعر العربي المعاصر على الأقل أن نقم الشاعر على سلطته لا من قريب ولا من بعيد، بل على العكس حتى أنك لتفطن أن البدوي لا يكون شاعرا فحلا إلا بعد أن يعلن ولاءه وولاء قبيلته لها وبعدما يتوج السلطان ربا على رأس المحكومين والعباد.
هذه الثقافة المترسبة (الولاء للسلطة) في نفس الشاعر البدوي تجده قد حفظها عن ظهر قلب، فلا يحتاج أبوه أن يذكره ويلقنه ما ينبغي عليه قوله وفعله تجاههما (السلطة والسلطان)، وإعلانه الحرب ضد من يقف عظما في البلعوم.
هذا الولاء المطلق بحسنه وعيبه لم يكن وليد المصادفة، فتكريس ثقافة الخضوع لـ "ولي الأمر" قد تشربت في الشاعر الفحل وأخذ يتشدق بها دينيا، ناسيا أو متناسيا هذا الشاعر أو ذاك أن السلطة مثلما تجتهد فتصيب قادرة في الوقت نفسه أن تجتهد فتخطئ... والأمثلة على ذلك تطول وتطول ويكفيك ملحق متخصص في الشعر النبطي لتتحقق من ذلك.
حياة الشاعر البدوي "المتسلطن" أشبه بجنة وارفة في الغالب الأعم، وعلى النقيض من ذلك تجد حياة الشاعر العربي المعاصر لاحول لها ولا قوة بعد أن نقم على سلطته فأصبح مطاردا من قبلها. تلك هي التجربة الشعرية البدوية التي نشأت تقليدية وظلت تقليدية، على رغم محاولة البعض في إنعاش خلاياها شبه الميتة من خلال الشكل لا من حيث المضمون... إلا ما ندر.
محاولة رأب الصدع بين الشعر البدوي و القصيدة المعاصرة تقتضي تغيير أيديولجية مشتركة تهدف إلى الرقي بالإنسان وجعل الأخير هو محور الحياة من دون تملق لكيان ما على حساب آدميته.
العدد 1641 - الأحد 04 مارس 2007م الموافق 14 صفر 1428هـ