طبيب بلا عيادة... وعيادة بلا عقاقير ولا أدوية... لا تراه المرضى ولكن ترى هلاله وتسمع آياته... وترى فضائله ومكارمه التي شفى الناس عليها وهي هائمة وذائبة في حبه، وتتمنى أن يبقى لها طيلة الدهر... هكذا يسمونه الناس! قصدته أكثر من مرة فلم أستطع وصرت أسيرة للكآبة، وخصوصا عندما تزداد أعراضها عندي. لجأت إلى الوصفات العشبية من زميلاتي في العمل وسافرت إلى أقصى البلدان وزرت غالبية العيادات ولكنني لم أستفد شيئا! وبت حائرة في أمري، أما والدتي فكانت تقول لي دائما وصفتها المعروفة: «يا حبيبتي عليك بتقوى الله وطاعته فهو العلاج الوحيد»!
عبارات تكررت على مسامعي في كل مرة تنتابني الكآبة ولا أدري ما دخلها وطاعة الله... نعم مازلت أتذكرها لأنها تركز على طاعة الله وعدم عصيانه إلى أن قاربت السبعين! وهي تتمتع بصحة الشباب وفي كل مرة نشكو لها أمراضنا كانت تقول عبارتها المشهورة «يا حبايبي... يا أنواري، المشكلة ليست في مرضكم البدني إنما المشكلة في قلوبكم ونفسياتكم»!
إنني أعمل سكرتيرة مدير فرع لأحد المصارف، وبراتب مغرٍ جدا، إذ يتطلب عملي مقابلة كبار مستشاري الشركات وتبادل عبارات المجاملة معهم وتوزيع الابتسامات والجلوس وتلبية دعوات العشاء احتفاء بعقد الصفقات والمشروعات التجارية لصالح المصرف! ووالدتي تعيش معنا وهي على قدر كبير من الورع والتقوى ويسميها أهالي الحارة بـ (الشيخة الحاجة أم هاني)، ولكثرة ورعها وحبها لله تصوم طوال العام.
ولكنها فارقتنا بعدما يئست من نصحها لنا... بل فارقت الحارة كلها في ليلة باردة من أفضل الليالي وفي شهر من أفضل الشهور، كما يسميها أهالي الحارة إحدى ليال القدر (ليلة 19) من العام الماضي! عندما كانت تناجي ربها حتى الفجر وفي الليلة نفسها التي عدت مع زوجي من حفلة (التعارف) السنوية الممتعة التي يقيمها المصرف لموظفيه الكبار والأجانب إذ وجدت غرفتها مظلمة وهي ليست على عادتها، وقطتي جالسة أمام باب غرفتها كئيبة حزينة مضربة حتى عن عشائها، عند ذلك أيقنت أن في الأمر شيئا... هرعت إليها مسرعة!
طرقت الباب فلم أسمع جوابا!
ناديتها... أماه حبيبتي نور عيني ردي علي، فلم ترد!
دخلت عليها ورفعت يدها فوجدتها كالخشبة اليابسة مرمية على سجادتها! عند ذلك أيقنت أن روحها فارقت الحياة... صحت بأعلى صوتي (أماه) رحلتي عني وتركتيني!
نعم، رحلت في تلك الليلة بعد أن ودعت ربها بآيات من الذكر الحكيم وبعض الأدعية المأثورة، تاركة زاد الدنيا لي (سحورها وكوب اللبن)، بديلا عن الأطباق الفرنسية المغرمة بها، لعله يغيرني وينقلني من حالتي التي أنا فيها. لكنها رحلت للقاء ربها وحبيبها مباشرة في هذا الشهر الكريم، وأي حبيب هذا إنه قرة عينها ولب فؤادها... أخي هاني الذي استشهد علي يد قناص في يوم من أيام قمع المطالبات الوطنية، التي استشهد فيه الكثير من الشبان، ومن منذ ذلك اليوم وصورته لم تفارقها أبدا، لتتركني في صراع مع النفس الأمارة بالسوء وكثرة المغريات التي لا تنضب أبدا.
هذه بداية ونهاية قصتي... إنني وبصراحة أعيش مشكلة خاصة مع نفسي منذ أن فهمت الحياة ووجدت المغريات، فالسهر واقتناء أشهر ملابس الموضة والتزين وقبول هدايا المديرين اقصد «رشاويهم» والسفر معهم من أهم اهتماماتي ولا أستطيع مقاومة ذلك! ومازلت أعاني منها وخصوصا بعد رحيل والدتي التي كانت تنصحني وتقف معي، ولكنني اليوم أسيرة لها، أنكوي بنيران الخزي والعار، وبسببها وصلت مشكلتي وفضيحتي إلى علم ابني الشاب العليل البريء ذي 15 ربيعا ولذي تربى علي يد أمي ولكنه عجز من نصحي بالإقلاع عن هذه السلوكيات.
مسكين... في أحد الليالي ظل ينتظرني حتى الفجر إلى أن يأس ونام، ولكنه في الليلة الفائتة قاوم النوم ليوصل إلي رسالته البريئة:
«يا أماه إلى متى وأنت على هذه الحال، لماذا لا أراك؟ الكل بات يعرف أمرك بمن فيهم أهالي الحارة والجيران، كلما رأوني عائدا إلى البيت أو خارجا إلى المدرسة أسمع تمتماتهم فيما بينهم، ونظراتهم لي لو أنطقها الله لي لسمعت أنك المقصودة!
أمي أرجوك اقلعي عن هذه العادات وعودي إلى ربك وإلى بيتك»... قالها ودموعه تتسابق إلى وجنتيه، ماسكا يدي ويده الأخرى حاملة كتاب الله المفضل لديه إلى أن نام واستراح.
مسكين ولدي، أظنه سيعجز مثل أمي وسيدفع الثمن غاليا بدلا مني!
في الصباح وكعادته عندما تأخر عن طابور المدرسة بعد أن وبخه مشرفه الاجتماعي قال له: لقد سمعت الكثير عنك من قبل مدرسيك وخصوصا عن ذكائك ومواظبتك وحبك للمدرسة ولكن الآن أرى العكس! والعكس هو الصحيح، أي التأخر في الحضور وفي نتائجك وفي سلوكك! قل ما مشكلتك؟
وهنا سكت سامي ولم ينطق ولا بكلمة واحدة! فتعجب الأستاذ وأعاد عليه السوأل، وفي المرة الثالثة خرج من صمته وقال، ولكن بصرخة عالية خرجت من فمه، لو سمعها أسد لفر من عرينه!
«إنها أمي... يا أستاذ! نعم المشكلة تكمن في أمي»... تعجب الأستاذ من كلامه وجمد في مكانه من شدة الصرخة محاولا أن يعتدل في كرسيه ولم يسعفه إلا فرّاش المدرسة داخلا عليه: كل الطلاب والأساتذة خرجوا من المدرسة ماعدا أنت مع هذا الطالب الفاشل!
عاد ابني من مدرسته كئيبا حزينا ونام حتى المغرب وهو في أسوأ حالاته ولم يستيقظ إلا على صوت أذان المغرب الخافت مناديا (حي على الصلاة) في الوقت الذي راح سامي يتمتم وراءه (وأية صلاة هذه ومن من الشباب من يصلي اليوم)؟! بل قل حيّ على الفساد! نعم أبي لا يصلي ووالدتي لا تصلي وغالبية شبان الحارة لا يصلون، والأسوأ أمي التي لم تقلع عن عاداتها وسلوكها بعد! ربي ساعدني قل لي ماذا أفعل مع والدتي وخصوصا بعد أن وصل (السيل الزبا) خبرها إلى المدرسة!
ساعات مضت وهو يفكر تارة، وأخرى يتقلب على فراشه من شدة الآلام النفسية التي تنتابه إلى أن فاجأه رنين عقرب الساعة معلنا تمام الساعة الثانية عشرة ليلا وأمه لم تعد بعد كعادتها من سهرتها! وفجأة صوتها يصل إلى أسماعه تناديه، هل تعشيت يا بني؟ فلم يجبها، ثم دخلت عليه قائلة لماذا لا ترد علي؟ وكيف أرد عليك ولم أسمعك! ماذا! لم تسمعني بعد! نعم لم أسمعك لأنني بت أوصف بالطالب الفاشل الأصم! ماذا أفعل لكما يا أمي؟ هل أترك المدرسة وأجلس في البيت أتأمل مشكلتكما وخصوصا أنت! كيف وصلت إلى هذه الحال؟! (تسهرين حتى الفجر... وتجالسين الأجانب... ولا تصومين!) رباه أطلب منك العفو والرحمة... نعم أطلب العفو والمغفرة والهداية لكما والشفاء لي.
وهنا ساد الغرفة صمت رهيب... بعد كشف الأوراق! ولكنه ما لبث أن عاتب ضميره قائلا في نفسه: رباه كيف تجرأت على أمي! كيف خرجت هذه الكلمات من فمي! ولكن أمه سبقته بصرخة ممزوجة بالبكاء: (كيف تتجرأ على أمك؟! ومن حرضك علي)!
فرد عليها أيضا بلطف، وكيف تتجرئين أنت على الله وعلى كتاب الله وعلى شهر الله؟!
أرجوك يا أمي لم أعد أطيق الحياة ولا العيش معكما، وأعتقد أنه ليس لي مكان هنا، ثم عاد الهدوء مرة ثانية بعد الجولة الأولى... فعاد وقطعه بالبكاء والنحيب وهو يقول «الموت أفضل من البقاء معكما»! فصرخت أمه أيضا مواسية ابنها باكية موقنة أنها مخطئة في حقه، بل ومذنبة في حق ربها، فأسرعت إليه وضمته بين ذراعيها كما كانت أمها تضمها وهي طفلة قائلة:
«ولدي وقرة عيني... يا ملاكي الوحيد، إنني آسفة فلم يبق لي في الحياة إلا أنت». لحظة مرت ونحن على هذه الحال نبكي، ثم توقفت لأمسح دموعي، وقلت نعم، وأنا أعتقد أنه آن الأوان كي أتوقف ولابد من وضع حد لحياتي هذه... ولكن، قل كيف السبيل إلى ذلك؟
قراءة كتاب الله والقيام للصلاة والصيام في الشهر الكريم... رد عليها بعبارات مملوءة حسرة وندم.
ولكن، قل كيف أتجرأ وأدخل عليهم وأنا في هذه الحال!
بالتوبة... وفي هذه الليلة يا أمي العزيزة وفي هذه الساعة وقبل فوات الفرص والعروض وقبل أذان الفجر... ادخلي معي إلى عيادته من دون موعد... ادخلي بقلب صاف ونية حسنة واعرضي مشكلتك وسيصف لك العلاج من دون أن تريه ومن دون أن يعطيك أية عقاقير... وأية عيادة هذه يا سامي؟ إنها عيادة الليلة السابعة والعشرين من ليالي القدر. الليلة التي ينزل فيها الله سبحانه وتعالى وصفاته الطبية ومنحه وعطاياه المالية فيشفي المرضى ويقضي حوائج المحتاجين ويقبل توبة المذنبين ويمنح الحسنات للمحسنين ويغيث المستغيثين.
عودي إلى ربك وتوبي إليه توبة نصوحة واستغفري لذنبك وانزعي عنك لباس الذل والإهانة والميوعة، والبسي لباس العزة والكرامة وصلي صلاة القدر، وغدا قومي صائمة عفيفة إذا شاء لك الحياة أو الموت. وهنا سكت قليلا وقال بصوت خافت: يا أمي إذا بقيت للصباح معك فقولي الحمد لله على الهداية والسلامة، وإذا وجدتني غائبا عنك فقولي «أمانة ردت ووديعة استرجعت» فأنا والله اشتقت إلى جدتي وإلى إنسانيتها، وإلى خالي هاني وحبه لله! وهنا عرفت أن ساعة الفراق قد دنت فأجهشت بالبكاء والنحيب ثم قالت: لا تقل هذا يا ولدي إذ فطرت قلبي فلم أعد أستطيع تحمل فراق أمي فكيف أتحمل فراقك!
ثم طأطأ برأسه وسكت، ثم عاد وقال «قولي لأبي أن يسامحني»... ثم رفع رأسه ثانية وقال «الوداع يا أمي... الوداع يا قرة عيني... الآن اطمأننت عليك وعلى استقامتك وعلى صومك». ثم أغمض عينيه وغفا طويلا عني... فصرخت صرخت عالية وعرفت أنه رحل عني بعيدا... بعيدا إذ لن أراه بعد اليوم أبدا... لن أسمع صوت قرآنه في غرفته وهو يخترق زوايا البيت... لن أسمع صلاته في جوف الليل وأنا عائدة من سهرتي! لن أسمع أنينه وآلامه! ثم أفقت من نومي الطويل وقمت لربي وصليت ليلة القدر حتى أذان الفجر... ثم صمت!
مهدي خليل
العدد 1838 - الإثنين 17 سبتمبر 2007م الموافق 05 رمضان 1428هـ