العدد 1904 - الخميس 22 نوفمبر 2007م الموافق 12 ذي القعدة 1428هـ

ولاية الفقيه: الأصل عدم ولاية أحد على أحد (1)

تطرق الفقهاء في بحوثهم الفقهية إلى مسألة ولاية الفقيه في إطار البحث عن الأحوال الشخصية، وفقه المعاملات المشتمل على الطلاق، والزواج، والإرث، والوصايا، والعقود التجارية، وقد استخرج الفقهاء من النصوص الشرعية مجموعة من الشروط المعتبرة في نفوذ المعاملة وترتيب الآثار المقصودة عليها.

وبعض هذه الشروط يعود إلى أهلية المتعاقدين وبعضها يرجع إلى العقد والصيغة اللفظية المعتمدة في عملية النقل والانتقال والزواج والطلاق وغيرهما والبعض الآخر من الشروط يعود الى الشيء الذي يقع العقد عليه.

وفي ما يعود إلى أهلية المتعاقدين فقد ذكر الفقهاء اعتبار جملة من الامور منها البلوغ والعقل والرشد وهي ترتبط باكتمال الشخصية الحقوقية للفرد وصيرورته مؤهلا لترتيب الآثار على أقواله وأفعاله والتزاماته في نظر العرف والعقلاء والذي اعتمدته الشريعة وأقرته في نصوص كثيرة منها: «الناس مسلطون على أموالهم» و»الناس مسلطون على أنفسهم»، وغيرها من النصوص الدالة على إمضاء المعاملات والعقود الصادرة عن العقلاء بالإرادة والاختيار. وإمضاء المعاملة ونفوذها من الامور التي تقتضيها سلطنة الشخص على نفسه وأمواله.

وقد لاحظ الفقهاء فقدان الأهلية في بعض الحالات لسبب من الأسباب كالغياب والصغر واليتم والجنون والسفه وعدم الرشد وغير ذلك ما أوجب البحث عن عناصر اخرى بديلة لنفوذ التصرفات والمعاملات في تلك الحالات التي تكون الحاجة فيها قائمة لإجرائها. فماذا يصنع الصغير بأمواله؟ وماذا يصنع اليتيم إن كان يملك المال ومعاملته غير نافذة؟ وماذا تصنع المرأة التي غاب عنها زوجها وفقدت آثاره والمفروض أن طلاقها منحصر بيد زوجها؟ ومن المسئول عن إدارة الأوقاف العامة وغيرها من الأمور التي لا بد من القيام بها وحصولها دفعا لمفسدة أو حرصا على مصلحة ونظما للأمر.

فمن هو الذي يتولى القيام بهذه المهمة وأمثالها عند فقدان الأهلية؟

فبحث الفقهاء عن أولياء العقد في أمثال تلك الحالات والأوضاع وذكروا ولاية الأب والجد على الصغير والوصي على اليتيم وولاية عدول المؤمنين للقيام بما لابد من القيام به للصغير أو اليتيم أو الميت الذي لا ولي له وغير ذلك من الموارد التي يحتاج ملء الفراغ فيها إلى ولي يقوم مقام فاقد الأهلية في إجراء معاملاته ونفوذها.

وفي هذا الإطار تم البحث عن ثبوت ولاية للفقيه للقيام بهذه المهمة التي يفتقر إليها الذين فقدوا الأولياء والأهلية الشرعية لإتمام معاملاتهم الشخصية وليس للولاية عليهم في آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم واختياراتهم السياسية والحياتية الاخرى فضلا عن الولاية على غيرهم من واجدي الأهلية والشخصية الحقوقية الكاملة ولذلك قد استدل من قال بثبوت هذه الولاية الخاصة على خصوص الاشخاص الفاقدين للأهلية ببعض النصوص التي ورد فيها: «السلطان ولي من لا ولي له» أو «الحاكم ولي من لا ولي له».

والمقصود من كلمة الحاكم الواردة في تعبيرات الفقهاء كما جاء في تعريفها لشيخ الفقهاء والمجتهدين المحقق الانصاري ان:»الحاكم هو الفقيه الجامع لشرائط الفتوى». وليس المقصود بها الحاكمية السياسية وقد جاء في كلمات الفقهاء أن الفقيه هو ولي الغائب والصغير والذي لا ولي له وأنه ولي الممتنع عن أداء الحق والدين وما شاكل ذلك، وهذا يعني أن الولاية التي بحثوا عنها ليست ولاية على الناس عموما وإنما هي على تقدير ثبوتها ولاية على الذين لا أولياء لهم، والذين فقدوا الأهلية المعتبرة في نفوذ المعاملات لسبب من الأسباب المتقدمة ولا علاقة لهذه الولاية كما ترى بالولاية السياسية، بل هي بعيدة كل البعد عن عالم السياسة والسلطة والحكم ولذلك ترى أن الفقهاء الذين اثبتوا هذه الولاية وبحثوا عنها كانوا من الرافضين للمشروعات السياسية والولاية بمعنى السلطة السياسية، وفيهم القائلون بعدم جواز الخروج على الحاكم السياسي لاختصاص ذلك بالإمام المعصوم.

وبقي البحث عن ولاية الفقيه في هذا الإطار الفقهي المرتبط بالاحوال الشخصية القريبة من معنى الوصاية التي يتصدى لإثباتها وتفاصيلها القضاة الشرعيون اليوم في المحاكم الشرعية المختصة بالقضايا المسماة بالأحوال الشخصية كما تقدم وهي معزولة عن قضايا الفقه السياسي بالكلية. ويشهد لذلك أيضا ما عرفت أن البحث عن ولاية الفقيه جرى في سياق البحث عن ولاية الأبوين على الصغير وولاية عدول المؤمنين للقيام بتلك المهمة ولا علاقة للأمرين بالولاية السياسية كما لا يخفى.

وقفزت هذه المسألة العلمية الفقهية إلى واجهة البحث السياسي خارج الاجواء الفقهية المعهودة بعد وصول الامام الخميني إلى سدة الحكم في إيران باعتباره فقيها ومرجعا دينيا وقد استلزم وصوله إلى السلطة والحكم الكثير من التصرفات التي تجاوزت الولاية فيها حدود الولاية المعروفة والثابتة في الأحوال الشخصية إلى التصرف في الدماء والاموال وهي تصرفات تعتبر بحسب الذهنية العامة عند الشيعة وبحسب السائد الفقهي من صلاحيات النبي والإمام المعصوم أو المأذون من قبلهما، فالسعي للامساك بالسلطة السياسية الذي يؤدي إلى إزهاق النفوس وإتلاف الاموال ومصادرتها في عصر غيبة الإمام يحتاج إلى المبرر الشرعي المستند إلى أدلة شرعية من الكتاب والسنة.

(يتبع)

*مفتي صور وجبل عامل/ بيروت

العدد 1904 - الخميس 22 نوفمبر 2007م الموافق 12 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً