البحرين لا تحمل على رقعتها الجغرافية جبالا غير أنها تحمل على رقعتها الاجتماعية جبالا راسيات من قصص الفقر الذي لم ينل من وطنية أصحابه، وولائهم لهذا التراب العربي المسلم، الذين تحدوا الصعاب حبا فيه ولم يتمنوا أبدا أن يعيشوا خارجه ليكونوا في حال أفضل، هؤلاء هم فقراء الوطن الذين «تحسبهم أغنياء من التعفف» فهم أغنياء بعزتهم ووطنيتهم وتضحياتهم كل يوم وهم يتحدون الحرمان من أجل البقاء على أرض وطنهم البحرين.
أولئك المعدمون الذين يعيشون في مقابر تسمى بـ «منازل» وبعض الأحيان بـ «فلل» كما يُدون ذلك في البطاقة الشخصية، هم يعيشون على أرض «نفطية» كما تصفها التقارير الاقتصادية العالمية، وطالما سمع أولئك المعدمون عن ارتفاع أسعار النفط التي بلغت ذروتها من 18 دولارا إلى 70 دولارا قبل أن تتراجع قليلا، كما سمعوا أن الارتفاع حقق فائضا كبيرا في الموازنة العامة وصل بحسب الأرقام الرسمية للدولة في العام 2004 إلى 145 مليون دينار، وارتفع في العام 2005 إلى 382 مليون دينار، وبحسب مراقبين اقتصاديين فإن الفائض بسبب ارتفاع أسعار النفط سيكون أكثر من 400 مليون دينار وبلغ دخل البحرين النفطي بحسب اقتصادي عربي إلى 2.2 مليار دينار غير أنهم «في عافية من ذلك كله»! لم يروا ذلك في واقعهم، كما أن فقرهم ازداد وتهالكت «فللهم» بحسب رواية الجهاز المركزي للإحصاء أكثر مما كانت عليه من التهالك! فهي خرائب لا تقي من الحر فضلا عن البرد! نحن نتحدث عن أناس يعيشون بيننا، عن أناس يعيشون في البحرين بعد 70 عاما من اكتشاف النفط.
نعم في البحرين التي تشيد فيها عشرات المباني الضخمة، في البحرين التي يزداد فيها الغني غنى بينما يزداد الفقير فقرا.
«الوسط» تفتح هذا الملف من منطلق رسالتها الإنسانية والمبدئية والوطنية رافعة صوتهم علها تستطيع أن تغير من حالهم التي أقل ما يوصف أنها مأسوية، غياب للحكومة وغياب للصناديق الخيرية وحال سببها إهمال الدولة وغياب دور الصندوق الخيري.
توجهنا إلى منطقة سترة (مركوبان)... كنا نعلم أن بانتظارنا ألما وحرمانا لا غيرهما غير أننا مهما استعددنا لمواجهة تلك المواقف تبقى إنسانيتنا بداخلنا تتحكم فينا وفي شعورنا لنشعر بمأساة من قمنا بزيارتهم غير أن من كانت «رجوله في الماي البارد غير اللي رجوله في الماي الحار»، فهم يكتوون بنار الجوع والفقر والحرمان والظلم والبطالة، ولسنا إلا أشخاصا نحاول أن نواسيهم ونرفع معاناتهم.
3 شهور من دون كهرباء
تعيش مريم حسن ذات الـ 40 عاما وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة مع شقيقتها أمينة في منزلهما بسترة من دون كهرباء منذ نحو 3 شهور، في انتظار أن تضخ وزارة الكهرباء والماء للمنزل الجديد التيار الكهربائي.
بدت مريم التي تعاني من أمراض عدة هادئة جدا، عندما استقبلت أختها الكبرى أمينة «الوسط» في «حوش» المنزل، لكن ذلك الهدوء كان مؤقتا؛ إذ إن الحال بحسب ما قالته أمينة لا يدوم كثيرا.
جلسنا مع الشقيقتين في فناء المنزل وبدأت أمينة في سرد قصتهما قائلة: «إنني أعيش مع شقيقتي في منزل ورثناه عن والدينا رحمهما الله بعد أن تم توزيعه ما بيننا وأشقائنا الثلاثة»، مضيفة أن «المجلس البلدي للمحافظة الوسطى قام بإعادة بناء المنزل في مدة وصلت إلى 6 شهور، فيما بقينا أنا وأختي في انتظار الانتهاء من البناء في زاوية من المنزل ولم نخرج منه حتى اكتماله».
أمينة تؤكد أنهما صبرتا على تغيرات الجو وتقلباته ما بين الحر والبرد إلى أن انتهى المجلس البلدي من البناء وأصبح المنزل في حلته الجديدة، آسفة من عدم تمكنهما من الاستفادة كليا من المنزل حتى الآن، بسبب عدم وجود الكهرباء والماء.
تدهور الحالة الصحية
في الوقت الذي كانت فيه مريم صامتة وتنظر إلينا أشارت أمينة إلى تقارير علاج مريم وقالت إن «مريم كانت تعاني من تخلف عقلي متوسط الشدة نتيجة لإصابتها بالحمى الدماغية في سن مبكرة، الأمر الذي جعلنا نطلب من وزارة الصحة التدخل في إنقاذها، وفعلا استطعت السفر معها على نفقة وزارة الصحة في العام 1999 إلى لندن وبقينا لمدة تجاوزت الشهر»، مضيفة أنه «أُجريت لمريم عملية جراحية في ذلك الوقت وبدأ وضعها يتحسن، إلا أنه عاد إلى الأسوأ بسبب أن الطبيب الذي عالجها أكد ضرورة مراجعته بعد مدة زمنية محددة في حين أن الوزارة امتنعت من المساعدة في العلاج مرة أخرى».
وذكرت أمينة «أنني لم أتأخر في تقديم رسالة إلى وزيرة الصحة ندى حفاظ، وطلبت منها المساعدة لإيجاد حل للموضوع، لكننا لانزال نعيش الانتظار، لأن أملنا في وجود علاج لها كبير»، لافتة إلى أنها متأكدة من أن شقيقتها ستكون في حال أفضل إذا ما تلقت العلاج المناسب.
على ضوء شمعة
وتؤكد أمينة أنها وأختها المريضة تنامان في «حوش» المنزل في الليل وفي الجو الحار، وأنهما إذا أرادتا الجلوس في المنزل فإنهما تجلسان على ضوء الشمعة، مضيفة أن «منزلنا مقسم إلى عدة أقسام ومن بين الأقسام ما يخص خالي وزوجته، ومنه ما يخص إخوتي وعائلاتهم، وإذا ما استخدمت العائلات الأخرى مكيفاتها فإن الهواء الحار يأتي إلينا، فلا نعلم إلى أين نذهب».
بينما تلفت أمينة إلى أن الخلل الدماغي التي تعاني منه مريم يجعلها تفقد أعصابها وتتشاجر مع الأطفال، فلا تتمكنان من الذهاب والجلوس مع البقية.
أمينة و «أماه»
بحسب أمينة فإن «مريم لا تستطيع أن تنطق بأية كلمات ولديها صعوبة في ذلك، وكل ما تقوله أمينة «أماه» فقط، ولا تمتلك الرغبة في تناول الطعام بقدر ما تتناول الأدوية، بالإضافة إلى أنها غير قادرة على القيام بالتصرفات المالية وإبرام العقود الرسمية وغيرها من الإجراءات القانونية، ودائما ما ترفض الذهاب للطبيب».
إيثار
«أختي التي تصغرني بنحو 13 عاما يتيمة، ولا يوجد أحد لها سواي، فكيف تريدينني أن أتزوج وأتركها»، بهذه الكلمات أجابت مريم عندما سألتها هل أنت متزوجة لتجيب: كلا، فعدت وسألتها ولماذا لم تتزوجي؟ لتقول: «لم أتزوج من أجل مريم؛ إذ إن الزواج مسئولية، فلم أرغب في ذلك، وفضلت البقاء مع أختي... كيف أذهب وألزم نفسي بالتزامات أخرى وأنا أعرف أن لدي مسئولية كبيرة، لا تعلمين كم أشعر بالسعادة عندما أرى مريم أكلت ونامت».
مطالب أم حقوق؟
قبيل رحيلنا عن منزل أمينة ومريم، كشفت أمينة عن شعر أختها الصغرى الذي بدا مليئا بالشيب وكأنها امرأة في الستين من عمرها، مؤكدة في ردها لسؤال «الوسط» عن مطالبها قائلة: «إن مطالبها تتمثل في أن يعطي المجلس البلدي ورقة «إجازة البناء»، وأن تضخ وزارة الكهرباء والماء الكهرباء في المنزل».
فقلت لها وماذا أيضا؟ قالت: أريد 3 مكيفات للغرفة والصالة والمطبخ، وثلاجة (وهي تشير إلى الثلاجة الموضوعة في الفناء) لأننا نستخدم ثلاجة عائلة أخي، وغسالة لأنني أغسل الملابس على يدي، لافتة إلى أنهما تحصلان على مبلغ 120 دينارا من وزارة التنمية الاجتماعية، مبدية عن سعادتها من أن أشقاءها يدفعون عنها فواتير الكهرباء
العدد 1813 - الخميس 23 أغسطس 2007م الموافق 09 شعبان 1428هـ