تحدث خطيب جامع عالي الكبير الشيخ ناصر العصفور في خطبته أمس (الجمعة) عن ملكة التقوى وآثارها ونتائجها النفسية والروحية والتربوية على النفس الإنسانية، وقال العصفور إنه بملاحظة الآيات الكريمة التي تكفلت ببيان الهدف من تشريع الأحكام والسنن والشرائع الدينية، أن الغرض إنما هو تحصين ملكة التقوى عند الإنسان، بقوله سبحانه وتعالى في نهاية الآيات «لعلكم تتقون»، كما بينت الآيات أن التقوى هي الملاك لقبول الأعمال بقوله تعالى: «إنما يتقبل الله من المتقين» (المائدة:27).
وأشار العصفور إلى أن من نتائج التقوى أنها تعطي الإنسان القدرة على مواجهة المشكلات والصعاب ومقارعة مصاعب الحياة كما قال تعالى: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» (الطلاق:20)، وقوله تعالى: «ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرى» (الطلاق:4)، ولو أمعنا النظر في واقع حياة البشر لوجدنا أن كثيرا من المشكلات والآلام التي تصيب الإنسان وتعترض حياته إنما هي نتيجة لأعماله وأفعاله وسلوكه بخروجه عن خط التقوى ولما تنطوي عليه نفسه من صفات سيئة ورغبات جامحة من غلبة الأهواء وسوء الطباع والأطماع التي لا تقف عند حد.
وذكر العصفور أن ما تعانيه المجتمعات البشرية اليوم من قلق واضطراب وفتن وحروب وصراعات ما هي إلا نتيجة سوء تصرف الإنسان واستبداده وطغيان المادة في حياته واستشراء الظلم والفساد في جميع مفاصل حياة هذا الإنسان. وقد بين الله تعالى أنه لا طريق لحماية الإنسان من كل الأخطار ولا سبيل له للارتقاء الحقيقي والبناء الواقعي إلا على أساس من تقوى الله وعبادته وطاعته، «يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون» (البقرة:21)، فالعبادات والطاعات من واجبات إنما هي وصلة ووسيلة لحصول الإنسان على ملكة التقوى وتحقق العبودية الحقيقية لله، فالتقوى هي الثمرة التي يجنيها الإنسان من ممارسته للعبادة والطاعة، ومن المهم جدا الالتفات إلى ظواهر العبادات ومظاهر الطاعات وخصوصا ذات البعد الاجتماعي التي تمثل الشعائر الإلهية كما قال سبحانه وتعالى: «ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب» (الحج:22)، فالشعائر إنما هي علامات ودلائل وقد عبر عن أعمال الحج ومناسكه بأنها من شعائره سبحانه «إن الصفا والمروة «، وقوله «والبدن جعلناها لكم من شعائر الله» (الحج: 36).
وأوضح العصفور أن الشعائر تشمل جميع الأعمال الدينية التي يستحضر الإنسان من خلالها عظمة الله وحكمته، وأن في إقامتها وتعظيمها دليل على تقوى القلوب، ولكن الأهم في ذلك هو أن لا نغفل عن حقيقة وهي أن لا نستغرق في مظاهر الشعائر وأشكالها ونقف عند حدودها ونغفل عن حقائقها وجوهرها، وما ينبغي أن نتحصل عليه منها من معانٍ روحية ومعنوية وتربوية وما ينعكس من خلالها على قلب الإنسان وروحيته ومشاعره، وإلا فإن هذه الشعائر ستتحول من كونها وسائل إلى أهداف وغايات ولهذا فإن القرآن الكريم حينما يتحدث عن الأضحية والهدي في الحج يعبر عنها بأنها من الشعائر «والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير»، والبدن جمع بدَنَة وهي الناقلة التي تنحر يوم العيد في منى، فهي شعيرة دينية ولكنه تعالى يقول «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم» (الحج:37)، فالله سبحانه جل شأنه ليس بحاجة إلى لحوم هذه الأضاحي ولا لغيرها فهو منزه عن الجسمانية والاحتياج ولكنه يبين الغايات من هذه الشعيرة بقوله تعالى «ولكن يناله التقوى منكم». فالهدف هو أن نجتاز مراحل ومراتب التقوى لتحصيل الكمال الإنساني فالأضحية التي يقدمها الحاج كمنسك تصاحبها صفة معنوية وهي تحصيل القرب من الله تعالى بالإضافة إلى الجنبة الإنسانية وهي إطعام المحتاجين والفقراء والمعوزين «فكلوا منها واطعموا القانع والمعتر»، وقد فسروا القانع بالفقير الذي يقنع بما يعطى ويرضى به، والمعتر هو الفقير الذي يسأل ويطالب الآخرين ولا يقنع وقد ذكرت المصادر الروائية أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا الحيوان يلطخون جدار الكعبة من دماء الأضاحي فبين الله تعالى إن الغاية من الأضحية هو أن يصل الإنسان إلى مرحلة النقوى والكمال الإنساني من خلال التقرب إليه، فالأضحية تعلم الإنسان معنى الإيثار والبذل والعطاء ومقاومة حالة الشح والحرص، فهي من جهة تشكل جنبة من التكافل الاجتماعي، وإن بعض المظاهر التي يمارسها بعض الناس عندما يقومون بذبح الحيوان وإسالة الدم على أساسات البيت الجديد أو أمام عجلات السيارة الجديدة أو ما شابه هي من الاعتقادات الخاطئة والخرافات التي لا أساس لها من الدين والشرع، ويجب التنبيه إليها ومحاربتها، فإذا أراد الإنسان أن يدفع الله عنه السوء والبلاء فليتصدق على الفقراء والمحتاجين، وإذا أراد أن يذبح حيوان فليذبح بقصد التقرب إلى الله بالتصدق بلحم الحيوان إلى الفقراء وليس الهدف هو إراقة الدم بحد ذاته بحيث يكون مقصودا في نفسه فإن ذلك من معتقدات وأعمال الجاهلية.
وأكد العصفور أهمية الاستفادة المثلى من لحوم الأضاحي في الحج بحيث لا تذهب هباء أو تلقى في العراء أو تدفن من غير استفادة منها فإن ذلك مضاف إلى كونه إسرافا وتبذيرا هو خلاف حكمة التشريع الإلهي لهذه الشعيرة، فإذا كان هناك تقصير أو قصور فإنما هو من الإنسان نفسه وليس قصورا في التشريع، وخصوصا أننا في هذا العصر الذي نمتلك فيه الوسائل الحديثة والتقنية العصرية التي وفرت الجهد والوقت بحيث يمكن استيعاب هذه الأعداد الكبيرة من الأضاحي بشكل سليم، والآن هناك مؤسسات تعمل في هذا الاتجاه الصحيح وتصدر هذه اللحوم إلى عدة دول يستفيد منها الكثير من الفقراء. كما توجد مشروعات من هذا القبيل من مملكة البحرين وإن كانت في بداياتها إذ بادر مجموعة من المؤمنين بالقيام بهذه المهمة بالاتفاق مع الحجاج وحملات الحج البحرينية في تسلم الذبائح وإيصالها إلى البحرين بالتنسيق مع الجهات المختصة هناك، ثم توزع على الصناديق الخيرية في البحرين، وهذا عمل يشكرون عليه وهي بادرة طيبة ينبغي أن تلقى التشجيع والمساندة وأن يتعاون جميع الحجاج البحرينيين مع هذا المشروع النافع.
العدد 2269 - الجمعة 21 نوفمبر 2008م الموافق 22 ذي القعدة 1429هـ