الأحداث التي عصفت بالبحرين ابتداء من ديسمبر/ كانون الأول 1994 استمرت في التصاعد مع فرض الحصار المنزلي على الشيخ عبدالأمير الجمري من 1 حتى 15 أبريل/ نيسان 1995... واختفت كثير من الوجوه في السجون التي امتلأت من كل حدب وصوب، وشعر طرفا النزاع في الساحة البحرينية أن ثمة حاجة لحلٍ يوقف السيل الجارف للأحداث الذي شهد حلقات دموية، وباتت الأمور أقرب إلى الفصل، لأن كلا الطرفين (الحكومة والمعارضة) دفعا ثمنا باهظا لدوامة المواجهات المستمرة.
ويرجع الكثير من المراقبين إقدام السلطات الأمنية على فتح قناة حوار مع قيادات المعارضة بأنه استشعار بخطورة المدى الذي وصلت إليه التجاذبات، لكن الآخرين يرون أن الحوار كان يمثل ورقة أخرى بيد السلطة تستخدمها متى ما استفحلت الأمور أو بدا لهم أنه قد حدث أمر خارج عن الحسبان.
ربما أن قوات الأمن قد بدا لها أنها أحكمت سيطرتها في منتصف 1995، ولكن هذا التصور تبدد لاحقا بعد مقتل نضال حبيب النشابة (18 عاما) بالرصاص في الدراز في 4 مايو/ أيار 1995، ومن ثم سقوط سعيد الإسكافي (16 عاما) قتيلا في السجن في 8 يوليو/ تموز 1995... والحدث الأخير كان مؤلما جدا وتسبب في كسر الهدوء النسبي الذي ساد تلك الفترة، وخرج جيل جديد للمواجه مع قوات الأمن. بعد ذلك بدأت أخبار من السجن تتسرب عن مبادرة للتهدئة الأمنية كتمهيد أولي للدخول في حوارات سياسية.
في منتصف العام 1995 بدا لفترة وجيزة أن الأمور قد هدأت، إذ كان شهر يونيو/ حزيران من أخف الشهور من ناحية الأحداث. كثير من الناشطين المعروفين آنذاك دخلوا السجن، وكثير من سائل الاتصال بين مجموعات المعارضة في الداخل والخارج قد ضربت... فالهواتف العمومية كانت هي الوسيلة اليومية آنذاك للتواصل بين المعارضين في الداخل والخارج، ولكن هذه الهواتف تم حرقها من قبل قوات الأمن على ما يعتقد، لأنها كانت تتضرر منها. ثم ان حرقها كان سيبدو وكأنه جزء من الحرائق التي تتسبب بها الأحداث آنذاك، وإضافة إلى ذلك كان يمكن للمخابرات تتبع من يراسل عبر الفاكس.
الإنترنت والمعارضة
في منتصف العام 1995 كانت المعارضة البحرينية قد طورت قدراتها للدخول في عصر جديد من الاتصالات. في تلك الفترة لم تكن خدمة الإنترنت معروفة بالشكل الذي عليه الوضع حاليا، ولكن الناشطين في الداخل والخارج كانوا على علم واطلاع بأهمية هذه الخدمة الجديدة.
عن هذا الموضوع يقول المتحدث السابق باسم حركة أحرار البحرين منصور الجمري: «بعد أن امتلأت السجون بالناشطين، تقطعت خدمات الهواتف العمومية، وكانت هناك حاجة لمعرفة مجريات الأمور على نحو يومي، وكانت هناك شركة تقدم خدمات إنترنت، وكانت رائدة في مجالها آنذاك وتستخدمه المصارف والمؤسسات الكبيرة اسمها «كمبيو سيرف»، وهذه كانت سابقة لخدمة الإنترنت العامة التي توفرت لاحقا... وقد كان لتوفر هذه الخدمة أهمية كبير، إذ اشترك ناشطون في الداخل والخارج بعدة اشتراكات في هذه الخدمة النوعية، ولذا عادت المعلومات تتدفق وبشكل أكبر بكثير من السابق. ثم ان المعارضة دخلت على الإنترنت في النصف الثاني من 1995 وربما كانت من أوائل المعارضات العربية لتي استخدمت الإنترنت بشكل واسع آنذاك». ويوضح الجمري أن المعارضة من خلال هذا التطور التقني أصبح لديها اطلاع أكثر دقة من خلال شبكة الناشطين في الداخل.
ومن هنا، وجدت الحكومة أن الأمور قد لا تسير لصالحها، لذا اختارت أن تطفئ جذوة الأحداث من خلال مبادرة أمنية يجرى تنفيذها على دفعات من شأنها أن تخفف الاحتقان الذي بلغ مدى قد لا يمكن مجاراته بالقمع فقط.
مبادرة من نافذة أمنية
الساحة في الداخل عادت إلى التوتر في شهر يوليو 1995، وذلك بعد مقتل سعيد الإسكافي داخل السجن، وكانت قوات الأمن تعتقد أن الأمور استتبت، لكن الذين خرجوا في تلك الفترة هم جيل آخر، وطاقات شابة، تشاركهم النساء والرجال من كبار السن، فالانتفاضة كانت شعبية، بمعنى أن جميع الأعمار شاركت فيها، وكانت الاعتقالات تطال عوائل بأكملها، إذ أصبح من المعتاد حينها أن تسمع أن شخصا ما معتقل مع ثلاثة أو خمسة من أبنائه.
مدير الأمن العام ورئيس المخابرات ايان هندرسون في داخل السجن بدأ بفتح حوار مع رموز المعارضة، الشيخ عبدالأمير الجمري والناشط عبدالوهاب حسين والناشط حسن مشيمع، وعدد من علماء الدين الشباب الذين كانوا في السجن.
عن هذه المبادرة يقول منصور الجمري: «إنه في منتصف 1995 بدأت الحكومة تتحرك على خط المعالجة الأمنية لما حدث في الانتفاضة، وأرادتها وزارة الداخلية أن تكون المبادرة عبارة عن إفراجات لمعتقلين على دفعات، وهذه الفكرة تبدو سليمة إذا كانت مقدمة للحل السياسي، ولكنها لم تكن كذلك كما توقعنا منذ البداية، فالمشكلة لم تكن أمنية أساسا وإنما نتجت بسبب مشكلة سياسية، ولكن في هذه الفترة بدأت الإشارة إلى الإفراجات، وبدا أن الحراك الشعبي قد عاد ولكن بزخم مختلف، فقد تغير الحزن إلى فرح ونظمت احتفالات جماهيرية كبرى في عدة مناطق، وبدأت الساحة تعرف مظاهر جديدة لم تشهدها البحرين من قبل».
ويضيف «في لندن، اتصل بنا أحد الأشخاص المعروفين، وقال إنه يحمل رسائل من جهات مسئولة وأعتقد أنه كان يقصد هندرسون، وقال إن الأمور يجب أن تهدأ، وطلب إعطاء فرصة، بما في ذلك عدم استهداف هندرسون شخصيا، وقد اجتمعت مرتين في فترات متباعدة مع هذه الشخصية، وحضر في المرة الثانية معي الشيخ علي سلمان، وكان واضحا منذ اللقاء الأول أن الهم الأساسي ينصب نحو تهدئة أمنية من غير أن تكون مقدمة لحل سياسي».
الالتفاف الشعبي حول رموز المعارضة
في 25 سبتمبر/ أيلول 1995 أفرجت وزارة الداخلية عن الشيخ عبدالأمير الجمري، واحتشدت الجماهير من كل مكان للترحيب به وبجماعة المبادرة الذين خرجوا من السجن في فترات متقاربة، معهم مئات من المعتقلين.
الالتفاف الشعبي على رموز المعارضة تصاعد يوما بعد يوم ولكن الحكومة اعتبرت أن ما حدث قد يحرف مسار الهدف الأمني، لأنه زاد من ثقة الناس بالمعارضة، وبالفعل لم يروق للسلطة أن ترى تعزز موقع الرموز بشكل غير مسبوق، وخصوصا مع تصاعد تأثير قيادة الساحة الإسلامية الشيعية باسم «جماعة المبادرة» التي أرادت الحكومة الاستفادة منها لتهدئة الشارع، ولكن سرعان ما سرى الشك لدى الطرفين بأن أمرا ما سيحدث خلافا للاتفاق الأمني.
هذا الشك أصبح معززا بعدة قرائن، فرغم الاتفاق على التهدئة إلا أن قوات الأمن لاتزال متركزة في عدد من الأحياء السكنية، وهذا كان خلاف الاتفاق الأمني أساسا، بل جرت لاحقا اعتقالات جديدة في صفوف الناشطين والشباب في حين أن المفترض هو خروج المعتقلين وليس اعتقال آخرين. كما أن المحاكمات المخطط لها أن تجري سابقا قد جرت فعلا، ويرجع بعض المراقبين حدوث اختلاف داخل دائرة القرار السياسي حيال التصرف الأمثل مع التداعيات الجديدة التي خلقها الاحتضان الشعبي لقادة المعارضة الخارجين من السجن توا.
في هذه الفترة تحولت المعارضة البحرينية إلى مثلث أضلاعه الثلاثة هي: جماعة «أصحاب المبادرة»، «لجنة العريضة»، ومجموعة لندن المتكونة من حركة أحرار البحرين وعلماء الدين الثلاثة الذين أبعدوا من البحرين واستقروا في لندن منذ مطلع 1995.
كل طرف من الأطراف الفاعلة كان يحاول أن يراجع ما حدث من تطورات ويقارن بينها وبين الأهداف التي أعلنتها العريضة الشعبية وبيانات لندن وما جاء في مبادرة التهدئة الأمنية... وكان الجميع يسعى للإمساك بزمام المسيرة لكيلا تنحرف عن مسارها السلمي. ولكن الأحداث كانت سريعة جدا والحكومة بدت غير قادرة على أن تواكب الحراك الذي يطالب بالحل السياسي، كما أن جماعة المبادرة لم تقدر على تحمل العبء الذي حل عليها، فأعلنت الاعتصام في منزل الشيخ الجمري لمدة عشرة أيام، انتهت في 1 نوفمبر 1995 باحتشاد كبير، وصلت تقديراته آنذاك إلى 85 ألف شخص تجمعوا حول منزل الشيخ الجمري، وتحولت المنطقة إلى بحر من البشر يهتفون بالوقوف مع «جماعة المبادرة» ويطالبون بتفعيل بنود التهدئة الأمنية وفتح الحوار السياسي حول المطالب المطروحة.
الناس بدأت تحتشد في الأيام التالية، ولكن الاعتقالات عادت وازدادت، وجرت عدة حوادث أبرزها في منطقة النعيم، ومع سيطرة المظاهر الأمنية في نهاية العام 1995 فشل مشروع التهدئة الأمنية لأسبابٍ عدة.
من المسئول عن إفشال المبادرة؟
ثمة أساب تجمعت مع بعضها لتشكل نهاية سريعة لقصة المبادرة، ذاك أنها لم تعالج الشقق السياسي الذي كان وقود الاضطرابات الأمنية... هذا ما يراه الكثيرون.
وفي حديث للشيخ علي سلمان مع «الوسط» يشير إلى جملة أسباب أدت إلى الإجهاز على المبادرة، وعلى رأسها الوضع الأمني.
ويوضح الشيخ علي سلمان «بعد الاعتقالات الواسعة، تراجعت العريضة إلى الوراء خطوات في المطلب الشعبي، وهذا من إفرازات الواقع المرير آنذاك، فالتحرك كان على مطلب سياسي، ووجد الناس أن الحكومة أفرطت في الاعتقالات، وأن يعيشوا أشهرا طوالا من الأحكام العرفية فلا يخرجون من بيوتهم بعد الثامنة مساء، وتغرق قرى شارع البديع في الظلام، وكذلك سترة، فهذه الضغوط كان لابد من معالجتها، ولكن لم يكن ذلك على حساب المطلب السياسي، فقد كانت القيادات المعتقلة تصر على أن خروجها لن يوقف سيرها في المطلب الشعبي، وأنها لن تبيع موقفها مقابل الحرية».
في العامين 1995 و1996 تم تشكل ما أسمي بـ «المبادرة»، ومفادها تهدئة الحال الأمنية من أجل الدخول في حوار سياسي، وأن يخرج المعتقلون على دفعات، وآخر دفعة تكون مع الشيخ الجمري، وهذا الحوار كان يدور مع وزير الداخلية وإيان هندرسون، على أن تنهى الحال الأمنية في 25 سبتمبر ليبدأ الحوار السياسي مع جميع القوى السياسية في البحرين.
لم تفِ السلطة بالشقين، فلم تطلق كل المعتقلين، وكذلك التدخل في الحوار السياسي، ما أدى إلى تجدد دوامة الحوادث، فقد كانت هناك رسل من الدولة توجهت إلى مدينة قم للتكلم عن الحل الأمني، ولكنها كانت تتجنب الحديث عن الحل السياسي، فهذا الجانب مسكوت عنه تماما.
لم تمتْ «لجنة العريضة»، ولكن الثقل انتقل منها إلى «لجنة المبادرة»، وتسلط الضوء عليها أكثر، وجرى اعتقالها الثاني في 20 يناير/ كانون الثاني 1996 لتدخل في اعتقالات أخرى لمدة خمس سنوات.
في فترة من الفترات تم تقليب الأمر على أوجهه كافة، هل من الممكن اللجوء إلى السلاح؟ فكان هذا الخيار مرفوضا، ومن يتخذ مبادرة من تلقاء نفسه نحاول الوصول إليه لمحاولة تهدئته حتى لا يفسد الأمر على الانتفاضة، فليس من مصلحتنا «عسكرة الانتفاضة»، فقوتنا تكمن في المطلب السياسي الواضح ذي الطابع السلمي.
اللورد ايفبري
في الخارج كانت المعارضة تنشط بصورة حثيثة، وازدادت في نشاطها، وبرزت على السطح عدة منظمات حقوقية وقفت مع قضية المطالب الشعبية، كما برزت أسماء لشخصيات عديدة، عرف منها بشكل متكرر «اللورد ايريك أيفبري». فكيف توثقت علاقاته مع المعارضة بشكل كبير؟ وفقا لمنصور الجمري فإن قصة اللورد أيفبري مع البحرين بدأت بصفته رئيس المجموعة البرلمانية لحقوق الإنسان وهي مجموعة تطوعية أعضاؤها من مجلسي العموم واللوردات في البرلمان البريطاني، وفي بادئ الأمر تبنت هذه المجموعة الحقوقية قضايا البحرينيين الذين لا يسمح لهم بالدخول في المطار ليعطوا جوازات سفر يرحلون بعدها إلى سورية أو الإمارات أو إلى أي مكان آخر.
وهذا كان أول ما أثار انتباه المجموعة البريطانية، فطلب اللورد أيفبري لقاء مع السفارة البحرينية في لندن، وبعد عدة اتصالات قدّمت السفارة وعودا من الجهات الرسمية بترتيب زيارة إلى اللورد أيفبري في العام 1994، ليتسنى له الذهاب إلى البحرين ليطلع بعينيه عما يحدث فعلا، وأن ما سمعه من منع أشخاص دخول البحرين مجرد أكاذيب تروجها جهات مغرضة.
ولكن ما حدث لاحقا أن السفرة المقررة في نهاية 1994 ألغيت بأعذار اعتبرها اللورد أيفبري واهية ولا تشكل سببا حقيقيا وراء منع الزيارة، وطلب الزيارة الموعودة بإلحاح.
ردا على ذلك أرسلت الحكومة وفدا برئاسة مسئول رفيع المستوى، والتقى هذا الوفد باللورد أيفبري في لندن، وعرض عليه مجريات الوضع في البحرين. وتساءل أيفبري عن قانون أمن الدولة، ورد عليه المبعوث الرسمي بأنه لا يوجد قانون تحت اسم «قانون أمن الدولة»، وقال إنه بحسب قانون البحرين فإن الشخص لا يسجن ثلاث سنوات من دون محاكمة، وان ما سمعه من بعض الجهات إنما هو محض افتراء.
ويشير الجمري إلى أن «اللورد أخذ هذا الرد - أنه لا وجود لشيء اسمه قانون أمن الدولة - وذهب إلى منظمة العفو الدولية وحقوقيين آخرين وطلب منهم تزويده بترجمة لقانون أمن الدولة الذي سمع عنه كثيرا، كما سأل جهات محايدة، وجميع هذه الجهات أكدت له أن قانون أمن الدولة موجود وهو ساري المفعول».
تأثر اللورد أيفبري كثيرا بما سمعه من معلومات مغلوطة من الموفود الرسمي وقام بتحويل غضبه إلى توجيه جزء كبير من عمل المجموعة الحقوقية البرلمانية إلى قضايا البحرين، وخصص أحد الناشطين لمساعدته في رصد ما يحدث في البحرين وهذا الناشط أصدر كتيبا في وقت لاحق باللغة الإنجليزية بعنوانSpeak Together of Freedom, The Present Struggle for Democracy and Human Rights in Bahrain.
ووثق هذا الكتيب أن ما يجري في البحرين من انتهاكات للقانون أمرٌ واقع. اللورد أيفبري اعتبر أن الجهات الرسمية حاولت استغفاله وأنه لا يمكن أن يصمت على ذلك، هذا إضافة إلى أنه ينشط لصالح قضايا حقوقية في إندونيسيا وسيراليون وإيران، وغيرها من المناطق.
المعارضة تستعين بأصدقائها
وفي هذه الفترة نشطت كل مجموعات المعارضة في الخارج، اليسارية والإسلامية على حد سواء، ووظفوا علاقاتهم لصالح الانتفاضة، فاليساريون الذين يمتلكون صداقات في فرنسا مع شخصيات ومنظمات لها ثقلها بدأوا ينشطون من أجل إيصال قضية البحرين، كما أن المعارضة في لندن حصلت على مساندة وتعاطف من قبل عدة منظمات مهمة مثل «منظمة المادة 19» ومنظمة «اندكس لحرية التعبير» ومنظمة العفو الدولية ولجنة حقوق الإنسان التابعة لجمعية المحامين البريطانية، كما توثقت علاقات جماعات المعارضة مع منظمات غير حكومة ومؤسسات أكاديمية وجهات برلمانية وحقوقية وإعلامية، فضلا عن أن النشاط الكبير للمعارضة تركز أساسا في العواصم المؤثرة في العالم ومنها واشنطن ولندن وباريس وجنيف. كما وصل صوت ورأي المعارضة إلى الجهات المؤثرة وأصبحت له الأولوية في الصحف الرئيسية مثل: «الفايننشال تايمز» ومجلة «الاكونوميست» وصحيفة «وول ستريت جورنال»، و «التايمز» و «الاندبندنت» التي كتب فيها روبرت فيسك حلقات كثيرة عن البحرين، كل هذا الزخم الإعلامي أدى إلى أن تصبح المعارضة آنذاك مصدرا موثوقا به ومعتمدا إلى درجة كبيرة لدى جهات مؤثرة كثيرة.
طأفنة الانتفاضة
يرى الشيخ علي سلمان أن السلطة اختارت أن تعيد اللعب على الوتر الطائفي لحصار التحرك الشعبي قائلا: «مارست السلطة سياسة ليست بالجديدة، وهي التركيز الطائفي في سياسة العصا الغليظة حتى تبين أن المطالبة بالبرلمان والدستور هي مطالب شيعية وليست وطنية. وهذا الأمر معروف منذ الوقت المبكر من الثمانينيات عندما بدأت الحال الإسلامية تنشط، والقوى الأمنية إن أرادت الاعتقال خارج هذا الإطار فإنه يكون اعتقالا محدودا، أو التهديد، فلقد أبلغت شخصيات شاركت في العريضة بأن عليها أن تفك ارتباطها بالشيخ الجمري، وقد تكون قناعات البعض تغيرت».
غير أن المحامي عبدالله هاشم يؤكد أن «الشارع كان واعيا بأهمية لجنة العريضة الشعبية وألا يهمّش دورها بفعل الحظوة والتجمعات التي أحاطت بقيادات المبادرة تعبيرا عن الولاء لقيادة المبادرة، فأخذت الأمور تسير في اتجاه أن هذه الانتفاضة شيعية، ويجب أن تكون قيادتها منها، وكانت الأسئلة التي أتت من الشارع لقيادة المبادرة في جامع الإمام الصادق في الدراز، كانت تقول بوجوب عدم إهدار الوحدة الوطنية المتمثلة في لجنة العريضة الشعبية، وكذلك وجوب أن تتمثل وجوه لجنة العريضة في المحاضرات والفعاليات وعدم الانفراد في المسألة».
ويرى هاشم أن الأمور سارت ببعد إسلامي طائفي، فبعد كل الوقفة التي وقفتها لجنة العريضة الشعبية، وخصوصا رموز معينة منها أحمد الشملان الذي كان له دور فاعل لا يستطيع أحد أن يقيده اليوم، ولكن عندما خرجت قيادات المبادرة وأرادت أن تخلق حالا من الوحدة الوطنية، دعت إلى إقامة ندوة مركزية في عالي يشترك فيها كل من الشيخ عبداللطيف المحمود، وعبدالوهاب حسين، ولم يُدعَ أيٌ من الوطنيين الذين وقفوا وقفة صارمة مع العريضة، فكانت النظرة السائدة في ذلك الوقت تتدرج من الطائفة، وإن نزلت فتنزل إلى «المسلمين»، وكأن الوطنيين هم خارج حظيرة الإسلام... هذه الندوة لم تُقم لأن قوات الأمن منعتها، ولكنني أوردها لرمزيتها في إحداث حال الوفاق الوطني، ونظرة «المبادرة» إليه، وهذه من الأخطاء التي وقعت فيها الحركة، وما بقي من لجنة العريضة إلا أن يزورها عبدالوهاب حسين مثلا، أو أن يذكرها في مجلس أو خطبة».
ويرجع هاشم سبب إعادة اعتقال قيادات «المبادرة»، لأنها لم تحقق الشق الأمني المرتجى منها من قبل النظام، فلم يفرج النظام عن كل المعتقلين كما كان متفقا عليه، وبالتالي، وجدت جماعة المبادرة أن الشارع لايزال يغلي، فإما أن تقوده وهو في حال الغليان تلك، وإما أن تنحى، وفي كلتا الحالين، فإنها لا تستطيع الإيفاء بالشروط التي اتفق عليها في السجن.
تسارعت الحوادث مع نهاية 1995، وازداد التواجد الأمني، وعادت الاعتقالات، وفي مطلع العام 1996 اشتدت الأمور كثيرا، وبدا واضحا أن الحكومة اعتبرت نفسها في حل من أي اتفاق مع «جماعة المبادرة».
في 20 يناير 1996 فرضت قوات الأمن الحصار المنزلي مرة أخرى على الشيخ الجمري، وعادت مظاهر الاشتباكات والمصادمات والاعتقالات مرة أخرى للساحة. وفي 21 يناير 1996 أعيد اعتقال الشيخ الجمري وتبدأ مرحلة قاسية من مراحل الانتفاضة لم تشهد لها البحرين مثيلا من قبل
العدد 2251 - الإثنين 03 نوفمبر 2008م الموافق 04 ذي القعدة 1429هـ